أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - عماد الطيب - وأد الإبداع في المدارس العراقية














المزيد.....

وأد الإبداع في المدارس العراقية


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8505 - 2025 / 10 / 24 - 09:49
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


يولد الطفل العراقي وهو يحمل في داخله بذور الإبداع الفطري، تلك الشرارة الأولى التي تميّزه عن غيره في الذكاء، والخيال، والقدرة على السؤال والابتكار. منذ لحظة وعيه الأولى يبدأ في طرح الأسئلة التي تعكس رغبة فطرية في الفهم والاكتشاف. غير أن هذه الجينات المولودة مع النور سرعان ما تُصاب بالذبول حين تدخل إلى منظومة التعليم العراقية، حيث تُقمع ملكة التفكير، ويُقتل السؤال، ويُكافأ الصمت بدل الفضول.
المدرسة، التي يُفترض أن تكون الحاضنة الأولى للإبداع، تحوّلت مع الأسف إلى مصنع لإنتاج النماذج المتشابهة، وإلى أداةٍ لتطويع العقول لا لتحريرها. المناهج الدراسية المترهلة، التي ما زالت تكرر مفردات من القرن الماضي، تمثل عبئًا على المتعلم لا نافذة على المستقبل. أما أسلوب التدريس، القائم على الحفظ والتلقين، فقد حوّل العملية التعليمية إلى طقوس جامدة، تقتل الخيال وتمنع الطالب من التفكير النقدي أو التعبير الحر.
إن ما يفاقم الأزمة هو غياب فلسفة تعليمية وطنية حديثة تضع الطفل في مركز العملية التربوية، وتمنحه حرية السؤال والاختلاف. المعلم – وهو العمود الفقري في التربية – غالباً ما يكون ضحية بدوره، إذ لم يُدرَّب على أساليب التفكير الإبداعي، ولم يُمنح الأدوات التي تُمكّنه من تحويل الدرس إلى تجربة معرفية حية. فيتحوّل الصف إلى قاعة استماع لا مختبر تجريب، ويغدو الطفل متلقياً سلبياً بدلاً من أن يكون مشاركاً فاعلاً في إنتاج المعرفة.
إن القهر التعليمي الذي يواجهه الطفل العراقي منذ المراحل الأولى يترك أثره العميق في تشكيل وعيه وشخصيته. فحين يُعاقب على السؤال أو يُسخر من أفكاره، يتعلم أن الصمت هو النجاة، وأن المألوف هو الأمان، فيتراجع عن الحلم، وينكمش إبداعه كما تنكمش زهرة حُرمت من الضوء. هكذا يتحول الطفل المبدع إلى إنسان عادي، يخشى المغامرة والتفكير المختلف، ويستسلم لنمطية تفرضها عليه المؤسسة التعليمية.
ما يحتاجه العراق اليوم ليس فقط تطوير المناهج، بل ثورة تربوية تعيد تعريف معنى التعليم نفسه. المطلوب أن نغرس في الطفل روح السؤال، ونُعلّمه كيف يفكر لا ماذا يفكر، وأن نمنحه بيئة تتيح له الخطأ والتجريب والمبادرة. فالإبداع لا يولد من الخوف ولا من القيد، بل من الحرية والثقة وتشجيع الخيال.
إن إصلاح التعليم في العراق ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية لبناء جيلٍ قادر على النهوض بوطنٍ أنهكته الحروب والأزمات. علينا أن نعيد الاعتبار للمدرسة كمنارةٍ لا كسجن، وكمنصة لإطلاق الطاقات لا كآلة لترويضها. فحين نعيد للطفل حقه في الإبداع، نعيد للوطن قدرته على الحياة.
فكم من مبدع ذكي خسره العراق ؟ . يصعب وضع رقم دقيق على عدد المبدعين الذين خنقتهم أنظمة التعليم النمطية، لكن يمكننا أن نتحدث بواقعية وصراحة: الأعداد ليست بالآحاد وإنما بالآلاف — بل ربما بالملايين إذا حسبنا أجيالاً كاملة ضاعت. ماذا نعني بذلك؟ نعني طلبة في كل صف دراسي، في كل قرية ومدينة، أطفال حملوا مواهب في الكتابة والرسم والرياضيات والهندسة والموسيقى والاختراع، لكنهم تلاشى شغفهم شيئًا فشيئًا أمام ثقافة تُمجّد الحفظ وتُعاقب الاختلاف.
تخيل صفًا فيه عشرون تلميذًا، سيبرز بينهما اثنان أو ثلاثة بأفكار غير تقليدية: طالب يُفكر بطريقة جديدة في حل مسألة رياضية، شاب لديه فكرة مشروع بسيط يمكن أن يغير سوقًا محليًا. في نظام صحي للتعليم، هذه الأنماط كانت ستُتحفز، وتتحول إلى مشاريع ومسرحيات واختراعات وشركات صغيرة . وربما إلى مساهمات علمية أو ثقافية كبيرة بعد سنوات. لكن في كثير من مدارسنا، هذه الشرارة إما تُجاهل أو تُسخر منها، فتتلاشى. إذا اعتبرنا أن فقط 5% من كل صف لديه بذرة مبدعة حقيقية، وأن النظام القمعي يُطفئ هذه البذور لدى 80–90% منهم قبل بلوغهم مرحلة اتخاذ القرار المهني، فالمحصلة خسارة جماعية هائلة . أجيال كاملة لم تتحول إمكانياتها إلى أعمال ملموسة تؤثر في المجتمع والاقتصاد والثقافة.
الخسارة ليست فقط إهدار طاقات فردية، بل خسارة موارد اجتماعية قابلة للتحويل إلى حلول لمشكلات يومية: خبرات في الزراعة تصنع مقاومة للجفاف، ابتكارات بسيطة في الطاقة تُخفف العبء عن أسر فقيرة، نصوص أدبية تفتح نافذة على وجدان مجتمعنا، أبحاث طبية قد تنقذ حياة. كل إبداع مكبوت هو فرصة لم تولد.
لذلك، عندما نتحدث عن إصلاح التعليم فإننا لا نتحدث فقط عن مناهج أو اختبارات، بل عن استعادة ملايين الفرص المهدرة . فرصٍ كان يمكن أن تُنتج مخترعين، فنانين، روّاد أعمال، علماء، وصنّاع تغيير اجتماعي. عددهم قد لا يُحصى، لكن أثر فقدانهم يقاس في تراجع الخبرة المحلية، فقْد المبادرات المجتمعية، وتباطؤ التحوّل الاقتصادي والثقافي.
خلاصة القول ان النمطية التعليمية لا تقتل مجرد أفكار عابرة، بل تقضي على أجيالٍ من الممكن أن تكون رأس حربة في نهضة وطنية. إنقاذ هذه الأجيال يبدأ بتغيير بسيط في الفلسفة التعليمية: أن نُعطي كل طفل فرصة أن يقول، يجرب، يخطئ، ويبتكر . فبذلك نعيد إلى الوطن ما سلبناه من طاقات وإمكانات.



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضمير المهنة وشرف الكلمة
- الوعود الزائفة… تجارة المواسم الانتخابية
- رماد الذاكرة
- قراءة نقدية في نص - رمزية العشق -
- أنا .. وأنتِ
- حين يخبو مصباح العمر
- كيف تصنع صحفيا ماهرا ..؟ !!
- خالد النبل والاخلاق
- تاريخ التحقيق الصحفي في العراق وكتابه .. النشأة والتطور
- ملاذ الأمين .. بين وهج الحرف وصدق الميدان
- قراءة
- شيخوخة
- ثلاثة أحلام ...
- ضفاف براءة وجسور محبة
- القطيعة بين الروح والجسد
- ياحاضرة الغياب ..
- سعد مبارك.. فنان العصور وبوصلة الذاكرة الجمالية
- حين يبكي الجبل ..!!
- مؤتمرات
- لماذا احبك ِ


المزيد.....




- شاهد كيف كرّم زعيم كوريا الشمالية قتلى جنوده الذين حاربوا إل ...
- فتح الأجواء الإفريقية.. فرصة استثمارية بمليارات الدولارات تت ...
- اجتماع دول -تحالف الراغبين- في لندن.. صواريخ بعيدة المدى لكي ...
- مقتل 25 شخصاً في حريق حافلة جنوب الهند إثر اصطدام دراجة ناري ...
- اعتقد السكان أنه مسلح فاستدعوا الشرطة.. إصابة جندي ألماني بع ...
- زوجة مروان البرغوثي تطلب من دونالد ترامب السعي لدى إسرائيل ل ...
- ماذا يعني فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية المحتلة؟ ...
- أوروبا تقر حزمة جديدة من العقوبات على روسيا
- انقطاع خوادم -إيه دبليو إس- يؤثر سلبا على الأسرّة الفارهة ال ...
- تعرف على مسار التوتر المتصاعد بين أميركا وفنزويلا


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - عماد الطيب - وأد الإبداع في المدارس العراقية