أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - حين يخبو مصباح العمر














المزيد.....

حين يخبو مصباح العمر


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8463 - 2025 / 9 / 12 - 21:27
المحور: الادب والفن
    


بين ألم الروح وألم الجسد، ثمة مساحة صغيرة أعيش فيها كأنها برزخ لا أنتمي فيه إلى الحياة ولا إلى الموت. كل وجع يطرق أبواب جسدي يجعلني أتوغل أكثر في صمتي، كأن الألم يصنع لي كهفاً سرياً ألوذ به من ضجيج العالم. أتعلم أن العزلة لا تبدأ حين نقرر الانسحاب، بل حين ينطفئ الشغف شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى لنا سبب نطلّ به على الحياة.
أجلس طويلاً مع نفسي، أحاورها بلا صوت، أفتش في داخلي عن بقايا نور يمكن أن يبدد هذا العتم الذي يتراكم في الروح. أشعر وكأنني أتحرك في دوائر ضيقة، كلما حاولت الفكاك من وجعي أعادتني الدائرة إلى نقطة البداية. أحياناً أتساءل: هل الألم هو طريقنا الوحيد لاكتشاف ذواتنا؟ أم أنه الجدار الذي يحجبنا عن كل جمال محتمل؟
أراقب العالم من بعيد، كأنني لست جزءاً منه. الأشياء التي كانت تبعث فيّ الحماسة صارت عادية، والوجوه التي كانت تثير فيّ البهجة صارت محايدة. الشغف الذي كان يوقظني كل صباح، صار غريباً عني، كأنه ضيف قديم غادر ولم يودعني.ومع ذلك، هناك في عمق هذا الصمت ومجاهل هذه العزلة، يتشكل شيء آخر: حساسية جديدة للحياة، ووعي مختلف بالموت. ربما هذا ما يفعله الألم بنا، يعيد تشكيلنا على نار هادئة حتى نصبح أكثر صدقاً مع أنفسنا.
أدرك أني لا أستطيع الهرب من جسدي، ولا من الحياة، ولا من حتمية الموت، لكني أستطيع أن أعيش هذا البرزخ بشيء من الشفافية، أن أجعل الألم نافذتي إلى ما هو أعمق. فربما حين يخبو الشغف، يولد شغف آخر أكثر نقاءً، شغف بالمعنى، بالبحث عن ذلك السر الذي يجعلنا نتمسك بالحياة رغم كل شيء.
لم تفرحني المواقف ولم تحزني؛ أمازح نفسي بلا صوت في حلقة من التوهان، كأن الزمن قد التهم ملامحي وأنزل بي إلى غرفةٍ لا نوافذ لها. لا أركض وراء السراب، ولا ألتفت لصدى الأفراح المعلبة؛ كل شيء صار مرسوماً بحبر باهت على جدارٍ قديم. البشريةُ من حولي تواصل ضجيجها المعتاد، لكنّني أعيش على هامشٍ لا يُرى: أراقبهم كما يراقب المرء كتابًا مفتوحًا لا يريد قراءته بعد.
التوهان هنا ليس ضياعًا فقط، بل هو مسيرة داخلية .حركة دائرية تعيدني إلى حيث بدأت، ومن ثم تباعدني عن الناس حتى أظنّ أنني أقسى عليهم باختياري الصمت. ليست العزلة قسوةً بقدر ما هي استعادة: أبحث عن ذاتٍ سرقت منها الحياةُ ألوانها، عن ذاتٍ نَبَتَتْ في طيات السنين ثم تلاشت. وبينما يدور العالم حول شغفه المتكرر، أكتشف أن طقس البحث عن الذات يحتاج إلى صبرٍ طويل، إلى زمنٍ يشبه الستين عاماً . ليس بالضرورة تاريخاً بل إحساساً مترسخاً لا يعرف الاستعجال.

ثمّة في داخلي ذاكرة قديمة؛ ليس ذاكرةً لأحداثٍ بعينها، بل إحساسٌ مخبأ يهمس باسمٍ لم يُنطق. حين أقول "ذاتٍ ضائعة منذ ستين عاماً" لا أعني عمرًا محددًا، بل ثقلَ زمنٍ جلَدَ الروحَ فأنقصها من ضوءها، فأصبحت تلك الذات كصورةٍ قديمة تُرى عبر زجاجٍ متربّ. الآن، في هذا الركن من الصمت، أجدها تلوحَ لي كأنها مفتاحٍ قديم على صندوق مستودع؛ أفتح الصندوق فأجد بداخله روائح وذكريات، أحلامًا لم تُكتمل، كلماتٍ لم تُقلّ، وابتساماتٍ ظلّت محبوسة.
لم تفرحني المواقف ولم تحزني لأن المشاعر تحولت إلى نبرةٍ واحدةٍ شبه ثابتة؛ لكن هذا الثبات لم يكن خمولًا كاملاً، بل كان استماعًا عميقًا. لقد صَغَتْ العزلةُ أذنيَّ على أصواتٍ نادرًا ما نسمعها في ضوضاء الحياة: أنفاسي، إيقاع قلبي حين يذكرني بأنه ما زال حيًّا، ومسافة الهواء بيني وبين الآخرين التي تكشف عن فراغاتٍ تحتاج إلى لُطَف.
في هذا البحث، لا أبحث عن خلاصٍ خارجيّ؛ بل عن صلةٍ صادقةٍ بيني وبين ذاتي. العثور على تلك الذات القديمة ليس تكرارًا لشبابٍ فات، بل لقاءٌ جديد. لقاء بين من كنتُ ومن أنا الآن. قد أعود أحمِل الشغف ولكن بصيغةٍ مختلفة: شغفٌ بالهامش، بشرف الكلام القليل، بابتسامةٍ لا تبتذلها المناسبة.
أحيانًا، يمرّ يومٌ بسيط يحمل معه لمحة من فرحٍ هادئ؛ قد تكون كلمةٍ طيبةٍ من غريب، أو منظرُ شجرةٍ تذكّرك بأن الحياة لا تزال تُزهر. وفي لحظاتٍ أخرى، يعود الصمت كجدارٍ من ليلٍ بارد. لكنّي تعلمت شيئًا واحدًا: أن الضياع ليس نهاية، بل بدايةُ استردادٍ بذوقٍ أعمق. ستّون عاماً أو لحظةً واحدة. الزمن هنا مقياس للشوق لا للحساب. وكلما جلستُ في صمتي الطويل، أدركت أني لست وحيدًا بقدر ما أنا في صحبةٍ ذاتٍ كانت تنتظرني طويلاً لأخبرها أنني عدت.
هيهات من عودة تلك الأحلام الوردية والطموح الكبير الذي كان يملأ رأسي ذات يوم، يرفعني إلى سماوات بعيدة ويجعلني أؤمن أن الحياة يمكن أن تكون لوحة من إنجازات ناصعة. اليوم، أقف على الضفة الأخرى من العمر كأنني أشاهد ذلك الحلم يلوّح لي من بعيد ثم يذوب في ضبابٍ كثيف، لا أستطيع اللحاق به ولا استعادة بريقه الأول.
أنطفئ ببطء، كأنني مصباح قديم يتراجع ضوءه شيئاً فشيئاً. لم يعد اللهيب صافياً كما كان، ولم تعد أشعة الضوء قادرة على أن تملأ المكان دفعة واحدة. ومع ذلك، فإن هذا الخفوت ليس موتاً كاملاً، بل تحوّلٌ هادئ إلى حالة أخرى من الوعي؛ حالةٍ أكثر نضجاً وأقل ضجيجاً.

في زمن الطموح، كنت أظن أن القيمة في أن أكون شيئاً يصفّق له العالم، أن أبلغ قمة تجعل الآخرين يرونني من بعيد. أما الآن، وأنا أرى المصباح يخفت، صرت أدرك أن القيمة الحقيقية قد تكمن في لحظة صفاء مع نفسي، في كلمة صادقة لا يسمعها أحد، في فعل صغير يضيء قلب إنسان آخر ولو للحظة.
الخبوّ الذي أشعر به لا يخيفني بقدر ما يدفعني للتأمل. ربما كان لا بد من هذا الانطفاء الجزئي لأتخلص من وهم القوة المطلقة، لأتعلم أن الإنسان ليس مجرد وهجٍ خارجي بل شعلة داخلية تتغير ألوانها مع الزمن.
الآن أترك لنفسي فرصة النظر إلى الماضي دون حسرةٍ مفرطة، وإلى المستقبل دون وهم كبير. فالمصباح الذي يخفت قد يظلّ يعطي ضوءاً خافتاً يكفي لطريق صغير، يكفي لخطوة واحدة في الظلام. وهذا وحده أحياناً يكفي لأن نعرف أننا ما زلنا أحياء، وأننا ما زلنا قادرين على أن نصنع معنى، حتى لو لم نعد قادرين على إضاءة العالم كله كما حلمنا يوماً.



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف تصنع صحفيا ماهرا ..؟ !!
- خالد النبل والاخلاق
- تاريخ التحقيق الصحفي في العراق وكتابه .. النشأة والتطور
- ملاذ الأمين .. بين وهج الحرف وصدق الميدان
- قراءة
- شيخوخة
- ثلاثة أحلام ...
- ضفاف براءة وجسور محبة
- القطيعة بين الروح والجسد
- ياحاضرة الغياب ..
- سعد مبارك.. فنان العصور وبوصلة الذاكرة الجمالية
- حين يبكي الجبل ..!!
- مؤتمرات
- لماذا احبك ِ
- حين أقول أحبك
- عبث البقاء
- أين أنت ...؟!!
- صوتك اغنية عشقية
- سطر على هامش التاريخ
- أيها المسافر... ارجع


المزيد.....




- يُرجح أنه هجوم إيراني.. عشرات الممثلين الإسرائيليين يقعون ضح ...
- غزة... حين تعلو نغمات الموسيقى على دوي الانفجارات والرصاص
- غزة: الموسيقى ملاذ الشباب الفلسطيني وسط أجواء الحرب والدمار ...
- سياسي من ديمقراطيي السويد يريد إيقاف مسرحية في مالمو – ”تساه ...
- وزير الثقافة الإيراني: سيتم إعداد فهرس المخطوطات الفارسية في ...
- رشيد حموني يساءل السيد وزير الشباب والثقافة والتواصل حول أدو ...
- -الحياد ليس خيارا-: لماذا يتحدث عدد كبير من الفنانين الآن عن ...
- فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب يطالب بعقد اجتماع للجنة ...
- نادية سعد الدين: الفكر الفلسفي يرفد شبابنا بسلاح العقل
- وَهبُ الذي وهبَ سفن المعنى ضوءا في مرافئ الأدب والنقد


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - حين يخبو مصباح العمر