أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - السفرة المؤجَّلة: أزمنة لا تموت














المزيد.....

السفرة المؤجَّلة: أزمنة لا تموت


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8494 - 2025 / 10 / 13 - 18:15
المحور: قضايا ثقافية
    


سألني صديقٌ يومًا: لِمَ تكثر من التذكّر هذه الأيام، وأنت على أبواب عقدك الثمانيني؟
صمتُّ في نفسي هامسًا: ليست الذاكرة صندوقًا للماضي، بل كائنٌ حيّ يسكننا، يتنفس ويختنق ويشيخ معنا.

لقد أدرك فرويد باكرًا أن الذكرى ليست حدثًا انقضى، بل جرحًا لم يُروَى بعد. فالنفس لا تمرض من حاضرها، بقدر ما تُصاب من صمتها الطويل عن ماضيها. هناك جروحٌ لا تنزف دمًا، بل تتكلم بأعراضٍ، في الجسد أو في الحلم أو في تكرارٍ لا إراديّ للمشهد ذاته، كما لو أن الذكرى تطلب اعترافًا مؤجَّلًا لتُشفى.

قال فرويد في إحدى عباراته الخالدة: “الهيستيريا تعاني من الذكريات.” فالإنسان إذ ينسى قسرًا، لا ينجو من ماضيه، بل يحمله في أعماقه كصدى خافتٍ يبحث عن صوت. إن ما لا يُقال، يعود فعلاً وما لا يُتذكّر، يُعاد تمثيله على مسرح الحياة.

ثم جاء جاك لاكان، الفيلسوف والمحلل النفسي الفرنسي (1901–1981)، ليُعيد قراءة فرويد بلغةٍ فلسفية ولسانية عميقة، جعلت التحليل النفسي يتخذ بعدًا بنيويًا وسيميائيًا جديدًا.
حيث حَوّل جاك لاكان الذكرى إلى سؤالٍ في اللغة ذاتها: فالإنسان عنده ليس من يتذكّر، بل من يتكلّم. وحين تفقد اللغة قدرتها على الإحاطة بالجُرح، يظهر المرض بوصفه لغةً بديلة، جسدًا يتكلم بدلًا عن الوعي.
الذاكرة المريضة عند لاكان هي ثغرة في السرد؛ كلمة سقطت من نصّ الذات ولم تجد تأويلها بعد. فما لم يُرمَّز في اللغة، يعود في صورة اضطرابٍ في المعنى.

وفي الأفق الأخلاقي للذاكرة، يضع بول ريكور يده على ما هو أعمق من النفس: ذاكرة الجماعة.
فالمرض هنا لا يخصّ الفرد وحده، بل الشعوب أيضًا، حين ترفض أن تروي ماضيها أو أن تمنحه معنى جديدًا.
فالأمم مثل الأفراد، تمرض من ذكرياتها التي لم تُغفر بعد. ولا يُشفى التاريخ بالنسيان، بل بالتأويل؛ إذ يصبح السرد نفسه فعلَ شفاءٍ وتحرير.
اذ يُعدّ الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (Paul Ricœur) (2005–1913) من كبار فلاسفة القرن العشرين، وأحد أبرز ممثلي الفلسفة التأويلية (الهرمنيوطيقا) الحديثة ، والذي جمع في مشروعه الفكري بين الظاهريات (الفينومينولوجيا) والهرمنيوطيقا والفلسفة الأخلاقية والسياسية، فكان من القلائل الذين سعوا إلى المصالحة بين التفسير والتأمل، وبين التحليل والتأويل.

وهكذا، ومع اتساع الجدل الفلسفي، لا نبرأ من الذاكرة إلا حين نمنحها لغة.
فالذي لا يُقال يظلّ يحرس ألمه في العتمة، والذي يُروى يتحوّل إلى معرفة.
وربما كان أعمق علاجٍ للذاكرة المريضة هو أن نحكيها كما هي: لا لنستعيد الماضي، بل لنفهم لماذا بقي فينا. فالماضي لا يُدفن، بل يُعاد تأويله في الحاضر، كي لا يواصل مرضه فينا بأسماءٍ أخرى.

من هنا تبدأ سجالات الذاكرة.
حين سألني صديقي لتوّه: ما أكثر ذكريات شبابك إثارة؟
أجبته بهدوءٍ كمن يزيح الغبار عن مرآة قديمة:

(السفرة المؤجَّلة)

سألني: وما هي؟
اجبته: كان عليَّ أن أحضر مؤتمرًا لخبراء المصارف المركزية لبلدان العالم الثالث في بلغراد، منتصف سبعينيات القرن الماضي. كنتُ في العشرينات، تواقًا إلى السفر، أحلم بركوب الطائرة للمرة الأولى، وبأن أصل إلى عاصمة أوروبية لأشارك في جولة فكرية مع خبراء من عالمنا الثالث في فضاءٍ منفتح على أسئلة التنمية والاقتصاد والمال .

كانت فرحتي عظيمة، وأنا أنتظر يوم السفر ،
لكن حين اقترب الموعد، علمتُ أن قوى بيروقراطية أعلى مني حظًا قد خطفت الرحلة.
وبعد أيام، قيل لي إن المؤتمر أُجّل إلى الأسبوع القادم! فجلستُ على طاولتي وقلتُ في نفسي: لقد خُطفت الرحلة مرتين، والعدالة لا تُسافر!

ابتسمت زميلتي التي كانت تجلس قبالتي، وقالت بصوتٍ بغداديّ رخيمٍ يحمل عزاء التجارب:
“أيها الزميل الصادق، ما تعرّفتُ على إنسانٍ منذ الروضة وحتى الجامعة، إلا وكتب له السفر طيلة حياته!”

عَلِقت كلماتها في ذاكرتي، كجملةٍ نبوئيةٍ لم تفقد حرارتها.
ولم تمضِ أشهرٌ قليلة حتى بدأت أولى أسفاري إلى بلاد الجنوب الإفريقي، لتتوالى بعدها الرحلات والاغترابات والدراسات والمؤتمرات، حتى غدت تلك النبوءة عنوانًا لرحلة عمرٍ طويل: قصة الأسفار التي لا تنقطع.

تذكرتُ ذلك قبل أيام، حين طُلب مني السفر إلى مؤتمرٍ علمي في بلدٍ مجاور.
من هنا، أقفلتُ النبوءة في صندوق الذكريات، وقلتُ في نفسي: كفى، فعالمي اليوم يسكن في بلادي.

ومع ذلك، ما زلت أردد في داخلي: الأزمنة لا تموت.
فلعل الزمن، في جوهره، ليس ما يمضي، بل ما يبقى فينا.
إننا لا نحمل ساعاتنا فحسب، بل نحمل جراحها الصغيرة؛ لحظاتٍ لم تكتمل، أصواتًا لم تُقال، نظراتٍ تأخرت عن الوداع.
هكذا يعيش الزمن فينا كما تعيش الذاكرة في جسدها: مريضًا حين يُكتم، وسليمًا حين يُروى.

فالذاكرة التي تمرض، هي نفسها التي تخلق المعنى.
إذ لا يُشفى الإنسان من ماضيه، بل يتصالح معه، ويواصل الطريق كمن يعبر أزمنة لا تموت.

فالذاكرة ليست ألبوم صورٍ للماضي، بل كائنٌ يسكننا، يختزن ما لم يُحكى، ويعيده في هيئة وجعٍ أو حلمٍ أو عرضٍ صامت.
لقد أدرك فرويد حقا أن الإنسان لا يمرض من الحاضر، بل من ذكرى لم تُروَى بعد.
أما لاكان فوسّع المعنى، فرأى أن ما لا يُقال لا يختفي، بل يعود في شكل خللٍ في اللغة والمعنى.
ثم جاء بول ريكور ليذكّرنا بأن الشعوب أيضًا تمرض من ذاكرتها حين تعجز عن سردها أو غفرانها.

وهكذا، لا شفاء من الذاكرة إلا بأن تُقال، لأن ما لا يُروى يبقى فينا، يتخفّى بأسماءٍ أخرى، ويواصل مرضه في صمت.

انتهى.



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحت ظلال شجرة النارنج: مدرسة زهاء حديد في بغداد
- جدلية الظل والمصالحة مع الذات : القرين الخفي مرآة ديستوفسكي ...
- بكاء الأمهات على بوابة سجن متخلف..
- البنادق مقابل اللوبستر البحري: مقاربة في الاقتصاد السياسي لم ...
- وزارة الخزانة الأميركية .. قوة إمبراطورية وأسطورة ورقة نقدية ...
- تأميم المصنع الوطني: التاريخ الذي أحزن والدي
- ربطة العنق: متلازمة التعليم والأناقة في بغداد
- حرب السويس تشتعل… وخالتي تبحث عن ابنها
- حكاية خبز .. بين أمستردام ومدينتي
- جون تايلور في بغداد: حين التقت السياسة النقدية بجنرالات اللي ...
- نزار قباني على رصيف الذكرى… ليتني لم أره فرحًا
- مؤتمر باندونغ: يوم هزّ عرش طفولتي
- الحانة الويلزية: ملتقى التاريخ الجامعي والتراث الفيكتوري
- ساعة اليد المتواضعة: الزمن مرآت للطبقات
- زيمبابوي : درس في الانكسارات الاقتصادية
- راس المال الرمزي تحت جدران المدينة المحرمة.
- الصدمة الثقافية: جوهر الانسان و وهم الاختلاف
- دموع الذكريات على سفوح الجبال
- الهوية واللغة والطبقة الاجتماعية: بين ويليام لابوف وإبراهيم ...
- قصابون من نوع آخر..! من دفاتر مفاوضات اقتصادية في لندن …إنه ...


المزيد.....




- منهم ميلوني والسوداني.. حوارات -طريفة- لترامب مع زعماء خلال ...
- قوات إسرائيلية تطلق غازًا مسيلًا للدموع على صحفيين أثناء تغط ...
- تونس: مطالب بتفكيك مجمع كيميائي في قابس وسط استمرار الاحتجاج ...
- عاجل | فحوى الوثيقة التي وقعها الوسطاء في شرم الشيخ: ندعم جه ...
- غزة بعد الاتفاق مباشر.. اختتام قمة شرم الشيخ والاحتلال يقتحم ...
- أمير قطر: سعداء بنتائج قمة شرم الشيخ الإيجابية
- بالتفصيل.. هذا ما تضمنته وثيقة -اتفاق غزة- للسلام
- عرض مبهر لـ -Anyma- في مصر وانطلاق موسم الرياض.. الأبرز في أ ...
- مصر تتحرك لتعويض فجوة الطاقة.. والسيسي يلتقي ممثلي -أباتشي- ...
- بعد إدانته في قضية التمويل الليبي.. ساركوزي إلى السجن في 21 ...


المزيد.....

- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - السفرة المؤجَّلة: أزمنة لا تموت