مظهر محمد صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 23:47
المحور:
قضايا ثقافية
في الأرياف الباردة التي تحتضن أطراف أمستردام ، حيث الشتاء يتنفس من بين الأغصان العارية قبل أن يحل عيد الميلاد، كانت رحلتي أشبه بعبور صامت في لوحة من لوحات العصر الذهبي الهولندي.
مروج خضراء، ترعى فيها أبقار بيضاء وسوداء، واقفة في هدوء يشبه التأمل… لا شيء يعكر صفو الطبيعة سوى حركة خفيفة للرياح التي تحمل في طياتها سيرة الماء والطحين.
وهناك، عند ضفةٍ هادئة، وقفتُ أمام طاحونة هوائية عملاقة، لم تعد تطحن القمح كما كانت، بل باتت متحفًا يروي حكاية شعب، حكاية خبز، حكاية ريح.
طاحونةٌ كانت تدور بأذرعها في احتفال دائم مع الهواء، تولد الطاقة من اللاشيء، وتحوّل الريح إلى حياة، وإلى دقيق، وإلى خبز على موائد الفقراء والنبلاء على حدّ سواء.
في داخل المتحف، كان الشرح مفصلًا، ممتعًا… كيف استطاعت هولندا أن تكتب فصلًا فريدًا في كتاب الحضارة ، حين عقدت صلحًا مع الرياح، وجعلتها تدور لا لتُثير الغبار، بل لتصنع الدقيق، وتخبز به رغيفًا هولنديًا يحمل طعم التاريخ.
لكن بينما كنت هناك، في قلب أوروبا، بين الصمت والبرد، امتدت يدٌ خفية من داخلي، وسحبتني برفق إلى سبعين عامًا مضت…
إلى مدينتي، إلى العراق، إلى طفولتي.
رأيتُ الحمّال ، يجرّ كيس القمح على كتفه إلى مطحنة المدينة، تلك التي لم تعرف الرياح، بل اشتعلت بوقود الديزل وهدير المحركات الثقيلة.
كنتُ أنتظر عودته بالكيس المملوء طحينًا، بينما تستعد والدتي، “سيدة الخبز”، لتبدأ طقوس صناعة الخبز العراقي: تنور، نار، طحين، ماء، ويدان تباركهما التجربة.
لكن ما لا ينسى من ذاك الزمن، هو “مهمتي الصعبة” في جمع نفايات الحنطة، تلك القشور التي تختلط بتراب الرافدين، والتي كانت أمي تستخدمها بعناية لتنظيف الصحون وقدور الطبخ.
لم يكن هناك سائل جلي، ولا إسفنجة صناعية… كان هناك فقط تراب الوطن، ونخالة الحنطة، وقلبٌ يعرف معنى النظافة قبل أن تُكتب في الكتب.
حين أتناول يومها رغيفًا من خبز أمي، لا يسعني إلا أن أتأمل الصحن الفارغ أمامي، وأفكر:
هذا الإناء سيُغسل بطين بلادي، بطحينها، برائحتها…
نفايات القمح تلك، لم تكن نفايات، بل جزء من دورة الحياة، تدوير حقيقي للثروة، قبل أن يصبح “الاقتصاد الأخضر” مادة للمؤتمرات.
فكما أن لهولندا طاحونة الريح، التي عملت بذكاء الهواء، لنا في الرافدين مطحنة الديزل، التي عملت بعرق الناس وحرارة المحرك.
كلاهما صنع خبزًا…
لكن رائحة الخبز تختلف باختلاف التراب..
#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟