أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - مدينةٌ تخفت في جلابيبها.














المزيد.....

مدينةٌ تخفت في جلابيبها.


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 18:11
المحور: قضايا ثقافية
    


لم تكن مدينتنا يومًا إلا مرآةً لنفسها ،
تتزيّنُ بالوضوح، وتفاخر بأهلها، وتضعُ هويتها في متناول المارّة مثل راية لا تخجل من الريح. كانت بغداد، كما عرفناها في حيّ الشماسية قبل أكثر من سبعة عقود، مدينةً تُعرّف ساكنيها بالأسماء والمهن، لا بالأقنعة ولا بالعناوين المموّهة. كان المارُّ يعرف أن هذا بيت المحامي، وذاك للأستاذ الجامعي، وثالث لعائلةٍ يمتد نسبها في ذاكرة المدينة كما يمتد النخيل في أرضها.

في تلك الأزمنة، كانت المهنة وسيلة تعريف لا وسيلة تخفٍ ، وكان الصوت واضحًا، والعلاقة بين البيت والشارع تقوم على الثقة أكثر من التحوّط. لم تكن الأبواب تُقفل بإحكام، ولم تكن الحيطان تتجسس على المارّة، بل كانت تنظر إليهم كما ينظر الأهل إلى ضيوفٍ مألوفين.

لكن شيئًا ما انكسر.

لم يكن الزلزال لحظة واحدة، بل سلسلةٌ من الهزات، سياسية وعسكرية ونفسية، راحت تنخر جدران الطمأنينة بهدوءٍ خبيث.
وحين عدتُ بعد سنواتٍ طويلة من الدراسة، لم أجد بيتنا كما كان. لم أجد لوحة الاسم ولا جرس الباب. كانت الأسلاك عارية، والمكان كله كأنه يتحدث بلغة الخوف. سألتُ شقيقي عن سبب اختفاء اللوحة، فأجابني بكلماتٍ تحمل وجع جيلٍ كامل:

“أخفيتُ كل ما يمكن أن يفتح علينا باب الزجّ في الحروب… في الموت المجاني.”

منذ ذلك اليوم، صار الحيّ يرتدي جلابيب التخفّي. صارت الأبواب تُفتح فقط لمن يعرف الرمز أو يملك رقم الهاتف. صار الجرس أداةً قديمة، وحلّت الكاميرات مكان العيون. أصبح الناس غرباء في أحيائهم، يتبادلون الحذر لا السلام.

ورغم هذا الخفوت، ظل هناك صوتٌ لم يخفت: الباعة المتجولون ، أولئك الذين يعلنون وجودهم في المدينة منذ عقود، عادوا ليخترقوا الصمت، لكن بأدواتٍ جديدة. باتت سيارات الغاز تعزف “موزارت”، وكأنها تبيع الفن مع الأسطوانة. وصارت صفارات الحاويات تفجر صخبًا لا يشبه إلا حربًا مؤجلة. حتى النفايات صارت تُجمع بصوتٍ أعلى من صوت الحياة.

هذه المفارقة الساخرة تختصر ما آلت إليه المدينة: أن تنكمشَ تحت جلدها، أن تستعيض عن دفء المجتمع بحرارة الأجهزة، أن تستبدل الهوية بالخوف.

في حارتنا اليوم، لم يعُد الاسم يكتب على الباب ، بات يُهمَسُ به، وأصبحت المدينة التي كانت تستعرض طبقاتها المهنية بثقة، تتوارى في جلابيبٍ من الحذر والاحتراز، كأنها تتعثر في ذاكرتها، تبحث عن نفسها، ولا تجدها إلا في بقايا دفاتر قديمة.

لقد خفتت مدينتنا، لا لأنها انهارت، بل لأنها اختارت الصمت بدل الصراخ، التخفي بدل الظهور. وربما يكون هذا الخفوت صرخةً من نوع آخر: صرخة مدينةٍ تحاول أن تنجو بهويتها، ولو على هيئة ظلّ.



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سان فرانسيسكو: قوة تكنوقراط ناصحة !
- في الطريق إلى هوليوود: مفارقات لا تنتهي
- الحادي والعشرون من ديسمبر… النور الذي يسبق العاصفة
- المثقف المشرقي على مصفوفة الوحدة : بين ألتوسير وفوكو ودريدا
- الصين وحساسية الدولة العظمى: قوة ناعمة على مائدة الدولة
- شحاذ رقمي تحت الراية الحمراء
- أمُّ العراق… الكوت والجنة تحت قدميها!
- توازن السوق بإشارة سالبة؟ مشادة أكاديمية صامتة!!
- من عصر الفوانيس إلى الطاقة الشمسية: جدل لا ينتهي
- الكرسي المكسور: ذكريات في عالم البيروقراطية الإدارية
- الرهان على الخير في زمن اللايقين
- تدوير النفايات: بين هموم العلماء ومعاناة الفقراء
- ما بين مطرقة الحياة وسندان الغربة: عواطف تحت الثلج
- من تماثيل بوذا إلى رايات هتلر: الصليب المعكوف بين النور والظ ...
- كربلاء: فلسفة التضحية ومنهج الإصلاح في مواجهة الاستبداد
- في تظافر العلوم… تنهض الأمم
- سيدة الجنوب الاولى ومحراب الحسين: دموع لا تموت…!
- في بلد نفطي : أمة تغفو… وسحلية تستيقظ
- الجغرافيا السياسية تحسم الانتصار: من حروب الأرض إلى معركة ال ...
- حوار الطالب وعامل النظافة : كرامة تلامس البحر


المزيد.....




- رصدتها كاميرا بتقنية الفاصل الزمني.. حريق سريع الانتشار يشتع ...
- ما الذي يحدث في مدينة الفاشر السودانية؟
- هل يسمح حزب الله للحكومة اللبنانية بحسم ملف السيادة لصالح ال ...
- رفض دولي لخطة إسرائيل للسيطرة على مدينة غزة
- نائب الرئيس الأمريكي يؤكد عدم وجود خطط لدى واشنطن للاعتراف ب ...
- هآرتس: الصمت أمام كابوس غزة استسلام
- خبير عسكري: هذا خيار المقاومة بعد إقرار احتلال غزة
- لماذا يحذر الخبراء من خطة نتنياهو احتلال كامل لقطاع غزة؟
- تقرير يكشف آثار حرب الإبادة بغزة على الرياضيين الإسرائيليين ...
- رسوم ترامب تدفع الهند لوقف صفقة أسلحة أميركية


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - مدينةٌ تخفت في جلابيبها.