أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مظهر محمد صالح - من تماثيل بوذا إلى رايات هتلر: الصليب المعكوف بين النور والظلام















المزيد.....

من تماثيل بوذا إلى رايات هتلر: الصليب المعكوف بين النور والظلام


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8397 - 2025 / 7 / 8 - 00:40
المحور: الادب والفن
    


في يوم خريفي تلبدت فيه سماء بكين بالغيوم، غمرتني تلك القطرات القليلة من المطر وكأنها تهدئة صامتة لمسار رحلة روحية بدأت بسؤال وانتهت بدهشة.
مدينة بكين، بكل ما تختزنه من تاريخ وعقلانية، لا تتوقف عن البحث عن الحكمة وصرامة العمل، كما لم تتوقف يومًا عن مزج روحانياتها القديمة مع واقعها الحديث.

كانت وجهتي إلى معبد لاما البوذي – أو معبد يونغخه كما يُعرف رسميًا ، وهو من أشهر المعابد البوذية التبتية في الصين، يقع في الجزء الشمالي الشرقي من العاصمة، شاهقًا بهيبته المعمارية وبُعده الروحي العميق.

هنا في هذا المكان الذي تأسس في العام 1694 كقصر ملكي للأمير يونغ، ثم تحوّل لاحقًا إلى معبد لاماوي في العام 1744، تلمّست حضور التاريخ البوذي في أزمنة التبدلات الكبرى ، فالمعبد نجا من طوفان الثورة الثقافية الصينية (1966–1976)، تلك التي طالت المعابد والرموز الدينية بلا هوادة، لكنه بقي قائمًا بفضل حماية غير معلنة من رئيس الوزراء الراحل شو إن لاي. وأُعيد افتتاحه عام 1981 مع انطلاقة سياسة الإصلاح والانفتاح، ليصبح معلمًا دينيًا وسياحيًا، ومركزًا حيًّا للبوذية التبتية في قلب الصين.

لكن ما شدّ نظري، وسط روعة الزخارف وعلو الأعمدة، لم يكن فقط تمثال مايتريا الخشبي العملاق المنحوت من قطعة واحدة من خشب الصندل، بل ذلك الرمز الصغير المنقوش على صدر بوذا: الصليب المعكوف – السواستيكا (卍).
انه الرمز الذي لطالما ارتبط في ذاكرتنا الحديثة بالكراهية والفاشية والنازية. كيف يمكن أن يُوضع على صدر من يُجسّد الرحمة والسكينة؟ وهنا انبثق السؤال الكبير: كيف انتقل رمز النور في اقصى الشرق إلى شعار الظلام في الغرب؟

لقد كان الصليب المعكوف منذ آلاف السنين رمزًا للانسجام الكوني في البوذية، وطاقة الحياة في الهندوسية، والنقاء الروحي في الصينية. يرمز إلى الشمس، إلى الخير، إلى الدائرة المستمرة للوجود. لكن الغرب، ومع صعود الأيديولوجيات المتطرفة في القرن العشرين، شهد اختطاف هذا الرمز من قبل الحزب النازي، حيث قُلب باتجاه عكسي (卐) ووُضع على خلفية حمراء ليصير شعارًا للعنصرية والدمار.

وبينما انهار الرايخ الثالث النازي بعد أن جرّ العالم إلى حرب مدمرة، ظلّ الرمز حيًّا في معابد الشرق، يواصل التعبير عن الحكمة والسكينة.

في قاعة التأمل في معبد لاما، رأيت عشرات الشباب الصينيين من طلاب المدارس يتقاطرون إلى تمثال مايتريا، يقدّمون البخور، يلمسون الأرض بجباههم، يتهامسون بالدعاء. سألت مرافق المعبد عن سر هذا التجمّع الشاب. فأجابني: إنهم يتبركون بطلب النجاح في امتحانات القبول الجامعي، انها أحد أصعب التحديات في حياة الطالب الصيني.
تأملت طويلًا… كيف أن أمة بعقلانية الصين وقوتها العلمية، ما زالت تلجأ إلى الروحانية والتأمل والدعاء عند مفترق الطرق. وكيف أن رمزًا صغيرًا، مثبّتًا على صدر تمثال، ظل يحمل معاني الخير في قلوب الملايين، رغم ما لحق به من تشويه أيديولوجي عبر التاريخ.

تجوّلتُ في أرجاء المعبد قبل الظهر، في وقتٍ بدأ مئات الزوار يتدفّقون من مختلف أنحاء الصين والعالم، من الباحثين عن الروحانية أو المهتمين بالثقافة الصينية. إذ يُعدّ معبد لاما مركزًا بارزًا للبوذية التبتية، ويديره رهبان لاماويون بحضورٍ روحي مهيب.

وعند الظهيرة، شارك المتعبدون مع الرهبان في طقوس منتصف النهار. لفتني طقسٌ مدهش لم أره من قبل: الدوران حول المعابد أو ما يُعرف بـ “كورا” (Kora/Circumambulation)، حيث يمشي الزوّار باتجاه عقارب الساعة، حاملين المسبحات أو مرددين تعاليم بوذا، في تأملٍ نشِط يُجسّد فكرة التطهير الروحي.
وكان من بين الطقوس الأخرى إشعال البخور، وتقدّم الرهبان لمسح رؤوس الشباب من طلاب الصين المقبلين على امتحان القبول الجامعي، كأنما يمنحونهم بركة لعبور أحد أشدّ الاختبارات صعوبة في العالم. وشاهدت أيضًا طقسًا آخر يُعرف بـ “إضاءة مصابيح الزبدة”، وهي شموع نباتية ترمز إلى النور الداخلي والتنوير، تُوقد تبجيلاً واستنارة.
بل وقيل لي – مما أدهشني – إن من أشد طقوسهم غرابة أن توضع علبة خشبية على رأس الكاهن، وتُضرَب برفق حتى يُقال إن “الحكمة تخرج من رأسه”، في رمزية تجمع بين الفكاهة والتجريد الروحي.

وأثناء تجوالي الممتع في المعبد المتعدد القاعات ، صادفت تمثالًا خشبيًا متوسط الحجم لبوذا في أحد أركان المتحف، فلفت نظري مرة اخرى ذلك الرمز الصغير المعكوف على صدر التمثال. توقّفت فجأة ، إنه الصليب النازي المعكوف ، أو ما يُعرف في السنسكريتية بـ “السواستيكا (Swastika)”. لقد اندهشت، فأنا أعرف هذا الرمز من سياقٍ مختلف تمامًا… انه من رايات النازية، لا من صدور بوذا.

تملّكني الفضول مرة اخرى ، فسألت أحد الكهنة المشرفين:
ما العلاقة بين الصليب المعكوف البوذي، وشعار النازية المعروف؟
أجابني الكاهن بابتسامة سمحة :

“الصليب المعكوف الذي تراه هنا هو رمز للخير، والحظ، والازدهار ، وهو أقدم من النازية بآلاف السنين ، استخدمته الحضارات الكبرى في الهند، والصين، واليونان، وحتى أوروبا القديمة. وهو يُرسم( باتجاه عقارب الساعة) ويرمز إلى البركة الكونية والشمس والدورة الطبيعية للحياة.”
وهنا أذهلني الارتباط بين الرمز واتجاه الدوران. فطقس “كورا” الذي شاهدته قبل قليل من أولئك الشباب الطلبة يقوم على الدوران مع عقارب الساعة، تمامًا كما هو اتجاه السواستيكا البوذية… وكأن الزمن هنا يدور بانسجام مع الكون، لا عكسه.
أما في الغرب النازي ، فقد انقلبت الصورة ، ففي بدايات القرن العشرين، ظهرت نظريات عنصرية في أوروبا تدّعي أن الألمان ينحدرون من “العرق الآري النقي”. فتبنّى هتلر هذه الأطروحات الزائفة، وتعمّق في الرموز الشرقية بحثًا عن “دليل عرقي” وهناك، في معابد الهند، وجد السواستيكا.
لكن بدلاً من تبنّيها كرمز للتنوير، قلَب اتجاهها عكس عقارب الساعة (卐)، وألبسها الأسود، ووضعها داخل دائرة بيضاء على خلفية حمراء… وهكذا، تحوّل رمز النور إلى شعار للكراهية.
قال هتلر في كتابه كفاحي (Mein Kampf) إن السواستيكا تمثل “انتصار الإنسان الآري”، وربطها بالقوة العسكرية والنقاء العرقي، مدّعيًا أنها شعار للمستقبل.
فكّرت طويلًا… كيف يمكن أن يدور شعب بأكمله عكس الزمن، ضد النور، فينزلق نحو الفاشية والانهيار؟
وبالمقابل، كيف استطاع الشرق أن يحتفظ بالمعنى الأصلي للرمز، وأن يجعل من تماثيل بوذا محاريب للنور، ومن السواستيكا ختمًا للسكينة؟
في تلك اللحظة، شعرت أن الصراع بين البوذية والنازية ليس صراع رموز فقط، بل صراع رؤيتين للعالم:
الأولى: تؤمن بأن الحكمة تُولد من الداخل، وأن الزمن صديق الإنسان.
و الثانية: ترى القوة هدفًا، وترى في الرمز أداة للهيمنة.
ختامًا… بين دوران الطلاب حول معابدهم وصليبهم المعكوف باتجاه عقارب الساعة، وبين دوران النازية ضد الزمن ، عكس عقارب الساعة، ونحو الخراب، انتصرت السواستيكا البوذية، لا بالسلاح، بل بالمعنى.
وهكذا نهضت الأمة الصينية بالدوران مع عقارب الحياة، حيث تشرق الشمس، وتولد طاقات الشعوب الإيجابية في النجاح والتفوق والسلام.
إنها الصين… أمة تسير بهدوء، ولكن دائمًا نحو الضوء.
وهكذا، يمكننا القول إن الصراع حول الصليب المعكوف لم يكن بين الشرق والغرب، بل كان بين المعنى والسلطة، بين الرمز كأداة للسلام والشعار كسلاح للحرب.

لقد انتصرت البوذية على النازية ، لا في ساحة المعركة، بل في ساحة المعنى. فبينما انهار الرايخ، بقي الرمز، وظلّ يشعّ من على صدور بوذا، ليذكّرنا أن النور لا يُطفأ بسهولة .



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كربلاء: فلسفة التضحية ومنهج الإصلاح في مواجهة الاستبداد
- في تظافر العلوم… تنهض الأمم
- سيدة الجنوب الاولى ومحراب الحسين: دموع لا تموت…!
- في بلد نفطي : أمة تغفو… وسحلية تستيقظ
- الجغرافيا السياسية تحسم الانتصار: من حروب الأرض إلى معركة ال ...
- حوار الطالب وعامل النظافة : كرامة تلامس البحر
- الحي 798: ركيزة العاصمة بكين في الاقتصاد البنفسجي
- وضعت الحرب أوزارها على سجادةٍ إيرانيةٍ شديدةِ التوهج : سردية ...
- شلالات فكتوريا… ليس هديرها استعمارًا، بل إفريقياً سردية ثقاف ...
- حيدر آباد: رفاه الحُكم وتواضع الرحيل
- الولايات المتحدة في الشرق الاوسط: حربٌ بلا حرب
- سلطان إبراهيم: السمك الذي يحسم الجدل
- سور الصين العظيم . جدار الذاكرة … جدار الأمة
- اطفال الآيس كريم في قاعة صندوق النقد الدولي: تربية ناعمة في ...
- رُعاة البقر والهواتف الذكية: تأملات على هامش زيارة إلى كنساس ...
- هل بقي للحياة من طَعم؟
- في سنغافورة: الألماس خلف الزجاج، و الفقراء خلف الأمل
- مصافحة دبلوماسية ناعمة بلا عناء ولكن…؟
- لماذا يرتفع الدينار العراقي في السوق الموازي ؟.
- بين العقل والمال : رحلة في دهاليز التفكير الطبقي…!!


المزيد.....




- -واليتم رزق بعضه وذكاء-.. كيف تفنن الشعراء في تناول مفهوم ال ...
- “العلمية والأدبية”.. خطوات الاستعلام عن نتيجة الثانوية العام ...
- تنسيق كلية الهندسة 2025 لخريجي الدبلومات الفنية “توقعات”
- المجتمع المدني بغزة يفنّد تصريح الممثل الأوروبي عن المعابر و ...
- دنيا سمير غانم تعود من جديد في فيلم روكي الغلابة بجميع ادوار ...
- تنسيق الجامعات لطلاب الدبلومات الفنية في جميع التخصصات 2025 ...
- -خماسية النهر-.. صراع أفريقيا بين النهب والاستبداد
- لهذا السبب ..استخبارات الاحتلال تجبر قواتها على تعلم اللغة ا ...
- حي باب سريجة الدمشقي.. مصابيح الذاكرة وسروج الجراح المفتوحة ...
- التشكيلية ريم طه محمد تعرض -ذكرياتها- مرة أخرى


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مظهر محمد صالح - من تماثيل بوذا إلى رايات هتلر: الصليب المعكوف بين النور والظلام