أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مظهر محمد صالح - نزار قباني على رصيف الذكرى… ليتني لم أره فرحًا














المزيد.....

نزار قباني على رصيف الذكرى… ليتني لم أره فرحًا


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8462 - 2025 / 9 / 11 - 18:15
المحور: الادب والفن
    


كانت لحظاتٍ عابرة في شتاءٍ بغداديّ ساكن، وعلى رصيفٍ دافئ من شوارع العام 1969، مرّت لحظةٌ خُلدت في ذاكرتي كقصيدة عابرة… حين فوجئت بمشهدٍ لا يُنسى، ولا تمحوه السنون.

رأيته يمشي… رجلٌ يشبه القصيدة، بهيّ الطلعة، تسبقه الهيبة وتتبعه اللغة، يبتسم كمن يكتب بيتًا سعيدًا في مدينة تحفظه عن ظهر قلب.
كان نزار قباني، الشاعر الذي أحبّ بغداد، وبغداد أحبّته ،شاعرًا يُسعد القلب قبل العقل، ويمشي على رصيفها كأنه يعرف حجارتها بالاسم.

عبر الشارع بهدوء، من الرصيف الأيمن إلى الأيسر، يتأمل معالم بغداد، ويشرب من ملامحها، كأنه يحفظها بعينيه.

قلت في سرّي:
إنه ملك الشعر الحر…
إنه في بلدٍ يتذوّق الشعر والعاطفة معًا، نهارًا جهارًا.
ابتسمتُ له ابتسامةً صامتة.
كان أنيقًا، ملبسه أوروبيّ زاهٍ، وقد استبدل ربطة العنق بـ”فيونكة”، يتحاور مع صاحبه بفرحٍ غامر، ممشوق القامة، دمشقيّ الملامح، عربيّ الهوى، بغداديّ الحبّ…

عدتُ إلى نفسي أتأمّل فرح ذلك الرجل، الشاعر الدبلوماسي الذي جاء من الشام عاشقًا لبغداد.

ولم تمضِ إلا أيامٌ قليلة، حتى ضجّ الإعلام والناس بخبر اقترانه بسيدة بغدادية من بنات الكرام، من أهل الحي المجاور لنا.

كانت تليق به نسبًا وحسبًا…
إنها بلقيس، ملكة سبأ، بنت بغداد، وسيدة من العراق.

مرّت السنوات، وعدّها نزار أعظم حبّ في حياته.

لكن في ذلك اليوم الملطخ برماد كانون الأول 1981، انفجرت بيروت…
وانهارت معها بلقيس، وردة الدفء في شتاء نزار، وعمود الخيمة في وطن قلبه.

منذ رحيلها، لم يعد الشعر قصيدة… بل صار مأتمًا،
وصار الحبر نحيبًا،
وصارت الكلمات جنازات تمشي على سطورٍ باكية.

عاش بعدها نزار بقلبٍ منطفئ، يكتب لامرأة تسكن بين الضلوع، وتغيب عن العيون…
يكتب على إيقاع قصيدة لم تكتمل.

لم يكن أمام نزار بعد ذلك إلا الحزن… حتى الموت.

فقال يخاطب قلوبنا المكسورة، وقلبه المحطّم:

بلقيسُ… كانتْ أجملَ الملكاتِ في تاريخِ بابلْ
بلقيسُ… كانت أطولَ النخلاتِ في أرض العراقْ…

بلقيسُ يا وجعي
ويا وجعَ القصيدةِ حينَ تلمسها الأناملْ
هل يا تُرى… من بعد شعركِ سوفَ ترتفعُ السنابلْ؟

بلقيسُ… لا تتغيبي عنّي
فإنّ الشمسَ بعدكِ لا تُضيء على السواحلْ…

حتى العيون الخُضر، يا بلقيسُ، يقتلونها؟
حتى الحكايات الجميلة تُقتل؟
حتى الأغاني تُغتال؟
وحتى الطيبة… والنخلة… والطفولة… تُذبح؟

يا بلقيس… إن هم فجّروكِ، فعندنا
كلُّ الجنائزِ تبتدئ في كربلاءْ
وتنتهي في كربلاءْ…

أدمعت هذه المرثية عيون العاطفة في أرجاء الأرض،
وظلّت المأساة لا تنقطع، والدموع لا تغادر الجفون، والقلوب تقلب الأوجاع…

وسنواتٌ تتسارع لتطوي صفحات الماضي… لكنها لا تنسى…

قبل أيام من صيفنا هذا ، وقفتُ عند مدخل ذلك الشارع التاريخي، الذي سار نزار قباني على أرصفته ليلة عرسه.
تأملتُ الأرض التي كنتُ واقفًا عليها حين تقاطعتُ معه صدفة، مستعيدًا طريقي الأسبوعي آنذاك لمشاهدة فيلم في إحدى دور السينما القريبة، في نهاية كل أسبوع… قبل أكثر من نصف قرن.

لقد أُعيد تجديد المكان…
الحجارة القديمة أُزيلت، وحلّت محلّها حجارة حديثة، والرصيف بات أنيقًا…
اقتربتُ رويدًا من المسار المقابل لمقهى “حسن عجمي”، وقد تبدّلت بلاطاته القديمة بأخرى أجمل…

لكن الذكرى كانت أعمق من أن يمحوها التغيير.

تذكّرتُ لحظة عبور نزار قباني… بين فرحه بالاقتران ببلقيس، ويوم حزنه بفقدها المروّع.

مضى نصف قرن ونيّف منذ صادفته…
وهي سنواتٌ أسكبت ألف دمعة من بغداد، ممزوجة بالألم والحزن… دون أن نفقد الأمل.

عدتُ إلى ذلك الرصيف، بعد كل هذه السنين، حيث مشى نزار ليلة فرحه، فأبصرته يمشي في الذاكرة لا في الزمان.
المدينة تغيّرت… لكن الوجع بقي.
وحين وقفتُ حيث تقاطعنا ذات يوم، همستُ في داخلي:
ليتني لم أره فرِحاً…
ليت القصيدة لم تبدأ، طالما أن نهايتها ستكون على ركام بلقيس.

فالحب الحقيقي لا يموت…
لكنه يُغتال، لا يُدفن إلا في قلب الشاعر، وتحت أنقاض السياسة.

انتهى ///



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مؤتمر باندونغ: يوم هزّ عرش طفولتي
- الحانة الويلزية: ملتقى التاريخ الجامعي والتراث الفيكتوري
- ساعة اليد المتواضعة: الزمن مرآت للطبقات
- زيمبابوي : درس في الانكسارات الاقتصادية
- راس المال الرمزي تحت جدران المدينة المحرمة.
- الصدمة الثقافية: جوهر الانسان و وهم الاختلاف
- دموع الذكريات على سفوح الجبال
- الهوية واللغة والطبقة الاجتماعية: بين ويليام لابوف وإبراهيم ...
- قصابون من نوع آخر..! من دفاتر مفاوضات اقتصادية في لندن …إنه ...
- كارل ماركس في العصر الرقمي: من مانهاتن إلى الاغتراب الآلي
- صيد التروتة من ينابيع الجبال
- مدينةٌ تخفت في جلابيبها.
- سان فرانسيسكو: قوة تكنوقراط ناصحة !
- في الطريق إلى هوليوود: مفارقات لا تنتهي
- الحادي والعشرون من ديسمبر… النور الذي يسبق العاصفة
- المثقف المشرقي على مصفوفة الوحدة : بين ألتوسير وفوكو ودريدا
- الصين وحساسية الدولة العظمى: قوة ناعمة على مائدة الدولة
- شحاذ رقمي تحت الراية الحمراء
- أمُّ العراق… الكوت والجنة تحت قدميها!
- توازن السوق بإشارة سالبة؟ مشادة أكاديمية صامتة!!


المزيد.....




- أبرز كشف أثري في مصر: نسخة جديدة كاملة من مرسوم كانوب البطلم ...
- قطاع صناعة الأفلام.. الوجه الآخر لصراع الشرق الأوسط
- باريس-اليونسكو : ندوة للإحتفاء بمؤية الشاعر الإماراتي سلطان ...
- -بغداد أجمل حين نقرأ-.. انطلاق معرض بغداد للكتاب وقطر ضيف شر ...
- 4 عروض تفوز في ختام المهرجان العربي لمسرح الطفل بالكويت
- فيلم -كوتور-.. أنجلينا جولي تقتحم كواليس عالم الموضة من قلب ...
- -صعود إيران- لمحسن ميلاني.. -أمّة منبوذة- تنافس واشنطن على ق ...
- تونس.. مهرجان مدنين السينمائي الدولي يطلق بوستر دورته الـ11 ...
- بانكسي فنان مجهول برسائل تربك السلطات وتنصف الفلسطينيين
- آنا وينتور تدلي برأيها الحقيقي في فيلم -الشيطان يرتدي برادا- ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مظهر محمد صالح - نزار قباني على رصيف الذكرى… ليتني لم أره فرحًا