أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - راس المال الرمزي تحت جدران المدينة المحرمة.















المزيد.....

راس المال الرمزي تحت جدران المدينة المحرمة.


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 20:50
المحور: قضايا ثقافية
    


حالما تلامس جدران ذلك البناء الامبراطوري الفخم في قلب العاصمة الصينية بكين … تسكن في مخيلتك بانه لا قيمة لزيارة مملكة وسط العالم كما تسمى ، ما لم تطأ قدماك أرض المدينة المحرمةThe Forbidden City ، ذلك الفضاء الإمبراطوري المغلق الذي ظل قرونًا طويلة سرًّا مكنونًا لأسر الصين الحاكمة.حيث ظلت المدينة المحرمة
،الاسم التاريخي لقصر الأباطرة في بكين، والذي كان محظورًا على عامة الشعب دخوله لقرون طويلة.
فعند البوابة الرئيسة تصادفك صورة عملاقة للزعيم الصيني الراحل ماوتسي تونغ ،وانت تسير تفاجئك مشاعر تتداخل فيها العمارة بالأسطورة، و تشعر من فورك أن جدران القصور الملكية تهمس لك بحكايات نساءٍ عشن بين البقاء القسري والهروب المستحيل.
ففي أروقة البلاط الامبراطوري ، كان المشهد معقّدًا: زوجاتٌ شرعياتٌ ثابتات، وجواري لم ينلن فرصة السرير مع الإمبراطور، ينتهين أحيانًا إلى صداقات سرية مع حرس البلاط، وربما محاولات فرار محفوفة بالموت. وأنت تتجول بين البوابات الحمراء والساحات الحجرية، يخيل إليك أن هذه الروايات أقرب إلى الأساطير، ومع ذلك فهي الحقيقة التي صنعت حياة القصور.
لم ينفك الحوار مع مرافقي عن ظاهرة ( اقدام اللوتس Chinese Lotus Feet ).
فاذا نظرنا إلى المدينة المحرمة بعيون فيلسوف فرنسا (بيير بورديو Pierre Bourdieu، 1930–2002) هو واحد من أبرز علماء الاجتماع والفلاسفة الفرنسيين في القرن العشرين، ويُعد من أكثر المفكرين تأثيرًا في دراسة السلطة، الثقافة، والتعليم، والرموز الاجتماعية ،فإننا نجد أنفسنا أمام حقل سلطوي مغلق تحكمه قواعد دقيقة للصراع والتراتبية.
فالنساء اللواتي عشن في المدينة المحرمة الصينية خضعن منذ الطفولة إلى ما يمكن تسميته بـ الهابيتوس الجسدي Habitus : اي ممارسة ربط الأقدام حتى تتخذ شكل “زهرة اللوتس”، وهو فعل يرسّخ في أجسادهن عادات وتوجهات لاواعية تجعل خطواتهن، بل حركتهن في الحياة، منسجمة مع إيقاع البلاط الإمبراطوري ومتطلبات الهابيتوس ، وهي
منظومة من التوجهات والعادات والتصورات التي يكتسبها الفرد من بيئته الاجتماعية، وتوجه سلوكه بشكل لا واعٍ ،وهكذا تحوّل الجسد ذاته إلى رأس مال رمزي، حيث إن امتلاك “أقدام اللوتس” كان شرطًا للقبول في الدائرة الإمبراطورية، ودليلًا على المكانة الاجتماعية الرفيعة، وهنا فان راس المال حسب بورديو ، هو حقا رمزياً ،حيث يمثل المكانة والهيبة والاعتراف الاجتماعي لسيدات القصر ، ويحدد قيمتها في نظر السلطة والمجتمع.
ففي الصين القديمة، منذ القرن العاشر الميلادي وحتى بدايات القرن العشرين، كانت الفتيات يُجبرن منذ طفولتهن على ربط أقدامهن بقطع قماش مشدودة حتى تنكسر العظام وتلتوي الأصابع، فلا يتجاوز طول القدم سبعة سنتيمترات. فالقدم الصغيرة كانت تُشبه زهرة اللوتس Chinese Lotus Feet، رمز الجمال والأنوثة، لكنها في الحقيقة كانت علامة على الأسر والقيود.
كانت النساء في البلاط الإمبراطوري تقريباً بلا استثناء من فتيات “اللوتس”، لا يمشين بسهولة، بل يترنحن بخطوات بطيئة ومتعثرة، تزيد من جاذبيتهن في عيون النخب الحاكمة. فأحذية النساء ، كانت ضيقة وصلبة، تُصمم خصيصًا لتلائم القدم المشوهة، وتُكمل ذلك الوهم الاجتماعي الذي جعل من العذاب جمالًا، ومن الألم أنوثة.
لكن هذا الرمز الجمالي لم يكن بريئًا؛ فقد مثّل شكلًا من أشكال (العنف الرمزي Symbolic Violence) و هو الخضوع لسلطةٍ غير مباشرة، تُمارَس عبر العادات والتقاليد واللغة، فيظن الأفراد أنهم مخيرون بينما هم خاضعون.
وان عادة “اللوتس” مثال حي: فالنساء الصينيات قبِلن الألم والمعاناة بوصفها معيار جمال، بينما كانت أداة سيطرة وهيمنة، إذ أخفت التقاليد القسرية تحت ستار الجمال، وجعلت النساء يعتقدن أنهن يكتسبن رقيًا وأنوثة، فيما كنّ في الحقيقة يخضعن لمنظومة سلطوية تستخدم الجسد نفسه وسيلة للهيمنة وإعادة إنتاج النظام الاجتماعي الصيني .
فبين الفن العمارة الصيني ومباهج جدرانه، سالني مضيفي في نهاية جولتي … ماذا يمكن ان تستنتج ايها الرجل القادم من شرق المتوسط في عالم نساء المدينة المحرمة … اجبته من فوري … انه سجن كبير او حقل سلطوي مغلق فأقدام اللوتس ماهي الا ( هابيتوس جسدي ) يعيد إنتاج التراتبية الاجتماعية.وان
الجسد الأنثوي لايتعدى عن كونه رأس مال رمزي كشرط للقبول في البلاط الامبراطوري .اما
الألم المقنّع بالجمال ،فهو عنف رمزي يُخضع النساء دون قسر مباشر.
وهكذا تجد الشواهد التاريخية داخل القصر الإمبراطوري، تدلك ان المشهد مزدوجًا: فبعض النساء، مثل الإمبراطورة الأرملة تسيشي، حوّلن العزلة إلى سلطة سياسية فعلية امتدت لعقود.
في المقابل، عاشت أغلبية النساء في عزلة تامة، مسلوبات الإرادة، محكومات بالجدران العالية، ينتظرن قدرًا قد لا يتجاوز الظل.
هنا يتضح البعد البورديوي: إذ تحوّل الجسد الأنثوي المقيّد إلى رأسمال رمزي، علامة على المكانة والوجاهة، وشرطًا للزواج المرموق، ليجتمع في جسد المرأة داخل المدينة المحرمة كلّ من رأس المال الرمزي (الجمال المتخيّل) ورأس المال السياسي (القرب من العرش) تحت سقف واحد من الا ان المفارقة تؤكد أن ما بدا جمالًا في المخيال الإمبراطوري كان في الحقيقة قيدًا مادّيًا ومعنويًا. لقد تماهى المجتمع مع “زهرة اللوتس” كرمز للأنوثة، لكنه أخفى الألم المزمن والإعاقات الدائمة التي أصابت آلاف النساء. وبهذا المعنى، تتحول أقدام اللوتس إلى استعارة عن العلاقة الملتبسة بين السلطة والجمال: حين يصبح الجمال نفسه أداة للضبط الاجتماعي ، لتجسد هذه الممارسة السلطة الانضباطية؛ إذ لم يكن الجسد مجرد وعاء للجمال بل أصبح موضوعًا لتقنيات ضبط دقيقة: الربط، التقييد، إعادة تشكيل الخطوات لتكون بطيئة ومقننة. إنها صورة عن الميكرو-سلطة ، التي تمارس الخضوع يوميًا دون عنف مباشر، ليصبح الجسد نفسه نصًا مطبوعًا بالسلطة، شاهداً على سطوة الإمبراطور. وهكذا يجتمع البعد البورديوي (الجسد كرأس مال رمزي وعنف رمزي) مع البعد الفوكوي (الجسد كمساحة للانضباط والسلطة الميكروية)، كما سنرى ليكشفا معًا كيف تحولت المدينة المحرمة إلى مسرح للجمال المقيد والهيمنة الخفية.
وانت تتقلب بين مسارات المدينة الامبراطورية المحرمة ، ياخذك خيالك الاكاديمي حقا الى فيلسوف فرنسا الاشهر ميشيل فوكو (Michel Foucault) ‏(1926–1984) وهو مؤرخ أفكار فرنسي، يُعد من أبرز مفكري القرن العشرين وأكثرهم تأثيرًا في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وأبرز ملامح فكره ،ركّز على العلاقة بين المعرفة والسلطة، وكيف أن كل خطاب معرفي (كالطب، القانون، و علم النفس) يحمل في داخله بنية سلطوية تضبط الأفراد والمجتمعات.
لقد طوّر (فوكو )مفهوم الانضباط والمراقبة، حيث أوضح أن السلطة الحديثة لا تُمارَس فقط عبر القوانين والجيش، بل أيضًا عبر المدارس، المستشفيات، السجون، وحتى العادات اليومية.
و يرى أن السلطة ليست هرمًا من الأعلى إلى الأسفل فقط، بل هي شبكة متداخلة تسري في تفاصيل الحياة..!
هنا اثارت زيارتي الى تلك المدينة المحرمة سؤالًا يتجاوز حدود الصين: كم من أشكال “اللوتس” ظلت حاضرة في مجتمعات اوروبا القديمة والحديثة ومجتمعاتنا المشرقية وما يقوم فيه الكيان الغاصب في سجونه اليوم من فضائح بشرية وفي غزة، وإن كانت بأسماء وصور مختلفة؟ فمن صور الجمال النمطية المفروضة على المرأة، إلى أدوار اجتماعية تُقيّد حركتها هنا وهناك تحت مسمى آخر العرف أو الشرف أو المكانة .
إن ما يجعل تجربة “نساء المدينة المحرمة” ماثلة حتى اليوم ليس خصوصيتها الصينية فحسب، بل كونها نموذجًا عنفياً متكررًا في تحويل الأنوثة إلى قيد، والجسد إلى مسرح للسلطة الاديولوجية .
فالمدينة المحرمة ليست متحفًا للتاريخ الإمبراطوري وحده، بل نصّ مفتوح عن علاقة السلطة بالجسد والحرية ، اذ يذكّرنا ميشيل فوكو في تحليلاته للسلطة بأن الجسد ليس مجرد كيان بيولوجي، بل هو موضوع للانضباط وأداة لإعادة إنتاج السلطة سواء في قاصي الشرق اوغيره . ففي هذا السياق، تبدو ظاهرة “أقدام اللوتس” مثالًا صارخًا على تحويل الجسد الأنثوي إلى رمز اجتماعي، وإلى وسيلة ضبطٍ وإخضاع هاديء .
فمنذ القرن العاشر وحتى أوائل القرن العشرين، جرى تقييد أقدام الفتيات الصينيات، لتصبح رمزًا للجمال والأنوثة. لكنها في الجوهر كانت آلية للسيطرة الاجتماعية، تجعل المرأة أسيرة بطء خطواتها وعجزها الحركي، فتحيا في تبعية مزدوجة: للرجل وللمكان.
فحكاية نساء الصين داخل اسوار القصر الامبراطوري او خارجه تكشف أن الجمال حين يُفرض بالقوة يتحول إلى قيد، وأن القصور المذهّبة قد تكون جدرانًا للعزلة.
إنها مرآة تضعنا أمام سؤال حاضر: إلى أي مدى ما زالت السلطة الاديولوجية تعيد إنتاج نفسها عبر الجسد الأنثوي، وتجعل من الجمال واجهةً لقيود غير مرئية؟ او السلطة على الجسد من منظور ميشيل فوكو ؟ كما يحصل اليوم من ظلم للنساء في سجون الكيان الغاصب .

انتهى //



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصدمة الثقافية: جوهر الانسان و وهم الاختلاف
- دموع الذكريات على سفوح الجبال
- الهوية واللغة والطبقة الاجتماعية: بين ويليام لابوف وإبراهيم ...
- قصابون من نوع آخر..! من دفاتر مفاوضات اقتصادية في لندن …إنه ...
- كارل ماركس في العصر الرقمي: من مانهاتن إلى الاغتراب الآلي
- صيد التروتة من ينابيع الجبال
- مدينةٌ تخفت في جلابيبها.
- سان فرانسيسكو: قوة تكنوقراط ناصحة !
- في الطريق إلى هوليوود: مفارقات لا تنتهي
- الحادي والعشرون من ديسمبر… النور الذي يسبق العاصفة
- المثقف المشرقي على مصفوفة الوحدة : بين ألتوسير وفوكو ودريدا
- الصين وحساسية الدولة العظمى: قوة ناعمة على مائدة الدولة
- شحاذ رقمي تحت الراية الحمراء
- أمُّ العراق… الكوت والجنة تحت قدميها!
- توازن السوق بإشارة سالبة؟ مشادة أكاديمية صامتة!!
- من عصر الفوانيس إلى الطاقة الشمسية: جدل لا ينتهي
- الكرسي المكسور: ذكريات في عالم البيروقراطية الإدارية
- الرهان على الخير في زمن اللايقين
- تدوير النفايات: بين هموم العلماء ومعاناة الفقراء
- ما بين مطرقة الحياة وسندان الغربة: عواطف تحت الثلج


المزيد.....




- مصادر لـCNN: -الترويكا الأوروبية- من المرجح أن تعيد فرض عقوب ...
- بالتزامن مع افتتاح معرض دمشق الدولي.. غارات إسرائيلية تستهدف ...
- صيف بريطانيا 2025 يسجل أعلى رقم قياسي في درجات الحرارة منذ 1 ...
- فتح تحقيق في إطلاق نار بمدرسة كاثوليكية في مينيابوليس الأمري ...
- إسرائيل تهدد بوقف تمويل منظمة دولية أكدت مجاعة غزة
- قبول ترشح الرئيسة التنزانية لانتخابات أكتوبر واستبعاد أبرز م ...
- عاجل | مصدر عسكري سوري للجزيرة: الجيش الإسرائيلي نفذ إنزالا ...
- -الكابينت- يبحث الأحد السيادة على الضفة الغربية
- أردوغان: القبة الفولاذية تنقل تركيا لمستوى جديد في الدفاع ال ...
- غانا تكثف جهودها لمواجهة تسلل الجماعات المسلحة عبر الحدود


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - راس المال الرمزي تحت جدران المدينة المحرمة.