أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - مظهر محمد صالح - قصابون من نوع آخر..! من دفاتر مفاوضات اقتصادية في لندن …إنه عقد مضى














المزيد.....

قصابون من نوع آخر..! من دفاتر مفاوضات اقتصادية في لندن …إنه عقد مضى


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8438 - 2025 / 8 / 18 - 00:24
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


1-تمهيد :
(الحرب على جبهتين)
في سنوات الحرب ضد الإرهاب الداعشي، وبينما كانت الجبهات العسكرية مشتعلة، كانت الجبهة الاقتصادية لا تقل ضراوة ، انهيار أسعار النفط ، و اجواء المالية العامة للعراق كانت أمام اختبار قاسٍ ، وعجز الموازنة بات كجرح مفتوح يهدد كل شريان في جسد الدولة.
في ذلك المناخ المضطرب، كان لا بد من تحريك المسار الدبلوماسي–الاقتصادي بحثًا عن تمويل خارجي، يقي البلاد من الانحدار نحو دائرة الحرج، ويمنحها متنفسًا للاستمرار.
من هنا جاءت تلك الرحلة إلى لندن، قلب أوروبا المالي، ليس بحثًا عن صفقات تجارية أو بروتوكولات شكلية، بل عن قارب قوة يُبقي البلاد واقفة على قدميها لبلوغ النصر.

2-مفاوضات في قلب الضباب
ما جرى هناك لم يكن مجرد مفاوضة على قرض، بل مواجهة بين رؤيتين:
رؤية دولة تبحث عن تمتين مصادر قوتها، ورؤية أسواق لا ترى في العالم سوى أرقام ومعادلات.

ما زلت أذكر ذلك الخريف الرمادي، حين كانت المدينة مبلّلة بمطرها، وملفّاتنا مبلّلة بأرقام الديون.
كان خريف لندن يلفّ المدينة بضبابه الكثيف، كأن السماء نفسها تستعدّ لمفاوضات لا تعرف الرحمة.
وفدنا، المثقل بأعباء الحرب والعجز المالي، يشق طريقه نحو قلب العاصمة المالية، حيث تُصاغ القرارات التي لا تُمحى من دفاتر التاريخ.

الوجهة: قاعة عتيقة تعود إلى قرن مضى، كانت يومًا مركزًا لاتحاد نقابات الحديد والصلب في بريطانيا ، حيث كانت تُصنع قرارات سكاكين شيفيلد الفولاذية التي طالما استوردناها في أزمنة ماضية ، جئنا نصنع شيئًا آخر: قرضًا أوروبيًا ينتشل بلادنا من الغرق.

3- مفارقة القصّابين
و في الطريق ، برزت مفارقة عجيبة ، لافتات كبيرة تملأ الشارع، لا ترحب بنا، بل بأتحاد قصابي المملكة المتحدة. رجال بقمصان بيضاء ومرايل جلدية يتدفّقون من كل صوب، يحملون حقائب لا نعرف إن كانت تحوي أدواتهم أم ملفاتهم.
ظننا لوهلة أنهم وفد المال المنتظر. لكن أحدهم اقترب وسأل بلهجة مرتبكة:

“عذرًا، هل هذه قاعة اجتماع اتحاد القصابين؟ لقد ضللنا الطريق.”

ابتسم أحد أعضاء وفدنا وقال:

“نحن بانتظار نوع آخر من القصّابين.”

وانفجر الجميع ضاحكين؛ ضحكة صافية، نادرة، وسط ضباب الأرقام والديون.
ضحك القصابون الحقيقيون، وضحكنا نحن الباحثين عن قصّابين من طراز مختلف ، أولئك الذين لا يحملون سكاكين، بل عقودًا وفوائد مركّبة، يقطعون بها أوصال الميزانيات ويعيدون تشكيل مالية الدول على مقاسهم.

4- السكين التي لا تُرى
دخلنا القاعة ، لا شيء يوحي بالرحمة ، جدران من الطوب الأحمر، طاولات خشبية ثقيلة، وساعة عتيقة تدق ببرود، كأنها تراقب كل دقيقة تُخصم من مستقبلنا.

جلسنا أمام وفد الشركات المالية ، وجوه جامدة، نظرات حادّة، وكلمات محسوبة كطلقات.
بدأ العرض: قرض مشروط، بفوائد متغيّرة، وسندات سيادية تُباع في أسواق مالية لا تعرف الشفقة.

كل بند في العقد كان كحدّ السكين.
كل شرط كضربة على لحم الميزانية.
وكل ابتسامة منهم كابتسامة القصّاب قبل أن يهوى بسكينه.

في الأزمنة التي كان الحديد فيها سيّد الاقتصاد، كان المستقبل يُصنع في أفران الصهر وعلى طاولات اللحام.
المدينة كانت تعرف أن صوت المطرقة على السندان هو وعدٌ بالعمل والغد.
لكن شيئًا ما تغيّر ، تحوّلت القاعات التي كانت تنبض بحرارة المعدن إلى مكاتب زجاجية باردة، لا يُسمع فيها سوى نقرات لوحات المفاتيح وأصوات الحاسبات الرقمية.
حلّت الجداول المالية محل المخططات الهندسية، وأصبح إنتاج الصفقات أهم من إنتاج الأشياء.

5-ختاما ً،من يقطع المستقبل؟
في تلك اللحظة، أدركنا أن القصّابين الحقيقيين ليسوا من يجزّون اللحم، بل من يجزّون المستقبل.
لم تعد السكين من فولاذ شيفيلد، بل صارت من بنود قانونية، ومصطلحات اقتصادية، وأرقام لا تعرف الشفقة.

في قاعات نقابات الحديد ، عندما كانت تُصاغ قرارات أدوات الحياة، اصبحت اليوم تُصاغ أدوات السيطرة.

ضحكنا مع القصّابين التائهين، لأنهم – على الأقل – يقطعون ما يمكن أكله.
أما من نفاوضهم، فيقطعون ما لا يمكن ترميمه… إنها الرأسمالية المالية على حقيقتها: سلطة بلا وجه، تستبدل المصنع بالمصرف، والعمل بالصفقة، والمستقبل بالمضاربة.
هنا يصبح السوق ساحةً للهيمنة، لا للتبادل؛ وأدوات السيطرة ليست سيوفًا أو بنادق، بل جداول موازنة، وشروط قروض، ومؤشرات أسهم تتحكم في مصائر مدن وشعوب.

في مواجهة هذا المشهد، ندرك أن معركة الحياة لم تعد في المسالخ أو المصانع، بل في البورصات وغرف التفاوض، حيث يُقطع ما لا يمكن لأحد إعادته….انها الراسمالية المالية (Financial Capitalism)، اذ مازلنا ننظر اليها على انها مرحلة متقدمة من النظام الرأسمالي، تتميز بسيطرة المؤسسات المالية على النشاط الاقتصادي والسياسي في العالم ، وتحوّل الربح من الإنتاج الصناعي إلى الربح من العمليات المالية والمضاربات ،
انها ‎نظام اقتصادي تُهيمن فيه المؤسسات المالية (مثل المصارف ، وشركات الاستثمار، وصناديق التحوط) على القرارات الاقتصادية الكبرى ،وان الربح الأساسي لا يأتي من إنتاج السلع والخدمات، بل من تداول الأصول المالية مثل الأسهم والسندات والمشتقّات المالية، وتكاد الوظيفة المركزية في الاقتصاد تصبح “الوساطة المالية” بين المدخرات والاستثمارات، بدلًا من الإنتاج الصناعي المباشر.
‏‎وان العملية المرتبطة بها تُعرف باسم التمويلنيّه
‏ (Financialization)،
‏‎أي تحويل كل شيء إلى أصل مالي قابل للتداول.

انه عالم مابعد الامبريالية ..عالم اقتصادي داكن .. تبقى قصة جزره لاتنتهي .



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كارل ماركس في العصر الرقمي: من مانهاتن إلى الاغتراب الآلي
- صيد التروتة من ينابيع الجبال
- مدينةٌ تخفت في جلابيبها.
- سان فرانسيسكو: قوة تكنوقراط ناصحة !
- في الطريق إلى هوليوود: مفارقات لا تنتهي
- الحادي والعشرون من ديسمبر… النور الذي يسبق العاصفة
- المثقف المشرقي على مصفوفة الوحدة : بين ألتوسير وفوكو ودريدا
- الصين وحساسية الدولة العظمى: قوة ناعمة على مائدة الدولة
- شحاذ رقمي تحت الراية الحمراء
- أمُّ العراق… الكوت والجنة تحت قدميها!
- توازن السوق بإشارة سالبة؟ مشادة أكاديمية صامتة!!
- من عصر الفوانيس إلى الطاقة الشمسية: جدل لا ينتهي
- الكرسي المكسور: ذكريات في عالم البيروقراطية الإدارية
- الرهان على الخير في زمن اللايقين
- تدوير النفايات: بين هموم العلماء ومعاناة الفقراء
- ما بين مطرقة الحياة وسندان الغربة: عواطف تحت الثلج
- من تماثيل بوذا إلى رايات هتلر: الصليب المعكوف بين النور والظ ...
- كربلاء: فلسفة التضحية ومنهج الإصلاح في مواجهة الاستبداد
- في تظافر العلوم… تنهض الأمم
- سيدة الجنوب الاولى ومحراب الحسين: دموع لا تموت…!


المزيد.....




- بين الخيانة والاستسلام: ماذا يعني تسليم دونباس لروسيا؟
- والدة محتجز إسرائيلي تبث مقطع فيديو لابنها في الأسر
- لاريجاني: إيران لا تتدخل في شؤون لبنان الداخلية
- لاريجاني: تعليقنا على الوضع في لبنان لا يعني التدخل في شؤونه ...
- دبلوماسي روسي: موسكو تحتاج أيضا ضمانات أمنية -موثوقة-
- إسرائيل تهدد حماس: العودة للتفاوض أو احتلال غزة قريبا
- هجمات روسية جديدة على أوكرانيا.. وزيلينسكي يتوجه إلى واشنطن ...
- زلزال يضرب ولاية تبسة بالجزائر
- مبعوث روسي: موسكو بحاجة إلى ضمانات أمنية مماثلة لما تريده كي ...
- جدل الديمقراطية والجيش في غرب أفريقيا.. هل هنالك انقلابات جي ...


المزيد.....

- نبذ العدمية: هل نكون مخطئين حقًا: العدمية المستنيرة أم الطبي ... / زهير الخويلدي
- Express To Impress عبر لتؤثر / محمد عبد الكريم يوسف
- التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق / محمد عبد الكريم يوسف
- Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية / محمد عبد الكريم يوسف
- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - مظهر محمد صالح - قصابون من نوع آخر..! من دفاتر مفاوضات اقتصادية في لندن …إنه عقد مضى