أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - الحانة الويلزية: ملتقى التاريخ الجامعي والتراث الفيكتوري















المزيد.....

الحانة الويلزية: ملتقى التاريخ الجامعي والتراث الفيكتوري


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8456 - 2025 / 9 / 5 - 22:11
المحور: قضايا ثقافية
    


في قلب مدينة جامعية شامخة على الساحل الغربي لمقاطعة ويلز، وبين أزقتها الهادئة المطلة على البحر الأيرلندي، يلمع باب خشبي قديم نُقش عليه بخط أنيق:
‏Smoking Room – 1870
لم يكن هذا الباب مجرد مدخل خشبي، بل بوابة إلى زمنٍ بريطانيٍ غابر، يوم كانت الحانات أكثر من مجرد أماكن لشرب الجعة أو تناول الطعام ، بل كانت مساحات اجتماعية تنبض بالحياة والهوية، تجمع بين التقاليد والحداثة، بين المحلي والطبقي، وبين ما هو خاص وما هو عام. انها مدينة أبيرستويث في ويلز او بيارتيز ويلز Biarritz of Wales” كما تكُنى .
في هذه المدينة الجامعية تحديدًا اي – أبيرستويث (Aberystwyth) – يتجسد ذلك التداخل الفريد بين العمق المحلي والانفتاح البرجوازي.
لم يكن وصف المدينة بـ “بيارتيز ويلز” مجرّد استعارة جغرافية أو مجاملة سياحية ، فكما شكّلت بياريتز الفرنسية في القرن التاسع عشر وجهةً للنخبة الأوروبية الباحثة عن البحر والترف، تحوّلت أبيرستويث إلى ملاذ للطبقة الوسطى البريطانية الصاعدة بعد افتتاح خط السكك الحديدية عام 1864 والرصيف الملكي عام 1869.
هناك، مثّلت بياريتز الفخامة الإمبراطورية الفرنسية، وهنا جسدت أبيرستويث ترف البرجوازية البريطانية الناشئة بلمسة من الهوية الويلزية.
فالبحر في الحالتين لم يكن فقط فضاءً طبيعياً، بل منصة اجتماعية تتلاقى فيها الطبقات والتجارب، وتتشكل من خلالها ملامح الحداثة.
حيث تحولت الحانات من مؤسسات نفعية إلى فضاءات رمزية.
فعلى الرغم من أن عدد سكان المدينة صغير نسبيًا، إلا أن أبيرستويث تُعرف تاريخيًا بكثافة حاناتها، حتى قيل إنها من أعلى المدن البريطانية من حيث عدد الحانات نسبةً للسكان.
ولم تكن هذه الحانات مجرد أماكن للشرب، بل لعبت أدوارًا مجتمعية ضاربة في الجذور، حيث كانت أماكن لتوزيع رواتب العمال و منصات للنشاطات النقابية والاجتماعية وكذلك فضاءات للقاء بين طبقات المجتمع المختلفة، من البحارة إلى الطلبة.
ففي الحرب العالمية الثانية، تحوّلت بعض الحانات في أبيرستويث إلى ملاجئ آمنة للنساء والأطفال الهاربين من قصف لندن ، مما منحها قيمة إنسانية إضافية، لا تزال تُحتفل بها حتى اليوم.
اما غرف التدخين فقد ظلت تمثل طقوس برجوازية وهوية طبقية.
وان من أبرز ما يميز بعض هذه الحانات العريقة، تلك الغرف التي تُعرف باسم “Smoking Rooms”، والتي لا تزال تحتفظ بلافتات قديمة تعود للقرن التاسع عشر، محفورٌ عليها تاريخ الإنشاء وأحيانًا شعارات نبيلة.حيث ظهرت غرف التدخين بشكلها الكلاسيكي خلال العصر الفيكتوري، لكن جذورها تعود إلى العصر التيودوري (1485–1603)، حين بدأت ملامح الهوية البريطانية الحديثة بالتشكل سياسيًا ودينيًا وثقافيًا.
في هذا العصر، بدأت طبقة النبلاء باستخدام غرف مخصصة للتدخين ضمن منازلهم، لكنها لم تصبح شائعة إلا مع انتشار السيجار في البلاط الملكي، بفضل الأمير ألبرت، زوج الملكة فيكتوريا.
فغرف التدخين في الحانات كانت تعبيرًا صريحًا عن الطابع الطبقي والثقافي البريطاني ، مازلت كمتاحف ، تدهشك ، سواء من، أرائك جلدية او ستائر مخملية، وأثاث خشبي داكن.
فضلاً عن لوحات فنية وقطع من أسلحة قديمة تزين الجدران. تشعرك ان جلسات رجالية حصرية، تتناول السياسة والتجارة والدين على مدى السنوات والعقود والقرون،يخللها ارتداء سترات مخصصة تُعرف بـ Smoking Jacket، وهي الأصل في بدلات “السموكن” الرسمية اليوم.

ولكن ثمة تلاقي بين المعمار والهوية: بين العصرين التيودوري والفيكتوري، اذ ينعكس تطوّر الحانات وغرف التدخين في المسار التاريخي للبناء الاجتماعي البريطاني.
ففي العصر التيودوري، ظهرت بوادر الرأسمالية التجارية او الماركنتالية، والتحول من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، وبناء القوة البحرية.
أما في العصر الفيكتوري، فقد شهدت بريطانيا تحوّلاً في بنية الطبقات، مع صعود الطبقة الوسطى، وازدهار النقل، والتعليم، والصناعة.

عكست الحانات، كجزء من الفضاء العام، ذلك التحول. فحسب مفهوم الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو حول (الهابيتوس) فإن الممارسات اليومية – من الجلوس إلى الحديث، من اختيار المكان إلى الديكور – تعبّر عن تموقع طبقي وهيكلي في المجتمع.
فغرف التدخين لم تكن مجرد رفاهية، بل تمظهرًا واضحًا لتمييز اجتماعي داخل الفضاء العام.
هنا جاءت نهاية الوظيفة… ولكن بقي الرمز..!
فمع صدور قانون حظر التدخين في الأماكن العامة المغلقة في العام 2007، انتهى الدور العملي لغرف التدخين، لكن رمزيتها لم تنتهِ. فلا تزال بعض الحانات العريقة تحتفظ بها كجزء من تراثها المعماري والثقافي. وفي حالات كثيرة، تحوّلت هذه الغرف إلى:
صالات للنخبة و فضاءات خاصة بالفعاليات الثقافية ، و أماكن للاسترخاء تحمل طابعًا تاريخيًا.
في هذه الغرف، لا تشمّ فقط رائحة التبغ المعتّق، بل تشعر بنبض التاريخ، وتلمس أثر قرون من التحولات الاجتماعية والسياسية التي شكّلت بريطانيا الحديثة.
اما أبيرستويث التي تحولت من هامش إلى مركز رمزي، فانها تنسجم حقا مع ما ظلت فيه بيارتيز مركزًا إمبراطوريًا للنخبة الفرنسية ، كذلك أبيرستويث استمرت تمثل مركزًا رمزيًا يتلاقى فيه الترف البرجوازي مع الهوية الويلزية المحلية.
إنها مدينة على الهامش الجغرافي، لكنها في صلب التجربة البريطانية التاريخية.
كانت ميناءً للصيد وتعدين الفضة والرصاص،
أصبحت منتجعًا ساحليًا للطبقة الوسطى،
و تحوّلت إلى مركز جامعي حيوي يضم آلاف الطلاب من شتى أنحاء العالم.
الحانة هنا، وخصوصًا تلك التي تحتفظ بغرف التدخين، ليست مجرد مبنى، بل نصّ ثقافيّ يُقرأ ويُحلّل، يُظهر كيف تتجلى الهوية البريطانية في فضاءات الحياة اليومية.

ختاماً : عندما يلتقي الإنسان بالتاريخ ، فغرف التدخين لاتجسد معمارًا جميلًا أو ترفًا برجوازيًا ربما منسيًا فحسب ، بل مرآة زمن كانت فيه الحانة قلب المجتمع، والمكان الذي تُصاغ فيه العلاقات والذكريات.
ففي زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتحول فيه المدن إلى عوالم رقمية، تُذكّرنا هذه الغرف – بجلد أرائكها ورائحة تبغها القديمة .
فالإنسان، في جوهره، كائنٌ اجتماعيّ، يبحث دائمًا عن لحظةٍ يجلس فيها، يشعل سيجاره، ويعيد التفكير في المعنى: الرجولة، الهوية، والانتماء… !! اينما تكون.



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ساعة اليد المتواضعة: الزمن مرآت للطبقات
- زيمبابوي : درس في الانكسارات الاقتصادية
- راس المال الرمزي تحت جدران المدينة المحرمة.
- الصدمة الثقافية: جوهر الانسان و وهم الاختلاف
- دموع الذكريات على سفوح الجبال
- الهوية واللغة والطبقة الاجتماعية: بين ويليام لابوف وإبراهيم ...
- قصابون من نوع آخر..! من دفاتر مفاوضات اقتصادية في لندن …إنه ...
- كارل ماركس في العصر الرقمي: من مانهاتن إلى الاغتراب الآلي
- صيد التروتة من ينابيع الجبال
- مدينةٌ تخفت في جلابيبها.
- سان فرانسيسكو: قوة تكنوقراط ناصحة !
- في الطريق إلى هوليوود: مفارقات لا تنتهي
- الحادي والعشرون من ديسمبر… النور الذي يسبق العاصفة
- المثقف المشرقي على مصفوفة الوحدة : بين ألتوسير وفوكو ودريدا
- الصين وحساسية الدولة العظمى: قوة ناعمة على مائدة الدولة
- شحاذ رقمي تحت الراية الحمراء
- أمُّ العراق… الكوت والجنة تحت قدميها!
- توازن السوق بإشارة سالبة؟ مشادة أكاديمية صامتة!!
- من عصر الفوانيس إلى الطاقة الشمسية: جدل لا ينتهي
- الكرسي المكسور: ذكريات في عالم البيروقراطية الإدارية


المزيد.....




- إدارة ترامب تنشر 10 مقاتلات طراز F-35 لتعزيز مكافحة عصابات ا ...
- أحاجي في بلا قيود: لا يمكن محاربة الفساد إلا بتحقيق العدالة ...
- هل تخسر إسرائيل إذا جمدت اتفاق تصدير الغاز إلى مصر؟
- نبيل بنعبد الله يستقبل من طرف أمين عام حركة الشعب التونسية ب ...
- -جوبيتر-.. خطوة ألمانية عملاقة نحو ريادة الذكاء الاصطناعي في ...
- ترامب يريد تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب: استعراض ق ...
- لبنان: تنفيذ خطة نزع سلاح حزب الله مع إبقاء بنودها سرية
- ترامب يهاجم الصحافة في 3500 منشور خلال 10 سنوات
- لوموند: حكاية بلير محب الحروب وعاشق المال
- لماذا أطلق مرشحو الرئاسة الأميركية 2028 برامج بودكاست خاصة ب ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - الحانة الويلزية: ملتقى التاريخ الجامعي والتراث الفيكتوري