أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - ربطة العنق: متلازمة التعليم والأناقة في بغداد














المزيد.....

ربطة العنق: متلازمة التعليم والأناقة في بغداد


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8474 - 2025 / 9 / 23 - 00:13
المحور: قضايا ثقافية
    


في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لم تكن ربطة العنق مجرد تفصيلة بسيطة في الزي المدرسي، بل كانت رمزًا اجتماعيًا ومدرسيًا في آنٍ واحد ، ودلالة على انضباط داخلي وأناقة خارجية، ومؤشرًا صامتًا على وعي الطالب بذاته، وبدوره القادم في مجتمع ينهض بالعلم والذوق معًا.. انه زمن الأناقة في الصفوف الدراسية.

كانت الحياة المدرسية في معظم مدارس بغداد آنذاك قد انصهرت فيها أجيال من الشباب في منافسة خفية، تسودها موجات من الأناقة، تتقدّمها ربطة العنق بألوانها الزاهية، المحافظة في المظهر، والعميقة في المعنى.
ربطة لم تكن مجرد قطعة قماش تُلفّ حول العنق، بل كانت شعارًا غير مكتوب لطالب يتهيّأ لعبور مرحلة المراهقة، مزوّدًا بالعلم، ومحصّنًا بالذوق، ومشحونًا بطموح يليق بعصر كان يؤمن بالتكامل بين المعرفة والمظهر.

في ذلك الزمن، كانت المحال الراقية في بغداد – خصوصًا في شارع الرشيد – تعرض ربطات عنق أوروبية الصنع، تحاكي الموضة العالمية، وتجد طريقها إلى أعناق الطلبة الذين يرسمون بها ملامح مستقبل واعد، يبدأ من المقعد الدراسي ولا ينتهي الا عند عتبات الوظيفة.

في أحد أيام الربيع، كان لزامًا عليّ أن أتعلم كيف أربط ربطة العنق بنفسي. واحتدم النقاش بيننا، نحن الطلبة المراهقين، حول من يتمكن من ربطها بإتقان دون الحاجة إلى يد الأب أو الأخ الأكبر أو الجار.
لم يكن الأمر مجرد مهارة يومية، بل كان تمرينًا على الاستقلال وتنمية الثقة بالنفس.
كما كنا ننافس في الصفوف لنيل أعلى الدرجات، كنا نتسابق في اختيار أجمل ربطة عنق، وأفضل لفّة تمنحنا وقارًا بين الزملاء، وملامح أولية لرجولة قيد التكوين.. انه الدرس الاول في ربط الذات.

فحينما كانت الطبقة الوسطى تصنع الذوق.. كانت بغداد مدينة تنهض بشبابها من داخل المدارس، وتمنحهم مفاتيح العصر من خلال بيئة تعليمية تصقل الشخصية، وتغرس في الطالب شعورًا عميقًا بالمسؤولية تجاه ذاته ومجتمعه ، ويوم كان الذوق فيها مقرونًا بالمعرفة، والأناقة نابعة من وعي لا من تقليد.

لم تكن المدرسة مجرد مكان للتلقين، بل مسرحًا صغيرًا لحياة كبرى، تُؤدى فيه الأدوار بأزياء أنيقة وسلوك منضبط، تتوّجها ربطة عنق تليق بعصرٍ كانت فيه التفاصيل جزءًا من الكرامة.

لم ننته من تدوير زوايا العصر ، لنقف على انتقالات اخذتنا من زمن المعرفة إلى زمن الفوضى البصرية ..!
كان ذلك عصر المعرفة ، حينما كانت المكتبات والصحف الورقية ورفوف الكتب تشكّل جزءًا من الحياة اليومية تمامًا كما كانت ربطة العنق جزءًا من هوية الطالب.

أما اليوم، فقد دخلنا عصر المعلوماتية ، اذ غابت ربطة العنق عن أعناق الطلبة، لتحلّ محلّها ملابس شبه رياضية ولكن دون رياضة و تخلو من ملامح الوقار، وتغرق في تداخل لونيٍّ مبهم، لا يفكّ شفرته إلا فنانٌ من طينة دافنشي، يرى في الفوضى نظامًا، وفي العشوائية معنى.

ربما قرأ الجيل الراهن رواية “شفرة دافنشي” للمؤلف الأمريكي دان براون، التي صدرت في العام 2003 وتحولت إلى فيلم شهير في العام 2006، حيث تدور أحداثها حول محاولة فك رموز غامضة مرتبطة بأعمال الفنان ليوناردو دافنشي، وتطرح نظرية مثيرة للجدل حول أسرار الكنيسة ورسائل مخفية في لوحات مثل “العشاء الأخير”.
لقد عدّ دان براون المولود في العام 1964 من أكثر الكتّاب تأثيراً في الأدب المعاصر، وقد وصفته مجلة تايم بأنه من بين أكثر من 100 شخصية تأثيراً في العالم بعد نجاح روايته شيفرة دافينشي اعلاه.

وفي مفارقة زمنية، يبدو أن الجيل الحالي يعيش فوضى ملبسه على نحو رمزي مشفّر، كما لو أنه يستعين برموز خفية ليُحلّل ذوقه ويُعرّف هويته.
لكن هذه الرمزية لم تأتِ من الفن أو الثقافة كما كانت سابقًا، بل من واقع رقمي معقّد، تحكمه خوارزميات الموضة السريعة، وتتسيّده “ماركات” عالمية – حقيقية أو مقلدة – لا يعرف الكثيرون عنها سوى اسمها اللامع.

لقد غادرت ربطة العنق كتوقيع للمعرفة وأناقة السلوك ، كما غادرتنا المجلات والصحف الورقية، ودخلنا زمنًا بات خاليًا من تجانس الذوق، خاضعًا لتطبيقات مظهرية سريعة الزوال، وباتت فيه الهوية شفرة محاطة بشعارات لا تُفسّر، وإنما تُقلّد.
ومع ذلك، تبقى ربطة العنق شاهدة صامتة على زمنٍ كان فيه التعليم أناقة، والأناقة علمًا، والطالب مشروعًا وطنياً صغيرًا… يتربى على دفاتر المدرسة، ويتكوّن المستقبل حول عنقه.
إنه عصر المعرفة الذي مضى، قبل أن يُستبدل بـ عصر المعلومات، ونحن في طريقنا إلى الثورة الصناعية الخامسة، حيث لم يعد المظهر رفيقًا للمعرفة، بل تموضع في فضاء مختلف، لاتقوده الذائقة بل الشيفرات الرقمية الاكثر تعقيداً.
انتهى ////



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حرب السويس تشتعل… وخالتي تبحث عن ابنها
- حكاية خبز .. بين أمستردام ومدينتي
- جون تايلور في بغداد: حين التقت السياسة النقدية بجنرالات اللي ...
- نزار قباني على رصيف الذكرى… ليتني لم أره فرحًا
- مؤتمر باندونغ: يوم هزّ عرش طفولتي
- الحانة الويلزية: ملتقى التاريخ الجامعي والتراث الفيكتوري
- ساعة اليد المتواضعة: الزمن مرآت للطبقات
- زيمبابوي : درس في الانكسارات الاقتصادية
- راس المال الرمزي تحت جدران المدينة المحرمة.
- الصدمة الثقافية: جوهر الانسان و وهم الاختلاف
- دموع الذكريات على سفوح الجبال
- الهوية واللغة والطبقة الاجتماعية: بين ويليام لابوف وإبراهيم ...
- قصابون من نوع آخر..! من دفاتر مفاوضات اقتصادية في لندن …إنه ...
- كارل ماركس في العصر الرقمي: من مانهاتن إلى الاغتراب الآلي
- صيد التروتة من ينابيع الجبال
- مدينةٌ تخفت في جلابيبها.
- سان فرانسيسكو: قوة تكنوقراط ناصحة !
- في الطريق إلى هوليوود: مفارقات لا تنتهي
- الحادي والعشرون من ديسمبر… النور الذي يسبق العاصفة
- المثقف المشرقي على مصفوفة الوحدة : بين ألتوسير وفوكو ودريدا


المزيد.....




- سوريا تشن حملة ضد تنظيم داعش قبيل زيارة مرتقبة للشرع إلى أمر ...
- حماس تعلن العثور عليه.. من هو هدار غولدن الذي فشلت إسرائيل ف ...
- بوندسليغا.. بايرن ميونخ يفلت من الهزيمة أمام أونيون برلين
- طهران تشهد أزمة جفاف غير مسبوقة منذ 60 عاما
- علي مهدي: -ما يحدث في السودان هو تمرد قوة باطشة على الدولة- ...
- ترامب والدميوقراطيون ...من سيدفع ثمن أطول إغلاق حكومي؟
- إصابة فلسطينيين وصحافية في رويترز بهجوم شنه مستوطنون إسرائيل ...
- السودان : لماذا يتواصل الصراع في ظل لامبالاة دولية ؟
- بدو السويداء النازحون: تراجع الأمل بعودة قريبة وسط استمرار ا ...
- رئيس جيبوتي يعلن ترشحه لولاية سادسة


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - ربطة العنق: متلازمة التعليم والأناقة في بغداد