أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - ذكريات لا تنسى / ١














المزيد.....

ذكريات لا تنسى / ١


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8468 - 2025 / 9 / 17 - 16:25
المحور: الادب والفن
    


خلف السدّة: طفولة على ضفاف الطين والماء

هل جربت أن تسمع كلمة لا تفهم معناها، لكنها تبقى محفورة في ذاكرتك كجرح غامض؟
كنتُ صغيراً حين سمعت الكبار يتهامسون: "هاي كلها حرام وراح تطلع حوبتهم بينه "
لم أفهم الكلمة، لكنني رأيت الرجال يحملون أثاثاً غريباً عبر "البلم"، والكبار يقولون إن العائلة المالكة قُتلت، وإن قصورهم نُهبت. اي ما يعرف اليوم " حواسم ".
كنت أرى دجلة يبتلع كل تلك المشاهد بصمته، بينما نحن على ضفة "شطيط"، النهر الأسود، نراقب من بعيد كأننا في مسرح لا نفهم قصته.
في تلك اللحظة أدركت أن هناك عراقين: عراق القصور وعراق الصرائف. وبينهما سدّة عالية من طين وحزن.
ثم تمسكني أمي من يدي، وتجرّني نحو المدرسة. أولى خطواتي كانت في مدرسة ابن الجوزي. أنهيت سنتي الأولى بنجاح، لكنها لم ترتح لبُعد الطريق. كانت تقول لي كل صباح:
ـ "يمّه، آني كلبي مو مطمّن، الدرب طويل عليك."
وحين افتتحت مدرسة الشقائق قريبة منا، أمسكت بيدي بقوة وقالت:
ـ "تعال يمه، خل نروح عالمدرسة الجديدة، ترتاح إنت وأرتاح آني."
سألتها بخوف:
ـ "يمّه، المعلّم هُم يضرب؟"
ضحكت وربّتت على كتفي:
ـ "لا تخاف، مو كل المعلمين يضربون. إنت بس كون مؤدّب، والمدرسة تصير بيتك الثاني. وبعدين هنا ماكو معلّمين… كلهم معلّمات."
كانت كلماتها مثل ماء بارد على قلبٍ عطِش.
وفي السوق، كنتُ أتشبث بعباءتها وهي تتنقّل بين الباعة. أصواتهم تتزاحم:
ـ "طماطة حمره مثل خدود العروس!"
ـ "بصل بفلسين… رخيص اليوم!"
وأنا أضحك وألتفت، فتشدّ يدي وتقول:
ـ "ولَك لا تنشغل! خليني أشتري ونرجع بسرعة."
في الطريق، أسمع همسات الرجال وهم يتناقشون:
ـ "الزمان تغيّر… من قتل الملك ما عاد الأمان."
ـ "هاي الدنيا، يا أخوي، كلشي يصير بيها."
وأنا أنظر إلى وجوههم ولا أفهم سوى أن شيئاً كبيراً قد انكسر.
بعد الظهيرة، تعود الطفولة إلى مسرحها في الأزقة. نلعب الطوبة ونصرخ:
ـ "ولَك كاظم، لا تغش!"
ـ "لا يابا، الطوبة جوّه الخط!"
ثم نجلس على عتبات البيوت نأكل خبز التنور الحار. لم نكن نملك لعباً فاخرة، لكننا اخترعنا عالماً كاملاً من الطين والقصب.
وفي الليل، يشتعل الفانوس واللوكس، صوته يشبه أنيناً خافتاً. يجتمع الرجال عند بابه يتحدثون عن الأسعار والعمل، النساء يروين قصصاً قديمة، والأطفال يلهون بظلال أيديهم على الجدران. أسمع جارنا يقول وهو ينفث دخان سيكارته:
ـ "الدنيا بخير ما دام الأولاد يدرسون."
وأمي تبتسم وتربّت على كتفي، وكأنها ترسم لي طريق الخلاص من الطين.
لكن الليل لا يبقى هادئاً طويلاً. فجأة يخترقه هدير الطائرات. الجيران يركضون إلى بيتنا، الوجوه شاحبة، الأطفال يبكون. أمي تضمّني وتهمس:
ـ "يمّه، لا تخاف، الله ويانه."
وبعد دقائق، يأتي الخبر: وزارة الدفاع قُصفت… والزعيم عبد الكريم قاسم قُتل. لم أفهم السياسة، لكنني فهمت أن السماء تستطيع أن تغيّر مصير بلد بأكمله.
وهكذا، ارتبطت طفولتي خلف السدّة بكل تلك المشاهد: دجلة الذي يبتلع الأسرار، "شطيط" الذي يعكس الفقر، العائلة المالكة المقتولة، الحواسم التي سرقت قصورهم، الزعيم الذي لوّح لنا يومًا في بارك السعدون، ثم سقط تحت الطائرات.
كانت طفولة فقيرة، لكنها مليئة بما لا يُشترى: خبز التنور، حنان الأم، ضوء الفانوس واللوكس، وضحكة الأطفال التي تهزم الفقر والخوف.
لقد كانت أمي النغمة الثابتة وسط ضجيج الأيام؛ بعباءتها التي تستر خوفي، بكلماتها التي تفتح لي أبواب المدرسة، وبابتسامتها التي تهزم الطائرات والظلام. كانت الوطن الصغير الذي أحمله معي أينما ذهبت.
ولعل السؤال الذي يلاحقني حتى اليوم :
هل كنا نحن الذين عبرنا السدّة… أم أن السدّة هي التي عبرت بنا إلى قسوة الحياة؟



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات لا تُنسى / ٢
- ذكريات لا تموت
- الزانية
- حين صار الحزن انا
- انتظر .... عسى الله يفرجها
- ابتسامة على دفتر الدَّين
- نزف الغياب
- ظلّ البطاقة
- لقاء الأرواح
- أبنة السجان
- السيّار… حين يتوقف الحديد وتتحرك القلوب
- الرصاصة الرابعة
- الجندي المجهول _ حكاية الهوية العراقية
- نور في العتمة
- أشبيدي آنه ؟
- صوت وطن
- الضفة الاخرى
- مدرسة الطين
- عقاب الماء البارد
- ومضات العمر


المزيد.....




- -أنخاب الأصائل-.. إطلالة على المبنى وإيماءة إلى المعنى
- -الأشرار 2- مغامرات من الأرض إلى الفضاء تمنح عائلتك لحظات ما ...
- محمد حلمي الريشة وتشكيل الجغرافيا الشعرية في عمل جديد متناغم ...
- شاهد رد فعل هيلاري كلينتون على إقالة الكوميدي جيمي كيميل
- موسم أصيلة الثقافي 46 . برنامج حافل بالسياسة والأدب والفنون ...
- إندبندنت: غزة تلاحق إسرائيل في ساحات الرياضة والثقافة العالم ...
- إندبندنت: غزة تلاحق إسرائيل في ساحات الرياضة والثقافة العالم ...
- مسرح الحرية.. حين يتجسد النزوح في أعمال فنية
- مسرح الحرية.. حين يتجسد النزوح في أعمال فنية
- أبحث عن الشعر: مروان ياسين الدليمي وصوت الشعر في ذروته


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - ذكريات لا تنسى / ١