أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - ذكريات لا تُنسى / ٢














المزيد.....

ذكريات لا تُنسى / ٢


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8467 - 2025 / 9 / 16 - 10:24
المحور: الادب والفن
    


دموع المعلّمة ودفتر المواصلات

التقيتُ زميلي كاظم عداي ذات صباح عند ضفة دجلة. كان الزمن قد أثقل ملامحه، لكن عينيه ظلّتا تحملان نفس البريق القديم. جلسنا متجاورين، نتابع الماء وهو يجري، قبل أن يقول بصوت متعب:
ــ "سمعت بالخبر؟… معلمتنا بهيجة توفاها الله."
ساد بيننا صمت عميق، كأن دجلة نفسه توقف احترامًا. ارتسمت في ذاكرتي صورتها يوم التخرج من الصف السادس، دموعها وهي تودّعنا واحدًا واحدًا، كأنها أم تفارق أبناءها.
التفت إليّ كاظم مبتسمًا وسط حزنه وقال:
ــ "تتذكر شلون جانت المنافسة بينه؟ والله لا غش ولا لعب. كل واحد من عدنه يدرس ويتعب، ويكيف إذا سبق الثاني بدرجة."
ضحكت وقلت له:
ــ "إي والله… إنت جنت شاطر حيل.
مرات أگول: لولا كاظم، چان يمكن ما اجتهدت أهواي."
هز رأسه وقال:
ــ "وأنا هم. المنافسة بينه جانت مثل سباق نظيف، يخلي كل واحد يطلع أحسن ما عنده."

وانسابت الصور في ذاكرتي… صرائف خلف السدة، بيتنا الصغير من الطين والقصب، أمي تمسك بيدي ويد أخي الأكبر متوجهة إلى مدرسة ابن الجوزي. أخي لم يحتمل البقاء، ترك الدراسة من أول يوم، أما أنا فقد تشبثت بمقعدي وأكملت عامي الأول بنجاح.
لكن بُعد المدرسة كان مرهقًا، وحين افتُتحت مدرسة جديدة في بارك السعدون اسمها الشقائق، سجّلتني أمي فيها. هناك رأتني معلمتي متفوقًا منذ البداية، فسألتني بدهشة:
ــ "إنت خريج كتاتيب (ملّة)؟"
ابتسمت بخجل ورويت لها عن مدرسة ابن الجوزي.
وفي اليوم التالي، أخذتني أمي مع معلمتي إلى المديرة، وشرحتا لها أنني اجتزت الصف الأول بنجاح، وأنا من حقي الانتقال. لكن المديرة أجابت بحزم:
ــ "الفصل بدأ من أكثر من شهر… وما يصير ننقله."

خرجتُ من المكتب محبطًا، لكن داخلي كان مليئًا بالفخر، فقد رأيت أمي ومعلمتي تدافعان عني وكأنني كنز لا يُفرَّط به.
وفي بداية الصف الرابع، حين انتقلنا إلى مدينة الثورة، كدت أن أترك المدرسة لعجزي عن دفع أجور مواصلات باص المصلحة لكن معلمتي رفضت ذلك، وفي صباح لن أنساه، مدت يدها وأعطتني دفتر مواصلات اشترته من مالها الخاص. أمسكتُه كأنني أمسك مفتاح المستقبل، وأحسست أن أوراقه تحملني كل صباح من الثورة إلى الشقائق.

وهناك بدأت رحلتي مع كاظم. كنا نتنافس في كل امتحان، وكل واحدٍ منّا يريد أن يسبق الآخر بدرجة، ثم نضحك معًا بعد أن تعلن النتائج. وحين جاءت الطالبة المسيحية من الموصل في الصف الخامس، أضافت منافسة جديدة زادت من حماسنا، وأثبتت لنا أن العلم لا يعرف دينًا ولا حدودًا.
قال كاظم وهو يتنهّد:
ــ "كلما أتذكر صوت ست بهيجة وهي تناديني: (كاظم، ارفع راسك)، أحس إنها چانت تناديني للحياة، مو بس للدرس."
أجبته بابتسامة حزينة:
ــ "وأنا كلما أتذكر دموعها يوم التخرج، أحس إنها چانت توصينا نكمل الطريق… حتى لو الدنيا ضاقت بينا."

بقي دجلة حاضرًا في حياتي، أعود إليه كلما أثقلتني الهموم. وحتى بعد أن أصبحتُ عميدًا في الجيش، كانت دائرتي بجانب مدرسة الشقائق نفسها. كنت أراها من نافذتي كل يوم، وأبتسم بيني وبين نفسي: هنا بدأت الخطوة الأولى… وهنا ما زالت ذكراها ترافقني.
وقبل أن نفترق عند النهر، رفعتُ بصري فرأيتها بعين الخيال: معلمتنا بهيجة واقفة عند باب المدرسة، ثوبها الأبيض يلوّح في الريح، وابتسامة دافئة على وجهها. كان صوت الجرس يتردد في أذني، ورائحة الطباشير تعبق في الهواء. نظرت إلينا كأنها تقول: وفيتما بالعهد… فامضيا مطمئنين.
مدّ كاظم يده يصافحني وهو يتمتم :
ــ "رحلت بهيجة… بس بعدهة عايشة بينه."
شدَدتُ على يده وقلت:
ــ "إي… مثل دجلة، يجري وما يوكف."



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات لا تموت
- الزانية
- حين صار الحزن انا
- انتظر .... عسى الله يفرجها
- ابتسامة على دفتر الدَّين
- نزف الغياب
- ظلّ البطاقة
- لقاء الأرواح
- أبنة السجان
- السيّار… حين يتوقف الحديد وتتحرك القلوب
- الرصاصة الرابعة
- الجندي المجهول _ حكاية الهوية العراقية
- نور في العتمة
- أشبيدي آنه ؟
- صوت وطن
- الضفة الاخرى
- مدرسة الطين
- عقاب الماء البارد
- ومضات العمر
- دم في نفس الشارع


المزيد.....




- سميرة توفيق في أبوظبي: الفن الأصيل ورمز الوفاء للمبدعين العر ...
- -الخارجية- ترحب بانضمام الخليل إلى شبكة اليونسكو للمدن الإبد ...
- جمعية الصحفيين والكتاب العرب في إسبانيا تمنح ‏جائزتها السنوي ...
- فيلم -Scream 7- ومسلسل -Stranger Things 5- يعدان بجرعة مضاعف ...
- طبيبة نرويجية: ما شاهدته في غزة أفظع من أفلام الرعب
- -ذي إيكونومست- تفسر -وصفة- فنلندا لبناء أمة مستعدة لقتال بوت ...
- لن تتوقع الإجابة.. تفسير صادم من شركة أمازون عن سبب تسريح نح ...
- حزب الوحدة ينعى الكاتب والشاعر اسكندر جبران حبش
- مسلسلات وأفلام -سطت-على مجوهرات متحف اللوفر..قبل اللصوص
- كيف أصبح الهالوين جزءًا من الثقافة السويسرية؟


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - ذكريات لا تُنسى / ٢