أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - يتيم














المزيد.....

يتيم


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8463 - 2025 / 9 / 12 - 14:00
المحور: قضايا ثقافية
    


اليُتم كلمة ضيقة، لكن معناها بحر لا ضفاف له. الناس حين يسمعونها يتبادر إلى أذهانهم صورة الطفل الذي فقد أباه أو أمه، لكن الحقيقة أوسع وأشدّ قسوة من هذا التعريف البسيط. اليُتم ليس موتاً جسدياً فقط، بل موت المعنى فينا، موت السند الذي نتكئ عليه، موت الأمان الذي كنّا نراه في العيون أو نسمعه في الأصوات. اليتيم الحقيقي هو ذاك الذي يُفقد فجأة حضوره في العالم، فيجد نفسه وحيداً في مواجهة العاصفة، لا مظلة فوق رأسه ولا يد تشدّ على يده.
الإنسان، بطبيعته، يولد ناقصاً، هشّاً، محتاجاً إلى الآخر، إلى الحب، إلى الوطن، إلى الأفق الذي يمنحه معنى. فإذا ما انسحب هذا الآخر أو غاب ذلك الوطن، تُرك الإنسان عارياً أمام برودة المصير. عندها يبدأ اليُتم كجرحٍ فلسفي لا يلتئم، كغربة تتجاوز حدود اليُتم الطفولي إلى يتْم الوجود ذاته. كم منّا يتيم وهو بين أهله، يجلس في البيوت العامرة بالناس لكنه لا يجد قلباً يتّسع لروحه! وكم منّا يتيم وهو في وطنه، يرفع نشيده كل صباح لكنه لا يسمع إلا صدى الغربة يتردّد في داخله!اليُتم ليس عجزاً عن الحياة، بل اختبار عسير: كيف تبني نفسك في غياب الأبوة الكبرى، غياب اليد التي تُمسك بك عند السقوط؟ كيف تعيد تعريف الحنان حين يغيب مصدره، وكيف تخلق من شظاياك أفقاً جديداً؟ إن اليتيم في جوهره هو الإنسان المعرَّى من كل زينة، الملقى في العراء كي يختبر صلابته.لكن المفارقة أنّ اليُتم قد يكون أعظم مدرسة. ففي حضن الفقد يتعلّم المرء أن يكون لنفسه كل شيء: أن يكون أباً حين يحتاج إلى سند، وأماً حين يفتش عن دفء، وأخاً حين يطلب عزاء، وصديقاً حين يواجه فراغ العالم. إن اليُتم يُجبرك على اختراع نفسك من العدم، وعلى أن تزرع الأمل في تربة مقفرة، وأن تُشعل نارك بعود ثقاب وحيد في صحراء الليل.في الفلسفة الوجودية، اليُتم ليس حالة اجتماعية بل قدر إنساني شامل. نحن جميعاً أيتام أمام هذا الكون الصامت، أيتام أمام الأسئلة التي لا يجيب عنها أحد، أيتام أمام موتٍ نعرف أنه قادم ولا نعرف متى. اليتيم هو كل إنسان حين يكتشف أنه في النهاية وحيدٌ تماماً في مواجهة قدره، وأنه مهما اجتمع حوله الناس فإن الطريق الأخير سيمشيه بمفرده.ومع ذلك، من قلب هذا اليُتم تنبثق أعظم طاقات الخلق. فالمبدع في جوهره يتيم: يتيم من التقاليد، من الأجوبة الجاهزة، من السند الذي يمنحه راحة العقل. لهذا يكتب، لهذا يرسم، لهذا يغني، لأنه يحاول أن يعوّض فقدانه بحضرة جديدة من المعنى. والأنبياء والمصلحون كانوا أيتاماً بمعنى ما، لأنهم جرّبوا الوحدة في أعمق صورها، واكتشفوا في العزلة وجهاً آخر للحقيقة لم يرَه غيرهم.
إن اليتيم ليس ضعفاً، بل هو نداء إلى القوة الخفية التي تسكن في أعماقنا. هو الباب الذي يُدخلنا إلى عوالم لم نكن نعرف أننا قادرون على اجتيازها. من فقد أباً تعلّم أن يكون أباً لذاته، ومن فقد وطناً تعلّم أن يحمل وطنه في صدره، ومن فقد حبّاً صار قادراً على أن يمنح العالم حبّاً أكبر.في النهاية، نحن جميعاً أيتام في حضرة الزمن. الزمن يسرق طفولتنا وأماننا وأحبابنا واحداً تلو الآخر، حتى نصبح غرباء عن كل ما كان يوماً لنا. لكن عزاءنا أن اليُتم، مهما كان جارحاً، هو الذي يمنح الروح صلابتها، وهو الذي يجعلنا نرفع رؤوسنا في وجه الريح ونقول: ما زلنا هنا، ما زلنا قادرين على الحب، على الإبداع، على أن نكون بشراً رغم كل فقد.اليُتم قدر، لكنه أيضاً ولادة أخرى. ولادة الذات من رمادها، وصعود الإنسان من فوضى الغياب إلى بهاء الحضور. فكل يتيم، في سرّ وحدته، يكتشف أنه ليس وحده أبداً، لأن العالم كلّه يتيم، والسماء وحدها هي الأم الكبرى التي تظلّ تفتح ذراعيها لكل العابرين.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السينما الموءودة
- التفاهة والسفاهة: السرطان الذي يأكل الأدب العربي في القرن ال ...
- المال والسعادة.. جدل الإنسان بين وفرة الجيب وفراغ القلب
- الندم الكبير وضياع السيادة في زمن الضربات المتقاطعة...
- غبار المنافي المنقّحة
- حين يغدو البعد معبدًا للحب
- الوطن يختنق بخوفنا
- البعد
- ريما حمزة.. أنثى الوتر ومرآة البازلت
- حامد الضبياني: شاعر وفيلسوف الكلمة العربية المعاصرة بقلم فرح ...
- أوتار بابل ونايات الرافدين: الموسيقى في الحضارة العراقية وأص ...
- ميلاد النور
- الضبياني… مراثي الطاعة وأغاني الحرية
- اتركوا بهرز لأهلها
- أول من نطق العربية: بين الأسطورة والتاريخ
- حين تُصبح السيولة سراباً.. المتقاعد بين جدار الجوع وجدار الس ...
- على رصيف الانتظار
- على سُلَّم العشق
- أنا لا أرى غيرَك
- عندما تبتلع الرمالُ أقدام الممالك


المزيد.....




- أحمد الشرع: إسرائيل -تفاجأت- بسقوط الأسد.. وتفاوضنا مع روسيا ...
- مَن هو لاري إليسون الذي انتزع لقب -أغنى رجل في العالم- من إي ...
- ما نعرفه عن تايلر روبنسون، المشتبه به في قتل تشارلي كيرك
- أزمة غير مسبوقة بين باريس والجزائر: أكبر خلاف دبلوماسي منذ ا ...
- احتفالات شعبية في البرازيل عقب الحكم التاريخي بسجن بولسونارو ...
- شركات السيارات الألمانية أمام اختبار حقيقي في معرض IAA
- ترامب يقول إن صبره حيال بوتين -ينفد سريعا- ويشير إلى ضرورة ت ...
- ما مضمون إعلان -نيويورك- بشأن حل الدولتين؟
- ميديا بارت الفرنسي: هكذا تعمل آلية قتل الجوعى في غزة
- -حماس- تُعلق على مصير خليل الحية بعد الهجوم الإسرائيلي في ال ...


المزيد.....

- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - يتيم