المال والسعادة.. جدل الإنسان بين وفرة الجيب وفراغ القلب

حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8461 - 2025 / 9 / 10 - 11:00
المحور: قضايا ثقافية
    

منذ أن فتح الإنسان عينيه على العالم، ووجد نفسه يتدافع في الأسواق، يلهث وراء لقمةٍ أو درهمٍ أو كنزٍ خفي، لم يتوقف عن طرح السؤال ذاته: هل المال هو الطريق إلى السعادة؟ وهل يكفي الذهب كي يزرع في القلب نورًا وفي الروح سكينة؟ أم أن السعادة أكبر من أن تُختزل في عملة معدنية أو ورقة خضراء أو أرقام تتراقص في حساب مصرفي؟المال بلا شك ركيزة من ركائز الحياة، يمنح صاحبه الأمان من قسوة الحاجة، ويقيه مذلة السؤال، ويعطيه القدرة على تذوق متعٍ كثيرة من سفرٍ وفنون وتجارب. فمن لا يملك المال، غالبًا ما يعيش قلق الضرورة، محاصرًا بضيق الخيارات، مثقلًا بعبء الغد المجهول. لكن المال، مهما تراكم، لا يضمن لصاحبه ابتسامةً دائمة، ولا يمنحه قلبًا مطمئنًا، بل ربما صار لعنةً تلتف حول عنقه كأغلال من ذهب.إن السعادة الحقيقية لا تسكن الجيوب، بل تستقر في الأعماق. هي شعور داخلي يتشكل من رضًا عميق بالذات وبالوجود، من قدرة الإنسان على التوازن بين ما يملك وما يحلم به، بين ما يتوق إليه وما هو متاح له. السعادة ليست وفرةً في الخزائن، بل طمأنينة تجعل الفقير الغنيّ بما بين يديه، وتحوّل القليل إلى كثير. وقد كان الفلاسفة يرددون أن السعادة هي فنّ العيش لا وفرة العتاد، وأن الثراء الذي لا يتبعه معنى ليس إلا فقراً مستوراً.كم من غنيّ يمشي في قصوره بين المرايا الباذخة لكنه يعاني وحدةً قاتلة، وكم من فقيرٍ يجلس مع أطفاله في غرفة ضيقة، يتقاسم كسرة خبز، ويضحك بملء قلبه كأن الدنيا كلها ملك يمينه. المال يمنح راحة الجسد لكنه لا يضمن سلام الروح، يشتري الدواء ولا يشتري العافية، يشيّد البيوت ولا يغرس الدفء، يقرّب الوجوه لكنه لا يوصل القلوب.السعادة ليست تكديسًا للثروة بل هي حالة من الانسجام بين الإنسان ونفسه، بين القلب ومصيره، بين الروح ومسارها في رحلة الوجود. إنها في لحظة حب صادق، في ابتسامة عابرة، في يد تمتد لتساندك، في كلمة تشعرك أنك لست وحيدًا في هذا الكون الواسع. هي في الحرية التي تسمح لك أن تختار، في الغاية التي توقظك كل صباح لتواصل الطريق، في الجمال الذي يتسرب من لوحة فنية أو قصيدة أو نافذة تطل على شروق الشمس.المال إذن ضرورة لكنه ليس الكمال. هو وسيلة لكنه لا يتحول إلى غاية إلا إذا فقد الإنسان بوصلته. فالأمان المادي يهيئ أرضًا صالحة لبذور السعادة أن تنمو، لكنه لا يضمن ثمارها. فكم من أرض خصبة لم تُزرع، وكم من قلوب امتلأت بالمال وخسرت نفسها.إن السعادة الحقيقية هي أن يتصالح الإنسان مع نقصه، أن يرى في القليل وفرة، وفي الألم معنى، وفي العمر القصير فسحة للبهجة والخلق. المال يضيء الطرقات لكنه لا يمنحك الشمس، يفتح الأبواب لكنه لا يعبر بك إلى الراحة الداخلية. هو ظلّ للسعادة لا صورتها، صدى لطمأنينة لا جوهرها.وفي النهاية يبقى السؤال معلقًا في وجدان البشر: هل المال أحد أسباب السعادة؟ نعم، لكنه ليس السعادة نفسها. هو خادم إن أحسنا توجيهه، وعدو إن استعبد قلوبنا. فالسعادة لا تُشترى، لأنها هبة الروح الحرة حين تجد معناها، وتكتشف أن الفرح ليس في ما تملك، بل في كيف ترى ما تملك، وكيف تحيا بما هو بين يديك.

#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل