أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حين تُصبح السيولة سراباً.. المتقاعد بين جدار الجوع وجدار السياسة














المزيد.....

حين تُصبح السيولة سراباً.. المتقاعد بين جدار الجوع وجدار السياسة


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8454 - 2025 / 9 / 3 - 08:27
المحور: قضايا ثقافية
    


لم يكن المتقاعد العراقي يتخيل أن رحلة العمر التي قضى نصفها في الخدمة العامة، وفي المعسكرات، وفي دوائر الدولة، ستنتهي به واقفاً في طابور انتظار طويل عند أبواب المصارف، يترقب خبراً عن راتبٍ لم يعد ميسوراً كما كان. وزارة المالية تتحدث ببرود عن غياب السيولة النقدية، وكأن الأمر حدث عابر، بينما الحقيقة التي يعرفها المواطن من خلال الألم لا من خلال البيانات الرسمية، أن السيولة لم تذهب إلى الغيب، بل تبعثرت بين دهاليز السياسة والاقتصاد، وتاهت في طرقات غير معلومة، حتى غدت مجرد وهم، وسراب يطارد العطشى في صحراء الوطن.يتساءل العراقي وهو يتابع الأرقام الصادمة لمزاد العملة في البنك المركزي، الذي يبيع يومياً أكثر من ربع مليار دولار، عن سرّ هذه المفارقة: كيف يعجز بلد يفيض بالدولارات عن دفع رواتب أبنائه؟ الإجابة التي لا تعلن رسمياً لكنها معروفة في أوساط الخبراء، هي أن العملة المحلية لم تعد كلها صافية، بل دخلتها كميات مزورة عبر مصارف تابعة لنفوذ خارجي، تعمل بواجهات عراقية لكنها في حقيقتها امتداد لمصالح خارج الحدود. هذه المصارف تشتري الدولار، تهرّبه بعيداً، وتترك أوراقاً مزورة يجمعها البنك المركزي ثم يتلفها، ليكتشف المواطن فجأة أن سيولته الوطنية تحولت إلى رماد، وأن الجار المحاصر قد وجد في الداخل من يخدمه، فيما الجائع في الداخل يمد يده ولا يجد سوى الريح.
المتقاعد الذي أفنى عمره في خدمة الدولة ليس خبيراً بالاقتصاد، لكنه يعرف أن لقمة عيشه أصبحت أسيرة لعبة أكبر منه، لعبة تتشابك فيها خيوط السياسة الخارجية مع عجز الإدارة الداخلية، حتى صار راتبه مجرد ورقة تنتظر توقيعاً مؤجلاً أو قراراً مصلحياً. وهو يتذكر أن رئيس الوزراء الذي يقف اليوم في صدارة المشهد كان بالأمس القريب من أبرز من دافعوا عن حقوق المتقاعدين، وكان يرفع صوته بضرورة تطبيق القوانين التي تضمن لهم حياة كريمة، وكان يستشهد بالمادة ستة وثلاثين وأربع عشرة، ويعلن أنه لن يسكت عن ظلمهم، لكنه حين وصل إلى الكرسي تغيّر الخطاب، وانقلبت الموازين، وإذا بالمدافع يصبح صامتاً، وإذا بالوعود تتحول إلى دخان يتلاشى في الهواء.

إن المتقاعد العراقي يقارن بمرارة بين وضعه وما يراه في العالم من حوله، حيث يحصل الطفل في أوروبا على إعانات تفوق ما يتقاضاه هو بعد عشرات السنين من الخدمة، وخاصة أبناء رفحاء الذين خرجوا في ظروف مختلفة يتقاضون ضعف راتب من دافع عن حدود الوطن وأمنه. في الوقت الذي يقف هو فيه أمام شباك الصرف، ليدخل عبر مكاتب التحويل التي تحسب الدولار بأربعة أضعاف قيمته، فلا يكاد يصل راتبه بين يديه حتى يتبخر. وكأن العمر كله انتهى في صفقة غير عادلة، صفقة جعلت من الشيخوخة جوعاً، ومن التضحية خيبةً، ومن الولاء للوطن مدعاةً للعوز.
الأزمة لم تعد اقتصادية وحسب، بل أصبحت سؤالاً فلسفياً عن معنى الدولة نفسها: ما جدوى دولة لا تفي بحقوق أبنائها؟ ما جدوى وطن يُقدَّم على مذبح المصالح الخارجية، بينما المتقاعد الذي حمل سلاحه يوماً أو جلس خلف مكتبه عقوداً طويلة يمد يده لأولاده خجلاً؟ هل السيولة ورق يتلف في أقبية المصارف أم أنها روح الثقة بين المواطن والدولة؟ فإذا تلف الورق فربما يعوض، أما إذا تكسرت الثقة فكيف ترمم؟
لسنا ضد حسن الجوار، ولا ضد تبادل المنافع، لكن هل يجوز أن يضحي بلدٌ بسيولة شعبه من أجل خدمة غيره؟ هل يجوز أن يصبح المتقاعد ضحية لعبة دولارات تتسرب إلى الخارج، فيما هو يبحث عن ثمن الدواء ورغيف الخبز؟ إنها مأساة أخلاقية قبل أن تكون أزمة مالية، مأساة تختزلها صورة رجل مسن يجلس على كرسي متهالك في رصيف أحد المصارف، ينتظر خبراً عن راتبه المؤجل، بينما الأطفال في بلدان أخرى يتقاضون إعاناتهم بانتظام دون قلق ولا انتظار.لقد غدا المتقاعد في العراق شاهداً على فلسفة قاسية، فلسفة تقول إن الكرسي حين يُمتلك يتحول إلى جدارٍ من الصمت، وإن السيولة حين تهرب تصبح مثل السراب، تلمع في الأفق لكنها لا تروي العطش. وبين الجدارين يقف المتقاعد، يطرق بيده العجوز على باب مغلق، ويسأل: هل أستحق بعد كل هذه السنين أن أصبح رقماً مؤجلاً، وأن يتحول راتبي إلى لغز سياسي، وأن أعيش شيخوختي أسيراً للجوع والانتظار؟..هكذا يُختصر المشهد: وطن يفيض بالثروات، وبنك يبيع بالدولار كل يوم، وساسة يوزعون الوعود، ومواطن متقاعد لا يملك سوى أن يعد أيامه بانتظار راتب لم يأتِ. وربما يستطيع البنك المركزي أن يتلف ورقة مزورة، وربما يستطيع المسؤول أن يجمد مادة قانونية، لكن لا أحد يستطيع أن يتلف صرخة الجائع حين يكتشف أن كل ما ضحى به صار مجرد سراب.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على رصيف الانتظار
- على سُلَّم العشق
- أنا لا أرى غيرَك
- عندما تبتلع الرمالُ أقدام الممالك
- وعد الحُلم
- الهويدر.. أغنية القدّاح على ضفاف ديالى
- -قلب الأنقاض الذي يتنفس-
- فقاعات الزمن: المدينة التي تسبح في الخيال
- كنفاس الشوق في منفى الروح
- نشيد الشوق
- الأمة بين سيف الغزاة وخيانة الأقرب -
- فضل شاكر.. العائد من غياب الحنين
- صباحُكِ ريما
- -ريما.. سفر العاشقين-
- المدن الغارقة: عندما تختفي حضاراتنا تحت الماء
- الأصوات الضائعة: المرأة في الظل الأدبي العربي القديم
- الغزو بالصناديق أم بالصوارم؟ حينما يتحول الإعلامي إلى -طبّال ...
- بلبل الدراما العراقية: شذى سالم بين الحضور والضمور..
- عبثُ الكراسي وضياعُ الوطن
- على حافة القيامة: الحرب المؤجلة بين أمريكا وإيران


المزيد.....




- بحضور أقوى زعماء العالم.. خريطة لموقع فعاليات العرض العسكري ...
- فندق يقدّم -أكبر سرير في المحيط الهندي- للمشاهير وأفراد العا ...
- لجنة في مجلس النواب الأمريكي تنشر دفعة أولى من -وثائق إبستين ...
- أين تقف السعودية بين قادة النفط بالعالم بآخر تحديث؟
- وبدأ العد التنازلي - إيران في مواجهة -آلية الزناد- الأوروبية ...
- قوة اليونيفيل تندد بهجوم إسرائيلي -خطير- بالمسيرات على جنوده ...
- قوة اليونيفيل تندد بهجوم إسرائيلي -خطير- بالمسيرات على جنوده ...
- مقتل 14 في اشتباكات بين جيش جنوب السودان ومتمردين
- السعودية.. إشادة واسعة بشاب تدخل بشكل ناجح لإنقاذ طفل ابتلع ...
- أمريكا.. لجنة الرقابة تكشف أكثر من 33 ألف وثيقة سرية بملفات ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حين تُصبح السيولة سراباً.. المتقاعد بين جدار الجوع وجدار السياسة