أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - عبثُ الكراسي وضياعُ الوطن














المزيد.....

عبثُ الكراسي وضياعُ الوطن


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8444 - 2025 / 8 / 24 - 15:36
المحور: قضايا ثقافية
    


في كل أمة حيّة، تكون الرؤيا السياسية هي البوصلة التي تحفظ التوازن بين الحاضر والمستقبل، وهي الذاكرة التي تستلهم من الماضي عبرة لتصوغ حاضرًا مستقيمًا لا يضلّ عن جوهره. أمّا في البلاد التي ابتُليت بقيادات لم يخلقها التاريخ لتقود، بل قذفتها المصادفات السوداء إلى مقاعد الحكم، فإن الرؤيا تتحول إلى ضباب كثيف، ويغدو الوطن مسرحًا لعبث الطامعين، لا مشروعًا لنهضة الإنسان.
لقد كان العراق، في لحظة فاصلة من تاريخه، أشبه بحديقة تركت أبوابها مفتوحة للغربان والذئاب. توافدوا إليها بوجوه مختلفة: بعضهم جاؤوا بشعارات الدين، وبعضهم بشعارات الحرية، وبعضهم برطانة الديمقراطية المستوردة، لكنهم جميعًا لم يعرفوا من الوطن غير أنه جسر يُعبرون فوقه إلى عروشهم. لم تكن القضية وطنًا، بل كرسيًّا، ولم يكن الهدف شعبًا، بل جموعًا قابلة للتصفيق والتهليل حين يلوّح الزعيم باسم الطائفة أو يرفع راية المذهب. وهكذا تحوّل العراق من أرض للحضارات إلى ساحة يُباع فيها الوهم ويُشترى الولاء.نجح هؤلاء في شيء واحد فقط: أن يزرعوا السمّ في روح المجتمع. قسّموا الناس على أساس الدم والمذهب، وأيقظوا من التاريخ أشباح الفتنة، فصار الأخ يخاف أخاه، والجار يراقب جاره، والمدينة الواحدة مقسومة بجدار من الشكوك. كل ذلك باسم حماية الهوية، وكأن الهوية لا يمكن أن تُحفظ إلا بتمزيقها. وحين أحكموا قبضتهم على الأكتاف المنهكة، لم يورّثوا العراق سوى بنى تحتية ممزقة، وزراعة تُستورد، وصناعة لفظت أنفاسها، ومؤسسات تعليمية وصحية أقرب إلى الخرائب منها إلى مرافق دولة. ملايين صرفت، وثروات تبخرت، والنتيجة فراغ عريض كفراغ الصحراء التي تبتلع المطر قبل أن يلمس جذور العشب.والأدهى أن الشعب، في لحظات الوهم، ظل يصفق لقاتله. يصفق لمن يسرق رغيفه ثم يمنحه كسرة فتات، يصفق باسم الطائفة، باسم الخوف، باسم النجاة من عدو متخيَّل. إنها مأساة الإنسان حين تُخدَّر إرادته، فيغدو شريكًا في جريمة إفقاره، وشاهدًا على انقراض حلمه، بل مدافعًا عن السارق الذي ينهب مستقبله. وهكذا انقلبت الموازين: القاتل صار منقذًا، والسارق صار زعيمًا، والمحروم صار تابعًا يصفق حتى وهو جائع.أما السيادة، تلك الكلمة التي تتغنى بها الشعوب الحرة، فقد تلاشت كما يتلاشى الطيف عند الصباح. صار القرار مرهونًا بالخارج، والجغرافيا رهينة لجيران يتناوبون على التدخل، كلٌّ يمدّ يده ليأخذ حصته من جسدٍ أنهكته الجراح. العراق الذي كان يصوغ معالم المنطقة أصبح ساحة يُصاغ فيها القرار بغير إرادته. فالوطن بلا سيادة ليس وطنًا، بل جغرافيا مؤقتة تنتظر من يكتب لها المصير.
إن المأساة أعمق من فساد سياسي أو سرقة ثروة. المأساة أن الرؤيا غابت، وأن السياسي لم يعد يرى في العراق إلا طريقًا لصعوده، وأن المواطن استبدل وعيه بولاء أعمى لطائفة أو مذهب أو شيخ. هنا تكمن الفلسفة السوداء التي نخرت الجسد العراقي: موت البوصلة، موت الحلم، موت القدرة على أن يرى المرء وطنًا يتسع للجميع بدل أن يضيق على الجميع.
لكن، ورغم كل هذا الليل الكثيف، يبقى السؤال معلّقًا: هل يمكن أن يولد من رحم الخراب وعيٌ جديد، يرفض الطائفة بوصفها قيدًا، ويرى في الوطن مشروعًا لا غنيمة؟ ربما. فالتاريخ علمنا أن الأوطان قد تنهض من رمادها كما ينهض العنقاء، وأن الشعوب قد تفاجئ جلاديها حين تُقرر أن الكرامة أثمن من الخوف، وأن الوطن لا يُبنى على مقاعد الكراسي، بل على وعي الإنسان بأنه شريك في مصيره.العراق اليوم مرآة مكسورة؛ فيها وجوه الماضي، وظلال الخراب، وصورة غائمة لمستقبل لم يُكتب بعد. وإذا كانت الرؤيا السياسية قد غابت، فإن البديل الوحيد هو أن يُنبت الشعب رؤياه من جديد، أن يتعلم أن التصفيق لا يطعم جائعًا، ولا يشيد مدرسة، ولا يبني مصنعًا، بل يُطيل عمر الطغيان. عندها فقط، قد يتوقف عبث الكراسي، وقد يستعيد الوطن ملامحه الضائعة، وقد يعود العراق كما يجب أن يكون: بيتًا للإنسان، لا عرشًا للطامعين.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على حافة القيامة: الحرب المؤجلة بين أمريكا وإيران
- المقاهي الشعبية المصرية… أرشيف الأرواح وذاكرة الحكايات
- العراق والمخدِّرات بعد 2003: اقتصاد الظلّ الذي يلتهم المجتمع
- لهيب العِشْق
- لعنة الذيول-
- حين تنكسر الموازين وتتعثر الأرض بخطى السياسة
- أنفاسكِ سَكني
- في قلب الجرح والحب
- -ريما حمزة... عندما تعزف القصيدة وتكتب الموسيقى-
- حين يُحاصَر الفن في وطن المواهب
- بان زياد… حين يختنق الحق بين أضلاع البصرة
- ما بين قلبي وعيناكي
- من المعلقات إلى المكتبات: رحلة خالد اليوسف في سطور الوطن
- غزال الروح
- ماريا تيريزا ليوزو… سيدة الحرف المترف بين زيتون كالابريا وعب ...
- يا غيمةً
- -العراق.. وطنٌ يضيء بالوعود وينطفئ بالابتسامات-
- الذين يريدون أن يفاوضوا ملك الموت
- -لظى الشوق في غيابك-
- حين تنام القصيدة ويصحو الخراب… قراءة في نص «وطنٌ يبيع ملامحي ...


المزيد.....




- -تمت السيطرة عليه سريعًا-.. حريق في فيلا محمد صبحي
- قمة أوكرانيا: هل يمكن لأوروبا الاعتماد على الولايات المتحدة؟ ...
- خبير عسكري: تدمير غزة يتطلب أكثر من عام وسط تحديات إستراتيجي ...
- الاحتلال يقتلع مئات أشجار الزيتون بالضفة ومئات يقتحمون الأقص ...
- ساعر: على أوروبا أن تختار بين إسرائيل وحماس
- كاتب بمعاريف: هذا هو المرض المزمن الذي يهدد إسرائيل
- النرويج تدعو لبناء تحالفات قوية ضد إسرائيل وترفض تصريحات ساع ...
- حقيقة فيديو بيان مشيخة عقل الدروز بعد -عزل حكمت الهجري-
- شاطئ أبو تلات بالإسكندرية: كيف انتهت رحلة تدريب طلاب، بكارثة ...
- بحضور رئيس الوزراء الكندي.. زيلينسكي في يوم استقلال أوكرانيا ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - عبثُ الكراسي وضياعُ الوطن