أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - المقاهي الشعبية المصرية… أرشيف الأرواح وذاكرة الحكايات














المزيد.....

المقاهي الشعبية المصرية… أرشيف الأرواح وذاكرة الحكايات


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8443 - 2025 / 8 / 23 - 14:28
المحور: قضايا ثقافية
    


في مصر لا تُقاس الأزمنة بالساعات ولا تُقاس الأماكن بجدرانها، بل تُقاس الحكايات بمقاهيها. تلك الزوايا الصغيرة المضيئة بلمبة باهتة، والمزدانة بدخان أرجيلة يلتف حول الوجوه كوشاح قديم، هي الأرشيف الحقيقي للأمة المصرية. على مقعد خشبي مهترئ قد يجلس التاريخ إلى جوار شاعر، أو موظف بسيط إلى جوار ثائر يحلم بتغيير الدنيا، أو عاشق شريد يكتب رسالته الأخيرة على منديل ورقي يضعه بين يديه المرتعشتين.المقهى في مصر ليس فراغًا معماريًا ولا مكانًا عابرًا، بل هو مؤسسة ثقافية أوسع من الجامعات وأقدم من الصحف وأقرب إلى الناس من كل خطاب رسمي. من هناك خرجت أولى الحكايات الشعبية التي صاغها الحكواتية بصوت مبحوح، حين كان يجتمع الساهرون في الليالي الطوال ليستمعوا إلى بطولات عنترة العبسي وأبي زيد الهلالي، وكأنهم يعيدون بناء ملاحمهم الخاصة في مواجهة الزمن. كان الحكواتي سيد المقهى، يفتح صدره للحكاية كما يفتح المزارع صدره للشمس، ينساب صوته في أذن السامع فينسى هذا همومه اليومية، ويجد ذاك نفسه في بطل أسطوري يحارب الظلم. لقد علّم المقهى المصري الناس أول درس في الأدب: أن الكلمة أقوى من السيف، وأن الحكاية تصنع وطنًا موازياً.ومع تطور الأزمنة ظل المقهى مركزًا للأدب والفن والسياسة معًا. نجيب محفوظ لم يكن يكتب في غرفة مغلقة منعزلة، بل كان يتجول في مقاهي الحسين وشارع قصر النيل ليصغي إلى أصوات الناس، ويصطاد من بين ضحكاتهم وهمساتهم ملامح شخصياته الخالدة. لم يكن مقهى "الفيشاوي" بالنسبة له مجرد مقهى، بل كان مسرحًا تنبض فيه الحياة بكل تناقضاتها. كل وجه أمامه مشروع رواية، وكل جملة عابرة تصلح أن تكون مفتاحًا لحوار خالد. وكذلك يوسف إدريس الذي التقط من المقاهي لغة الناس البسيطة، وحولها إلى قصص قصيرة تمشي على قدمين. وصلاح عبد الصبور الذي استمع في جلسات المقاهي إلى صرخات جيل ممزق بين الأمل والانكسار، فحوّلها إلى مسرح شعري يبكي فيه الإنسان على حافة الخيبة.ولم يكن المقهى حاضنًا للأدب وحده، بل كان مسرحًا للأغنية المصرية. هناك، في مقهى متواضع، جرّب عبد الحليم حافظ صوته لأول مرة قبل أن تلتقطه الإذاعة. وفي المقاهي الشعبية غنى المطربون الموالات والقصائد العامية، ومنها انطلقت إلى الشوارع ثم إلى الإذاعات والمسارح. كان المذياع المعلّق على الحائط نافذة على العالم، يبث أغنيات أم كلثوم وفيروز، بينما الناس يرفعون أكواب الشاي في طقس جماعي يشبه الصلاة، وكأن المقهى صار مسرحًا شعبيًا يتنفس الفن.
والسياسة أيضًا عاشت في المقهى. أيام الاحتلال البريطاني، حين كانت العيون تترصد في الشوارع، كان المقهى مأمنًا يتبادل فيه الناس خطابات التمرد، وتنتقل فيه الأفكار من طاولة إلى أخرى كشرارة لا تُطفأ. وفي سنوات الخمسينيات والستينيات، حين كان الحلم الناصري يملأ الشوارع، تحولت المقاهي إلى ساحات جدل لا ينتهي بين يساريين وقوميين وليبراليين، كلٌّ له طاولته، وكل نقاش ينتهي بفنجان قهوة بارد على الطاولة لكنه مشبع بالجدل الحي. حتى الهزيمة في 1967 لم تمر إلا عبر المقاهي، حيث جلس الناس في صمت دامع، ثم اخترعوا النكات ليداووا جراحهم، لأن المصري يعرف أن السخرية دواء الهزيمة.ومن بين المقاهي التي خلدها التاريخ، تبرز "قهوة الفيشاوي" في الحسين، التي تأسست قبل أكثر من قرنين، حيث جلس السلاطين والشعراء والسياح على حد سواء، وتحوّلت إلى معلم روحي لا يقل قيمة عن الأهرامات في ذاكرة الزائرين. وهناك "مقهى ريش" في قلب القاهرة، الذي احتضن النخبة المثقفة منذ أوائل القرن العشرين، وكان شاهدًا على اجتماعات سياسية وأدبية غيرت وجه مصر. لكن خلف هذه الأسماء اللامعة تختفي آلاف المقاهي الشعبية المجهولة في الأزقة والحواري والقرى، تحمل روحًا مصرية خالصة لا تقل أصالة عن المقاهي الشهيرة، مقاهٍ على ضفاف النيل يجتمع فيها الفلاحون ليتحدثوا عن موسم القطن وغربة الأبناء، وأخرى عند مداخل الأحياء الشعبية حيث تُصاغ النكات التي تتحول بعد أيام إلى أمثال شعبية، وتولد الموالات التي تصير فيما بعد أغانٍ تتناقلها الأجيال.المقهى المصري إذن ليس شاهدًا صامتًا على التاريخ، بل صانعه الحقيقي. هو الجامعة الأولى التي جمعت بين الأمي والمتعلم، والفلاح والمثقف، وهو البرلمان الشعبي الذي ناقش فيه الناس قضاياهم بعيدًا عن قاعات السياسة الرسمية، وهو المسرح الذي خرجت منه الأغنية والموال، وهو المعمل الذي اختبرت فيه مصر نفسها بعد كل هزيمة وانتصار. لم يتغير جوهر المقهى، حتى لو تغيرت الكراسي الخشبية إلى مقاعد معدنية، أو ارتفع صوت الهواتف على صوت الحكواتي. سيظل المقهى الشعبي ذاكرة حية تحفظ أرواح من رحلوا، وتنقلها إلى من لم يولدوا بعد.إن من أراد أن يعرف مصر على حقيقتها، فليجلس على مقهى شعبي في حي قديم، وليطلب فنجان قهوة مرة، وليصغي جيدًا. هناك، بين دخان الأرجيلة وهمسات الجالسين وضحكاتهم العالية، سيفهم أن الأدب المصري لم يُكتب كله بعد، وأن الحكايات الكبرى ما زالت تنتظر من يرويها، وأن المقهى سيظل كتابًا مفتوحًا للأمة، تقرأه الأجيال واحدًا بعد آخر، دون أن يُغلق أبدًا.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق والمخدِّرات بعد 2003: اقتصاد الظلّ الذي يلتهم المجتمع
- لهيب العِشْق
- لعنة الذيول-
- حين تنكسر الموازين وتتعثر الأرض بخطى السياسة
- أنفاسكِ سَكني
- في قلب الجرح والحب
- -ريما حمزة... عندما تعزف القصيدة وتكتب الموسيقى-
- حين يُحاصَر الفن في وطن المواهب
- بان زياد… حين يختنق الحق بين أضلاع البصرة
- ما بين قلبي وعيناكي
- من المعلقات إلى المكتبات: رحلة خالد اليوسف في سطور الوطن
- غزال الروح
- ماريا تيريزا ليوزو… سيدة الحرف المترف بين زيتون كالابريا وعب ...
- يا غيمةً
- -العراق.. وطنٌ يضيء بالوعود وينطفئ بالابتسامات-
- الذين يريدون أن يفاوضوا ملك الموت
- -لظى الشوق في غيابك-
- حين تنام القصيدة ويصحو الخراب… قراءة في نص «وطنٌ يبيع ملامحي ...
- تاريخ العقول الممنوعة — حين يصبح الفكر تهمة أكبر من الخيانة
- الكتب غير المقروءة… مقابر فاخرة للحبر


المزيد.....




- دكتور ايليس -الروبوت-.. طبيب لا ينام ولا يتعب ودائما في خدمة ...
- مطار بن غوريون يتحول لثكنة عسكرية للقبض على متهربين من التجن ...
- الاحتلال يواصل عدوانه على بلدة المغير ويصعّد اقتحاماته بالضف ...
- مقتل جندي إسرائيلي في خان يونس جنوب غزة
- قتيل بغارة إسرائيلية على لبنان وباسيل يؤيد تسليم سلاح حزب ال ...
- في منزلك.. -تعديل بسيط- يخفض ضغط الدم بشكل طبيعي
- العلاج النفسي بالذكاء الاصطناعي.. طبيبك الخاص متاح دائما
- ترامب يقدم نفسه كـ-خبير العشب-.. ويقطع وعدا
- مصر: مصرع 6 طلاب غرقا وإصابة آخرين بأحد شواطئ الإسكندرية
- وصفوا موقفه من صفقة التبادل بـ-العار-... متظاهرون يلاحقون بن ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - المقاهي الشعبية المصرية… أرشيف الأرواح وذاكرة الحكايات