أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - تاريخ العقول الممنوعة — حين يصبح الفكر تهمة أكبر من الخيانة














المزيد.....

تاريخ العقول الممنوعة — حين يصبح الفكر تهمة أكبر من الخيانة


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8430 - 2025 / 8 / 10 - 22:12
المحور: قضايا ثقافية
    


في كل مرحلة من تاريخ البشرية، كان هناك نوعان من الخطر يثيران قلق السلطات والمجتمع معًا: السياسي الذي يهدد النظام، والمفكر الذي يهدد المعنى. والسياسي، مهما بلغ من الشراسة، يظل أسير معادلات القوة والمساومة، يمكن احتواؤه بصفقة، أو تحييده بانقلاب، أو حتى تخليده في منصب شرفي بلا سلطات. أما المفكر، فهو الطوفان الذي لا يمكن سدّه بجدار، لأنه لا يسعى إلى الكرسي بل إلى نسفه، ولا يطمع في الحكم بل في تغيير شروط الحُكم، ولا يهمه من يفوز في الصندوق بل من صنع الصندوق أصلًا.لهذا كانت العقول الممنوعة أخطر من الجيوش. فالجيش قد يُهزم، لكن الفكرة إذا انتصبت في رأس واحد فقط، تكفي لتقويض ألف إمبراطورية. وهذا ما جعل سيرة المفكرين دائمًا محفوفة بالمنع والنفي والمصادرة، وكأن الحضارة لا تستطيع العيش إلا إذا وضعت فكرها في الحجر الصحي، تراقبه بعين السلطة وتطرده إذا ارتفعت حرارته فوق درجة "الطاعة".
من سقراط الذي أُجبر على شرب السم، لأنه أفسد عقول الشباب بأسئلة لم تكن في المنهج، إلى غاليليو الذي أُجبر على أن يهمس في قاعة المحكمة بأن الأرض "تدور" بينما العالم يطالبه بأن تصمت، إلى المفكرين العرب الذين أُحرقت كتبهم قبل أن تُقرأ، أو نُفيت عقولهم إلى مدن بعيدة ليموتوا غرباء... المشهد واحد: لا جريمة أوضح من أن تفكر خارج الأسوار التي بناها الآخرون.المفارقة أن المجتمع نفسه، لا السلطة وحدها، يشارك في الإقصاء. فالمجتمعات تحب المفكرين كما تحب الحيوانات المحنّطة: أنيقة، مُعَلّقة على الجدار، لكن ميتة. يحبون نزار قباني شاعر الحب، لا نزار قباني المتمرّد على الطغاة، يعشقون جبران الفيلسوف في البطاقات البريدية، لا جبران الثائر الذي طُرد من وطنه. لأن الفكر الحي يتطلب جهدًا للتفكير معه أو ضده، أما الفكر الميت فهو مجرد أيقونة تزيينية.
ولأن العقول الممنوعة لا تموت بسهولة، ابتكرت الأنظمة أشكالًا جديدة من الإقصاء: ليس النفي الجغرافي فقط، بل النفي المعنوي. يُترك المفكر على قيد الحياة، لكنه يُغرق في ضجيج الإعلام حتى يصبح صوته همسًا لا يسمعه أحد، أو يُدفن اسمه تحت ركام التشويه المتعمّد حتى يظنه الناس مهرجًا أو متطرفًا أو عميلًا.
التاريخ يعلمنا أن أخطر لحظة في حياة المفكر ليست حين يُهاجم، بل حين يتم الاحتفاء به في الوقت الخطأ. حين تتحول أفكاره إلى شعارات على الجدران بينما جوهرها يُفرغ من المعنى. في تلك اللحظة، تكون السلطة قد وجدت الطريقة المثالية لتدجينه: لا بالنفي، بل بالعناق القاتل.لكن، على الرغم من هذا التاريخ المليء بالمشانق والمحاكمات، لم ينجح أحد في إعدام الفكرة تمامًا. فالكتب المحروقة تعود في طبعات جديدة، والآراء الممنوعة تتسلل عبر أجيال لم تكن حتى مولودة ساعة المنع. الفكر الحقيقي لا يعيش في الجسد، بل في ذلك الفضاء الحر الذي لا تصل إليه يد الرقيب: عقل الإنسان الذي يجرؤ على السؤال.إن تاريخ العقول الممنوعة هو في النهاية تاريخ الخوف من المرآة. فالسلطة تخشى من يضع أمامها مرآة تكشف عريها، والمجتمع يخشى المرآة التي تكشف جهله. لكن ما لا يدركه الاثنان أن المرايا، مهما حُطمت، ستصنعها الأجيال القادمة من أي شيء: من زجاج مكسور، من بركة ماء، أو حتى من بريق عين طفل يسأل: "لماذا؟".هذا التاريخ، بكل ما فيه من دموع ودماء وحبر، ليس مأساة بقدر ما هو شهادة على أن الفكر ما زال قادرًا على أن يكون جريمة، وأن الكتابة — حين تكون صادقة — ما زالت تملك قوة القنبلة. وربما، لهذا السبب بالذات، سيظل العالم بحاجة إلى مزيد من العقول الممنوعة، لأن الحضارة التي لا تضطهد مفكريها هي حضارة ماتت بالفعل، ولم يعد فيها ما يستحق الإقصاء.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتب غير المقروءة… مقابر فاخرة للحبر
- حين تتقاتل الظلال على جدار التاريخ
- -لم يكن الوطن بيتًا مشتركًا، بل مائدة حصرية، جلس عليها من ظن ...
- -على هامش الحضيض... حين يتقوّأ السفهُ على القامات-
- كنت أحبها... وما زلت
- بغداد... حين كانت العرش والسيف والمحراب والقصيدة ...
- عبد السادة البصري... شاعرٌ نَزَفَ الجنوبُ بين حروفه .حين تصب ...
- -الدم الذي يقطر من سبحات الزيف-
- -القصة القصيرة جدًّا... أو كيف تقتل الأدب بسطرين!-
- حين يغيب العقل عن السرد: هل انتهت الفلسفة من الرواية العربية ...
- -جرذان الذهب.. وشيب العراق المنسيّ-
- موطئ القدم الناعم: خطر العمالة الأجنبية حين تستحيل أقليةً مط ...
- العراق والكويت: ملحمة السقوط العربي في حضرة التحالف الغادر
- ياسين غالب.. طائر الحرية الذي حطّ في هلسنكي
- الشرق الأوسط الجديد... حين يتهاوى ظلُّ طهران ويُولد الضوء من ...
- الجرذ الذي أكل 62 ترليوناً ولم يتجشأ
- صرخة في وجه التفاهة الإعلامية: حين يصبح الانحدار خبزًا يوميً ...
- -على موائد الإمبراطوريات: حين تُباع الأرواح بثمن الدولار-
- -دولة الوجهين ونصف عمامة-
- -قوّادو الكلمة وباعة الوهم: حين يصبح الإبداع طعنة في خاصرة ص ...


المزيد.....




- بها حانة ومهبط هليكوبتر وحصن.. جزيرة بريطانية خاصة تطرح للبي ...
- تاركة أمريكا في عزلة بين أقرب حلفائها.. أستراليا تُعلن عزمها ...
- مجلس الأمن يدين أعمال العنف ضد المدنيين في السويداء ويدعو جم ...
- ظنّ أن لقاح كوفيد دفعه للانتحار.. مسلّح يهاجم مركزًا صحيًا ف ...
- من هو الوريث لحركة -اجعل أميركا عظيمة مجددًا-؟ ترامب يُبقي خ ...
- مسيرة شعبية في أنقرة تطالب بدخول المساعدات إلى قطاع غزة
- تشييع جثماني مراسلي الجزيرة في غزة الشريف وقريقع
- إدانات واسعة لاغتيال إسرائيل مراسلي الجزيرة الشريف وقريقع
- -أوصيكم بفلسطين درة تاجِ المسلمين-.. وصية أنس الشريف تشعل ال ...
- أنس الشريف.. صوت غزة والشاهد على كل فصول إبادتها وتجويعها


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - تاريخ العقول الممنوعة — حين يصبح الفكر تهمة أكبر من الخيانة