أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - بغداد... حين كانت العرش والسيف والمحراب والقصيدة ...














المزيد.....

بغداد... حين كانت العرش والسيف والمحراب والقصيدة ...


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8427 - 2025 / 8 / 7 - 11:09
المحور: قضايا ثقافية
    


بغداد... يا بهيّة المدن، ويا أيّتها التي ولدت من رحم العبقرية العربية، وتكوّنت من وهج الروح العباسية، فأصبحت مدينة لا تشبه المدن، بل مدينة تشبه المجد حين يتجسّد، وتشبه القصيدة حين تمشي على نهرين، وتشبه السماء حين تمطر نورًا ومعرفة، بغداد التي أسّسها المنصور ليكون لها التاج والعرش، وصنع من أسوارها أبوابًا من حنين وذهب، وجعل دجلة يكتب الشعر في ضفّتيها، وتغنّى الزمان بطيفها، وتوضّأت العصور بجمالها، وأدار وجه الأرض نحوها كما تدور العيون حول الغادة الحسناء.في بغداد، لم تكن الخلافة جلبابًا فوق الجسد، بل روحًا في كل بيت، كانت العواصم تنام، وتبقى بغداد مستيقظة، تصنع الفجر في عيون العشاق، وتفصّل الليل على مقاس الفقهاء والشعراء والموسيقيين والوراقين، بغداد التي أدار بها الرشيد دفة العالم، فأينما برق السحاب صاح: "أمطري حيث شئتِ، فإنّ خراجك عائدٌ إليّ!"، كانت كل السحب طيّعة أمام الخليفة، وكل الأمصار بوّابات لمخيلته، وكلّ العالم ينتظر قرارًا يصدر من قصره، أو قصيدة تُتلى في مجلسه.في بغداد، لم تكن الدولة عسكرًا فقط، بل كانت صنعة وفنًا وفكرًا ودهشة، كانت فيها الحمّة حيث تُشفى الأجساد، وكان فيها زرياب يشعل الفصول لحنًا، ويخترع العود ذا الوتر الخامس، وكان فيها بنو موسى يرسمون علوم الميكانيكا قبل أن يعرفها الغرب بقرون، وكان فيها بيت الحكمة، حيث تُترجم الأرواح لا الكلمات، وحيث يجلس الفارابي مع الكندي في حوار لا ينتهي، وتطير الفكرة من يد ابن الهيثم إلى عقل الزمان.
بغداد التي كتب عنها الأصمعي، وتغنّى بها أبو نواس، وجعلها الجاحظ منصةً للفكر، والواسطي حديقة للألوان، بغداد التي كانت حاضنة الكل، وعاشقةً للفكر، ومهووسة بالتجريب، كانت تمشي بين أزقّتها القصص، ويصعد من جدرانها الحنين، وتكتب الحارات حكاياها بالضوء والظلّ، بغداد التي كانت الدهشة تمشي في أحيائها، والشعر يُتلى في مجالسها كفرضٍ لا يُؤجَّل.
في بغداد... كان ابن عمّ الرسول يرأس الدنيا، وكان المعتصم إذا صرخت امرأة في عمورية، ارتجف قلبه كأنه الوتر السابع في لحن الغضب، فركب الجيوش، وسار بها نحو أسوار من طغوا، فهزمهم بقلبٍ لا يقبل المهانة، وكبرياء لا يعرف الركوع، أرسل جيشه من دجلة إلى نهر العاصي، وقال كلمته التي بقيت تهزّنا حتى اليوم: "لبيكِ... صرختك وصلتْ!"، فكانت بغداد حينها مدينة لا يعلو فوقها صوت، ولا يقف في وجهها ريح.
ولكن... ماذا دهاكِ يا بغداد؟ من باعكِ لهولاكو؟ من أطفأ مصابيحكِ في عزّ النهار؟ من فتح أسواركِ للفرس وأشياعهم؟ من جعل النائحة تسكن دجلكِ، والموتى ينامون فوق رصافتكِ؟ من جعل نساءكِ سبايا التاريخ، وأطفالكِ أسرى الطوائف؟ من أخذ ديوان الشعر وأحرقه، وأخذ ديوان الماء ولوّثه، وأخذ ديوان الدولة وخرّبه؟ من ذبّحكِ يا بغداد، والدمع في عينيكِ ما زال دافئًا؟..أيعقل أن تتحوّلي من عاصمة كانت ترسل المعارف شرقًا وغربًا، إلى عاصمة يُسرق فيها التاريخ كما تُسرق الأرغفة؟ من بلدٍ كان يُدعى دار السلام إلى دار الانكسار؟ كيف لبغداد التي هزّت الضمير العالمي أن تُهان على يد مَن يدّعي النسب إلى التشيّع وهم أبعد الناس عن علي، ويزعمون محبة آل البيت وهم يبيعون فاطمة في مزاد المذابح؟!
بغداد، يا شهقة التاريخ في صدر الحضارة، كيف تهزمك الآن العمائم الزائفة، وكيف ترككِ الجيل الذي قرأ عنكِ دون أن يقرأكِ؟ بغداد التي كان أبو العلاء يكتب لها، والمأمون ينقّب علوم الفرس ليضعها في يدها، كيف أصبحت الآن تابعة خانعة تكتب بمداد الذلّ وتوقّع تحت أقدام الغزاة؟
فيكِ كان يمشي الفقيه بجانب المغنّي، ويفتي الفلكي إلى جوار الشاعر، ويبيع الورّاق الحبر والضوء، وتُعلق القصائد على جدران الذاكرة، بغداد التي كانت المآذن فيها تصعد بالحكمة، والأسواق تنطق بالفصاحة، والمكتبات تفيض بالعلم، أين تلك الروح؟ أين دجلة الذي كان يغسل كتب السفهاء ويترك العقول نقيّة؟ أين الرصافة حين كان النور يتهادى على أعتابها؟ وأين الكرخ حين كان الطرب يسير كالماء بين أزقّتها؟
تلك الأزقّة التي حفرت الذكريات في كل جدار، والبيوت التي كانت تكتب الشعر قبل أن تنام، والأمهات اللواتي يحفظن أسماء الخلفاء كما يحفظن أسماء أبنائهن، والأطفال الذين كانوا يكتبون على الألواح لا من أجل درجات، بل من أجل بغداد، من أجل أن تبقى الكلمة نبراسًا، وأن تبقى الحضارة كحبة قمح في كفّ الرافدين.
هل تدرين يا بغداد، أنّك لم تكوني مدينة فقط، بل فكرة تمشي على الأرض؟ وأنّك حين تُهان، يهتز التاريخ من جذوره؟ وأنّك حين تسقطين، تنهار القيم كأنها قصور من رمل؟ وهل تدرين أن الشاعر الذي لا يكتبك، إنما خان الشعر؟ وأن المثقف الذي يصمت عن وجعكِ، إنما خان المعرفة؟ وأن المواطن الذي باعكِ، إنما باع روحه لخصوم النور؟
بغداد، أنتِ الغيم الذي يُغرِق الصحراء في الحنين، والقصيدة التي لا تموت، والصوت الذي لا يصمت، وإن كسروا أجنحتكِ، فإنكِ باقية، لأنكِ وُلدتِ من السيف والمحراب، وكتبتِ اسمكِ بحبر النخيل، فلا نخاف عليكِ من زمنٍ تافهٍ، لأن العصور العظيمة تعرفكِ، وتنتظركِ.ستنهضين من رمادكِ، كما نهضتِ من كل حرائقكِ، وستعودين المدينة التي تقرأ ولا تُملى عليها الدروس، تكتب ولا تُلقّن، وتغنّي ولا تُجبر على الصمت.بغداد... يا أيّتها المتربعة على خصر الخلود، يا مرآة العرب حين كانوا ملوك الشمس، ويا جرحهم المفتوح الآن، ها نحن نكتبكِ لعلّ الكتابة تُطهّركِ من الخيانة، وتُعيد لكِ وجهكِ الذي طمسته الجرافات والطوائف.
بغداد... لكِ المجد، ولكِ البكاء، ولكِ القصيدة... ولكِ قلوبنا حيثما كنتِ.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبد السادة البصري... شاعرٌ نَزَفَ الجنوبُ بين حروفه .حين تصب ...
- -الدم الذي يقطر من سبحات الزيف-
- -القصة القصيرة جدًّا... أو كيف تقتل الأدب بسطرين!-
- حين يغيب العقل عن السرد: هل انتهت الفلسفة من الرواية العربية ...
- -جرذان الذهب.. وشيب العراق المنسيّ-
- موطئ القدم الناعم: خطر العمالة الأجنبية حين تستحيل أقليةً مط ...
- العراق والكويت: ملحمة السقوط العربي في حضرة التحالف الغادر
- ياسين غالب.. طائر الحرية الذي حطّ في هلسنكي
- الشرق الأوسط الجديد... حين يتهاوى ظلُّ طهران ويُولد الضوء من ...
- الجرذ الذي أكل 62 ترليوناً ولم يتجشأ
- صرخة في وجه التفاهة الإعلامية: حين يصبح الانحدار خبزًا يوميً ...
- -على موائد الإمبراطوريات: حين تُباع الأرواح بثمن الدولار-
- -دولة الوجهين ونصف عمامة-
- -قوّادو الكلمة وباعة الوهم: حين يصبح الإبداع طعنة في خاصرة ص ...
- -شهرة على مقاس العُري… ومثقفٌ خلف الستار-
- استري نفسكِ… قبل أن يفضحكِ هاتفكِ!
- فيروز تودّع نغمة قلبها.. حين بكى الصباح في حضن الوطن
- شمشونا... رماد ملكةٍ لم تولد، وسؤالٌ يمشي في شوارع بابل
- من باع الخور والنفط والأرض
- -المرشح الراقص والناخب الطيّب: من جوبي البرلمان إلى حفلة الد ...


المزيد.....




- يستمتعان بأشعة الشمس معًا.. تعرفوا على الرجل الذي يسبح مع تم ...
- تقرير يكشف ما تفعله إسرائيل بمدارس تستخدم ملاجئا والجيش يرد ...
- كيف لعب الحظ دوراً في نجاة مدينة من القنبلة الذرية مرتين؟
- التعريفات الأميركية الجديدة تدخل حيّز التنفيذ.. وترامب يحتفي ...
- خطة نتنياهو لاحتلال غزة: خمس فرق عسكرية وتهجير مليون مدني
- عراقجي يُعلّق على قرار الحكومة اللبنانية بشأن السلاح: أُعيد ...
- التهميش المجتمعي
- عُمان .. تسلق الجبال هواية أم تهور؟
- إسرائيل تصادق على مخططات لإنشاء ثلاثة مستوطنات جديدة في الضف ...
- ترامب يهدد باستدعاء الحرس الوطني لضبط الأمن في واشنطن


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - بغداد... حين كانت العرش والسيف والمحراب والقصيدة ...