أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - -القصة القصيرة جدًّا... أو كيف تقتل الأدب بسطرين!-














المزيد.....

-القصة القصيرة جدًّا... أو كيف تقتل الأدب بسطرين!-


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8426 - 2025 / 8 / 6 - 14:37
المحور: قضايا ثقافية
    


في هذا العصر المخبوص بالعجلة، المهووس بالاختزال، المنكوب بقصص "التيك توك" الأدبية، ولد نوعٌ جديدٌ من الكتابة اسمه: "القصة القصيرة جداً"... لكنها وُلدت ميتة، ملفوفة بلفافة الحداثة، ومحمولة على أكتاف أدباء لم يتمرنوا إلا على الركض خلف الضوء، لا خلف المعنى.لم نعد بحاجة لقراءة "حديث الصباح والمساء"، ولا التوغل في "البحث عن الزمن المفقود"، ولا حتى الغرق في دهاليز "مدام بوفاري"، فاليوم كل شيء يُلخّص، كل شيء يُسحق، كل شيء يُضغط كما تُضغط الأزرار في المصاعد: ضغطة واحدة توصلك إلى سطر واحد... هذا السطر اسمه "القصة القصيرة جداً"، أو كما يحب أن يسميها المريدون: "الدهشة المضغوطة".يا لسخرية المصطلح!من قال إن الدهشة تُضغط؟ ومن أباح لكم أن ترموا على قارئ مثقل بالأسئلة حكمةً مقطوعة من سياقها وتسمّونها قصة؟ أي خديعة هذه التي تحولت فيها القصة إلى "تغريدة" أدبية؟ بل وأي نكتة باهتة حين يُصفّق لها جمهور يتعاطى مع الأدب كما يتعاطى مع إعلان مزيل عرق؟ خمس كلمات، ضربة نهاية، والكاتب يجلس كأنه دستويفسكي، ينتظر التحليل الفلسفي لانفعالاته المقطوعة.نحن هنا لا نهاجم كل قصر، ولا نجرّم كل اقتضاب، فبعض القِصَر قد يُكثّف الدلالة ويصنع البلاغة، كما تفعل الطرفة أو الومضة الشعرية، لكن المشكلة تكمن في التحايل، في أن يُستبدل الضعف بالاختزال، والقصور بالتكثيف، والعجز بالدهشة المزعومة. القصة القصيرة جداً، في نسختها العربية المبتذلة، أصبحت مرتعًا خصبًا لمجموعة من الكتبة الذين لا يملكون من أدوات القصة إلا الاسم، ولا من الحكاية إلا فاصلة، ولا من الفن إلا زهوًا أجوف يتباهى بأنه كتب الحياة كلها في ثلاثة أسطر، ثم لا يفهم القارئ من تلك الحياة شيئًا، سوى أنه أضاع ثلاث ثوانٍ من عمره.أيها السادة، ليس كل ما قُصِّر فنًا، ولا كل من اختصر أبدع. إن أعظم الروايات في التاريخ احتاجت لمساحات، لأن النفس الإنسانية معقدة، والحدث لا ينمو على سطح أملس، والدهشة لا تُقذف في وجوه الناس كما يُقذف الماء الساخن. ماذا حدث لذائقتنا كي نصفّق لحكاية تقول: "فتح الباب... لم يجد أحدًا... أغلق قلبه!"؟ بالله عليكم، هل هذه قصة؟ أم منشور عاطفي مشلول خرج من رحم كُتيّب تطوير الذات؟ هل هذا هو الأدب الذي نُراهن عليه؟ هل هذا ما سنُدرّسه لأجيال ما بعد الرواية، وما بعد الشعر، وما بعد الذوق؟
وما أقسى أن تأتيك هذه القصة القصيرة جداً محمولة على أكتاف احتفالات نقدية طافحة بالانبهار، ومجلات تتعامل معها كأنها فتحٌ بلاغيّ، وتُقيم لها مهرجانات وندوات، بينما النص الطويل يُهمّش، ويُتّهم بالثرثرة، وكأن الاستطراد أصبح عارًا، والتعمق جريمة، والتفصيل مرضًا نفسياً!
لقد أصبحت القصة القصيرة جداً عبئًا على الأدب، لا لأنها قصيرة، بل لأنها خاوية. لأن كاتبها – في أحيان كثيرة – ليس سوى شخص هارب من تطوير أفكاره، خائف من البناء، كسول في رسم الشخصيات، ضعيف في صياغة الحوارات، فيختصر كل شيء، ويعتقد أن هذا الاختصار "حداثة"، بينما هو في الحقيقة عجز مقنّع.
ثم يأتيك المبرر القاتل: "الناس لم تعد تقرأ، العالم أصبح سريعًا، القارئ يريد ما يُستهلك بسرعة!" حسنًا، ليذهب هذا "العالم السريع" إلى الجحيم! لماذا نُرهن ذائقتنا لكسل الجمهور؟ لماذا يُكتب الأدب على مقاس من لا يقرأ؟ وهل يُنتج الفن من أجل الذين لا وقت لديهم؟ من قال إن الرواية يجب أن تُنافس الفيديو القصير؟ وهل المطلوب من الشعر أن ينافس فلاتر إنستغرام؟ نحن لا نكتب لنرضي سوقاً؛ نحن نكتب لنصنع ذائقة، لا لننحدر معها.
إن الدفاع عن القصة الطويلة، أو حتى القصيرة المتماسكة، ليس موقفًا تقليديًا، بل هو دفاع عن جوهر الأدب، عن حريته في التمهّل، وفي التأمل، وفي صعود السلم درجة درجة. الأدب الحقيقي لا يلهث، لا يتنفس لاهثًا خلف "الترند"، بل يقف، يتأمل، يعيد بناء اللغة، ويصنع عالماً يُجبر القارئ على البقاء، لا على الانسحاب.القصة ليست نكتة، وليست منشورًا فيسبوكيًا، ولا حكمة شعبية بربع ابتسامة. القصة هي فن هندسة الزمن، وفن التعمق في النفس، وفن تحويل العادي إلى استثنائي. أما من يكتب سطرًا ويسميه قصة، ثم يضع له عنوانًا بأربعة أسطر، فهو ليس كاتبًا، بل حائك فشل مغطّى بورق هدايا.
دعونا لا نخجل من قول الحقيقة: هناك طوفان من "نصوص القاع"، تكتب فقط لأنها قصيرة، تُنشر فقط لأنها لن تزعج عين القارئ، تُهلّل لها صفحات ثقافية فقط لأنها سريعة الاستهلاك، ويمشي خلفها كتّاب شباب حالمون بالضوء، لا بالعمق. لقد صرنا في زمنٍ تُختزل فيه الحكاية إلى "ومضة"، ثم لا يبقى منها شيء في الذاكرة.
إن القصة القصيرة جداً، حين تفقد الأدب، وتفقد البنية، وتفقد الدهشة الحقيقية، تصبح فعل هروب، لا فعل كتابة. تصبح تمرينًا على الصمت، لا تمرينًا على السرد. تصبح مقبرة للخيال، لا مولده.ختامًا، أقولها بمرارة: لسنا ضد الاختزال، ولكننا ضد التفاهة. لسنا ضد الومضة، بل ضد الإظلام الكامل. إن لم تكن القصة القصيرة جداً تملك ما يجعلها تقف بجانب القصة الكاملة، فلتبقى في دفاتر التجريب، لا أن تصعد عرش الأدب من دون تاج. كفى عبثًا، كفى ركضًا وراء اللاشيء. فلنُعد للأدب روحه، قبل أن تُختصر الرواية إلى "كان... وانتهى."



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يغيب العقل عن السرد: هل انتهت الفلسفة من الرواية العربية ...
- -جرذان الذهب.. وشيب العراق المنسيّ-
- موطئ القدم الناعم: خطر العمالة الأجنبية حين تستحيل أقليةً مط ...
- العراق والكويت: ملحمة السقوط العربي في حضرة التحالف الغادر
- ياسين غالب.. طائر الحرية الذي حطّ في هلسنكي
- الشرق الأوسط الجديد... حين يتهاوى ظلُّ طهران ويُولد الضوء من ...
- الجرذ الذي أكل 62 ترليوناً ولم يتجشأ
- صرخة في وجه التفاهة الإعلامية: حين يصبح الانحدار خبزًا يوميً ...
- -على موائد الإمبراطوريات: حين تُباع الأرواح بثمن الدولار-
- -دولة الوجهين ونصف عمامة-
- -قوّادو الكلمة وباعة الوهم: حين يصبح الإبداع طعنة في خاصرة ص ...
- -شهرة على مقاس العُري… ومثقفٌ خلف الستار-
- استري نفسكِ… قبل أن يفضحكِ هاتفكِ!
- فيروز تودّع نغمة قلبها.. حين بكى الصباح في حضن الوطن
- شمشونا... رماد ملكةٍ لم تولد، وسؤالٌ يمشي في شوارع بابل
- من باع الخور والنفط والأرض
- -المرشح الراقص والناخب الطيّب: من جوبي البرلمان إلى حفلة الد ...
- -الفن العراقي... بين ضوء الماضي وظل الحاضر-
- قفي أيتها الملكة.. فالساقطون لا يرون الهامات المرتفعة
- من أندلسِ تطوان إلى نبضِ بغداد: شهرزاد الركينة… نشيدُ الفنّ ...


المزيد.....




- غزة: عشرون قتيلا وعشرات الجرحى إثر انقلاب شاحنة على مئات من ...
- الحرب في غزة: ما حقيقة الخلافات بين الحكومة والجيش في إسرائي ...
- ما حظوظ أن تثمر زيارة ويتكوف إلى روسيا وقفا للحرب في أوكراني ...
- أفريكا ريبورت: صورة كينيا كوسيط محايد تتصدع وسط اتهامات بإيو ...
- أطباء عادوا من غزة: هل بقيت لدينا في أوروبا ذرة من الإنسانية ...
- لماذا اختار الأميركيون هيروشيما بالذات بعد قرار قصف اليابان؟ ...
- كيف علق المغردون على الخطة الإسرائيلية لاحتلال غزة؟
- يوم وطني لدعم غزة.. مبادرة جزائرية للتحفيز على التبرعات الشع ...
- أصوات من غزة.. أطفال مرضى السكري معاناة وسط الانهيار الصحي
- ويتكوف يصل إلى موسكو في -الرحلة المرتقبة-


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - -القصة القصيرة جدًّا... أو كيف تقتل الأدب بسطرين!-