أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - عبد السادة البصري... شاعرٌ نَزَفَ الجنوبُ بين حروفه .حين تصبح القصيدة شاهدًا على الجراح... والملح... والمنفى.














المزيد.....

عبد السادة البصري... شاعرٌ نَزَفَ الجنوبُ بين حروفه .حين تصبح القصيدة شاهدًا على الجراح... والملح... والمنفى.


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8427 - 2025 / 8 / 7 - 09:58
المحور: قضايا ثقافية
    


في أقصى الجنوب، هناك حيث تندمج الأرض بالملح وتشتد الملوحة حتى في الزفير، ويمتزج المدُّ بدماء الشهداء، وتهدهد الأمواج صرخات المدن الباكية، وُلد الشاعر عبد السادة البصري، لا على هامش الحياة، بل في شقوقها... لا في نعيم المدن الوثيرة، بل في خاصرة العراق الأكثر وجعًا: الفاو.كانت الفاو مدينة تقاوم الماء بالحطب، وتقاوم الموت بالنخيل، وتقاوم النسيان بالشعر. ومن قلبها، خرج عبد السادة، كأنّه قامة من نخلٍ غاضبٍ، لا تنحني إلا للريح، ولا تنكسر إلا لتثمر. ولد في بيتٍ ريفيٍّ يشبه أسطورةً متروكة على حافة الخليج، وفتَحَ عينيه على "الملح" كأوّل درسٍ في اللغة، و"الفقد" كأوّل كتابٍ في الذاكرة.في بيتٍ مشبع برائحة الميناء والنضال، كان الأب عاملًا يساريًا يوزّع وعيه كمنشورٍ سرّي، ويزرع في قلب صغيره جذور الشكّ والتأمّل... هناك، في ريفٍ معزول، حيث لا يصل الشعر إلا عبر الريح، تلبّسه هاجس السؤال: من نكون؟ وما الحقيقة؟ ليغرق في بحور القراءة منذ نعومة الأصابع، وينهض من فقره بعنفوان القصيدة.
لم يكن طريق الشعر مفروشًا بالجوائز ولا التصفيق، بل كان مفروشًا بالفقد، والمنفى، والموت القريب. كتب الشعر الشعبي أولًا، كما تكتب الجدّات الأحزان على الأبواب، ثم هام في الخطابة، فحصد الجوائز في الفاو، ومن ثم انفتحت له الفصحى كنافذة على المطلق، فكتب العمود، والتفعيلة، وأخيرًا النثر... لأنه —كما قال— قصيدة النثر وحدها هي التي تتمرّد، وهي التي تجعلك تحلّق بلا أثقال، وتكتب بلا قيود.كانت أولى قصائده تبثّ من إذاعة الكويت عام 1979، بعنوان: "هناك عند الساقية"، وكأنّه يقول لنا منذ البدء: "أنا شاعر ماءٍ وساقيةٍ، لا شاعر منابر". منذ تلك اللحظة، لم يتوقّف عن الكتابة، ولم يتوقّف عن الخسارة.نزح قسرًا من قريته أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وذوّب الطينَ من قدميه في دروب اللجوء الداخلي، ثم فقد والده بعد أيام، فارتجَّت روحه، وتصدّعت القصيدة داخله، لتصبح بعدها أكثر قتامة، وأكثر صدقًا. غاص في سواد الحروب، حتى سُجن، ثم نُفي إلى جدران الرضوانية وسجون الأنبار والرشيد، حيث كان الجلادون يسرقون حتى الأصوات، لكنه كتب.
كتب قصائد تنفجر بالأسى، لكنه كان يسكنها كما يسكن العاشق عيون من يحب، فكل بيتٍ من شعره كان خندقًا آخر للنجاة. كتب وطبّع بخفاء، في زمنٍ كانت القصيدة فيه جريمة، وأصدر مجموعات شعرية "مُستنْسَخة"، عبر ما عُرف بأدب الظلّ، مع شعراء آخرين يلتقون معه في الحزن والنهر.في عام 1998، أصدر مجموعته الأولى: "لا شيء لنا"، وكأنّه يوقّع على دفتر الخسارات. وبدل أن يكون عنوانًا للانطفاء، كان عنوانًا لولادة شعرية مدوية، كتبت عنها أكثر من 65 مقالة، وترجمت إلى لغات عديدة، وأعيد طبعها لاحقًا. تبعتها "تضاريس"، ثم "هكذا دائمًا"، و**"لم أستعر وجهًا"، و"المعنيّ أكثر منّي"، و"غرقى... ويقتلنا الظمأ"**، وصولًا إلى "وحدك... تفتح نافذة للضوء" عام 2025.هذا الشاعر، الذي قُذِفَ إلى محرقة الحرب، وأصيب في رأسه فضعف بصره وسمعه، لم تضعف بوصلته الشعرية. ظلّ يكتب، لا ليحترف الكتابة، بل ليهرب من الفناء. ظلّ يسكن المنافي في قلبه، ويحنّ إلى فاوٍ لم يعد إليها منذ عقود، يروي حكايات السجن والمنفى والطين والطفولة المعلّقة بين قصفٍ وقصيدة.في داخله، مدينة كاملة لا تزال تحت الحصار. وفي لغته، خليجٌ كاملٌ من الألم... لكنّه يحيله إلى ماءٍ صافٍ، يشرب منه القارئ ويعطش أكثر.مع الشعر، عمل في المسرح، في الصحافة، في النقد، في الإعلام... كان صوتًا جنوبيًا بامتياز، لكنّه لم يكن إقليميًا، بل كونيًا في إنسانيته. كتب في مجلات وصحف عربية وعراقية، وكان له أعمدة ثابتة وصوت واضح في المشهد الثقافي العراقي، إذ لا يكاد مهرجان يُذكر دون أن يكون اسمه من ضوءه.
اليوم، بعد أكثر من أربعة عقود من الكتابة، صار عبد السادة البصري جزءًا من تضاريس القصيدة العراقية الحديثة، وصارت سيرته الذاتية مرآةً لجيلٍ كاملٍ كُتِبَ عليه أن يولد في فوهة البندقية، ويعيش في سجن، ويكتب تحت الضوء الخافت، لكنه لا يموت.كلّ قصيدةٍ له هي شاهدٌ على زمنٍ منسيّ، وكلّ ديوانٍ هو وثيقة حبّ واحتجاج. إنّه ليس شاعر الجنوب فقط، بل شاعر العراق الذي يتلو تراتيله بملحٍ، ويعيد كتابة وجع المدن المهملة على ورقٍ يشبه الكفن.إنه عبد السادة البصري... الشاعر الذي لم يُهزم، بل هزّ بيد القصيدة أبوابَ السجون حتى انكسرت.
وما تزال كلماته حتى اليوم، تمشي فوق مياه الخليج المالح، لتروي فاوًا جفّت فيها الضحكة، لكن لم تجفّ فيها القصيدة.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -الدم الذي يقطر من سبحات الزيف-
- -القصة القصيرة جدًّا... أو كيف تقتل الأدب بسطرين!-
- حين يغيب العقل عن السرد: هل انتهت الفلسفة من الرواية العربية ...
- -جرذان الذهب.. وشيب العراق المنسيّ-
- موطئ القدم الناعم: خطر العمالة الأجنبية حين تستحيل أقليةً مط ...
- العراق والكويت: ملحمة السقوط العربي في حضرة التحالف الغادر
- ياسين غالب.. طائر الحرية الذي حطّ في هلسنكي
- الشرق الأوسط الجديد... حين يتهاوى ظلُّ طهران ويُولد الضوء من ...
- الجرذ الذي أكل 62 ترليوناً ولم يتجشأ
- صرخة في وجه التفاهة الإعلامية: حين يصبح الانحدار خبزًا يوميً ...
- -على موائد الإمبراطوريات: حين تُباع الأرواح بثمن الدولار-
- -دولة الوجهين ونصف عمامة-
- -قوّادو الكلمة وباعة الوهم: حين يصبح الإبداع طعنة في خاصرة ص ...
- -شهرة على مقاس العُري… ومثقفٌ خلف الستار-
- استري نفسكِ… قبل أن يفضحكِ هاتفكِ!
- فيروز تودّع نغمة قلبها.. حين بكى الصباح في حضن الوطن
- شمشونا... رماد ملكةٍ لم تولد، وسؤالٌ يمشي في شوارع بابل
- من باع الخور والنفط والأرض
- -المرشح الراقص والناخب الطيّب: من جوبي البرلمان إلى حفلة الد ...
- -الفن العراقي... بين ضوء الماضي وظل الحاضر-


المزيد.....




- رد فعل فنزويلا المحتمل على هجوم عسكري أمريكي.. خبير يوضح لـC ...
- لماذا يعتقد الألمان أن خبزهم هو الأفضل في العالم؟
- مصر.. أقر بتدخين الحشيش وكشف مع من.. مدير CIA الأسبق يشعل ضج ...
- سفن تابعة لخفر السواحل الصيني تعبر جزرا تديرها اليابان وسط ت ...
- تعبئة في فنزويلا ومادورو يتوعد بمواجهة -النهج الاستعماري-
- ائتلاف الإعمار والتنمية.. تحالف عراقي يقوده السوداني
- هذه هي المنتجات التي ترفض إسرائيل السماح بدخولها إلى غزة
- عالم أزهري: نهب تبرعات غزة -انتهازية إخوانية-
- هكابي يتحدث عن -سر- صمود خطة ترامب في غزة
- ضربة لم تكتمل.. تقرير يكشف بقاء -قلب- نووي إيران نابضا


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - عبد السادة البصري... شاعرٌ نَزَفَ الجنوبُ بين حروفه .حين تصبح القصيدة شاهدًا على الجراح... والملح... والمنفى.