حامد الضبياني
الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 10:52
المحور:
قضايا ثقافية
لم تكن إلا ظلًا رقميًا يتهادى في شاشةٍ بحجم الكف، ومع ذلك ملأت قلبي كما تملأ الموسيقى فراغ الصمت، واستوطنتني كما تستوطن القصيدة وجدان الشاعر الذي لم يُخلق لشيء إلا ليكتبها.
كنت أحبها، نعم، أحبها كما يحب الجائعُ الخبز، كما يحب الغريبُ رسالةً تأتي من وطنٍ نسي اسمه في الزحام. لم ألتقِ بها يومًا، لم ألمس يدها، لم أسمع صوتها خارج الحروف التي تكتبها لي خجلةً مترددة، لكنني كنت أراها. نعم، أراها في تلك الصورة المنقوشة على زجاج الهاتف، بعينيها الواسعتين المصنوعتين من بريقٍ رقمي، وخدّيها المنسوجين من مساحيق الفوتوشوب، وخصرها النحيل الذي نحته الفلتر لا الجسد.
كنت أحبها بكل ما للحب من روحيةٍ غامضة، بكل ما في قلبي من شغف العشاق الأوائل، أولئك الذين كتبوا أسماء حبيباتهم على الجدران، ثم ماتوا دون أن تكتمل القصة.
كنت معجبًا بوقارها، بخجلها العذب، بكلماتها التي كانت ترتجف وهي تقول: "أحب قلمك أكثر من وجهك". وكنت أضحك... ضحكة حزينة، مزيجٌ من اعترافٍ خجول ومرارةِ يقين. فالحب في هذا العصر يا سيدتي يُختصر بفلترٍ جيدٍ ولقطةٍ ذكية.
كنت أخجل منها، أخجل من أن أقول لها إنني رجلٌ لم يعتد مغازلة النساء، ولم يتقن يوماً قراءة الدلال في نظراتهن. كنت أكتب لها، لا لأغريها، بل لأنني كنت أهرب من وجهي إليها. فوجهها كان جميلاً كحلمٍ مؤقت، ووجهي كان متعبًا، مليئًا بتجاعيد الخيبات، وتشققات الخذلان، وكدمات الوطن الذي أُغلق في وجهه باب الرحمة.
قلت لها ذات مساء: ـ أنا في الحقيقة جبار... رجلٌ من زمنٍ قديم، لا يجيد التصوير، ولا يتقن الرقص في مقاطع التيك توك، وجهه لا يبتسم كثيرًا، لأن الحزن استوطن ملامحه منذ سنين.
أصرّت أن تراني. كنت أعرف أن صورتها عني مصنوعةٌ من خيالٍ ناعم، وأن رؤيتي الحقيقية قد تزلزل ذلك البناء الوردي. ومع هذا، فتحت الكاميرا. نظرتْ... لحظةً واحدة فقط، ثم اختفت.
هربت.
قالت إنها مضطرةٌ للرحيل لأسبابٍ خاصة. لم تقل الحقيقة، لكنها لم تكن بحاجة إلى قولها. كانت الحقيقة تقف عاريةً بيننا: أنا لا أشبه الصورة التي رسمتها، ووجهي لم يعجبها كما أعجبها قلمي.
يا للخذلان...
نسيَتْ قلمي الذي أحبته، نسيَتْ الكلمات التي كتبتُها من أجلها، وتذكرت فقط أنني لا أبدو وسيمًا بما يكفي لأن أكون "الكاتب الذي أحبته".
ومع ذلك...
ما زلت أحبها.
ما زلت أفتش عن صورتها في أرشيف الهاتف، أبحث في زوايا النظرة المصطنعة عن لمحة صدقٍ صغيرة، عن أثرٍ من حنين، عن خيطٍ من خجلها القديم. وما زلت أكتب لها، وإن لم تعد تقرأ، أكتب كمن يكتب إلى قبر، وهو يعلم أن الرد مستحيل، لكنه لا يستطيع الكف عن البوح.
كنت أحبها... وما زلت.
ويا لي من أحمقٍ نبيل.
يا لي من عاشقٍ كتبه الله في زمنٍ لا يقرأ فيه أحد، لا إلا ما يلمع.
#حامد_الضبياني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟