حامد الضبياني
الحوار المتمدن-العدد: 8435 - 2025 / 8 / 15 - 11:06
المحور:
قضايا ثقافية
في مدينةٍ تعوّدت أن تتنفس الصبر أكثر من الأكسجين، وأن تغسل وجهها كل صباح بماء الشطّ الممزوج بدماء أبنائها، رحلت بان زياد طارق. رحلت وهي التي لم تكن مجرد طبيبة نفسية تُعالج الوجع بالكلمات، بل كانت وجدانًا حيًّا يمشي بين الناس، ورأسًا مرفوعًا أمام المساومات.كانت رئيسة اللجنة الطبية في قضية هزّت البصرة والعراق، قضية لم تكن جدران المستشفى وحدها شاهدةً عليها، بل جدران الضمائر التي كانت تعرف أن بان رفضت أن تنحني. هي التي كشفت خيوط جريمة قريبة من قلب السلطة، وأصرّت على قول الحقيقة في وجه أخ محافظ البصرة، فلم تتزحزح قيد أنملة، ولم تُساوِ بين الضحية والجلاد.اليوم، يأتون ليقولوا لنا: "انتحرت".أي عبث هذا؟ أيريدوننا أن نصدّق أن من كانت تقاتل لتثبت براءة الأبرياء، قد اختارت بيدها الرحيل؟ أيريدون أن يلبسوا الحقيقة عباءة الانتحار كي تُرضي المال العام أفواه الفاسدين، وكي تُخمد أصوات الحق في أروقة القضاء؟
بان، يا بان… أأنتِ التي علمتِ الناس كيف يواجهون انكساراتهم، وأنتِ التي عالجت قلوبًا أنهكتها الحياة، تتركيننا بهذا الصمت المريب؟ كلا… من يعرفك يعرف أنك أقوى من أن تُهزمي على يدك، لكنك قد تُغتالين على يدهم.إنهم يحاولون أن يكتبوا على شاهدة قبرك كلمة "انتحرت"، ليمحوا من ذاكرتنا أنك كنتِ أرفع مقامًا من أن تنحني لرغبة قتلةٍ كبار، يغطون جرائمهم بستائر من بيانات رسمية باردة. لكن التاريخ لا يكتب بحبرهم وحدهم، فثمة دماء على جدار الغرفة ترفض أن تجف، وثمة شهود يعرفون أن ما جرى ليس نهاية حكاية امرأة ضعيفة، بل فصلًا جديدًا في سجل صراع مدينةٍ مع ذئابها.
إن عتابنا هنا ليس لكِ، فحقّكِ عند ربّك محفوظ، وذكركِ في قلوب الشرفاء خالد. عتابنا لذلك الوجه البارد الذي يطل من شاشة الأخبار، يوزع بياناته كما يوزع الابتسامات الميتة، ليقول إن التحقيق جارٍ، وكأنهم لا يعرفون أن الحقيقة كانت في قلبك وأنهم أطفأوها عمدًا.البصرة تبكيكِ اليوم، بان، لا لأنها فقدت طبيبةً، بل لأنها فقدت شاهدًا نزيهًا على جريمة، وجرّاحًا للروح لم يساوم، ولسانًا صادقًا لم يضعف. وها نحن، بين الحزن والغضب، نتساءل: هل سنسمح لهم أن يكتبوا نهاية القصة بأيديهم، أم سنكتبها نحن بدموعنا وذاكرتنا، لنفضح كل يد امتدت إليكِ؟..هكذا تمضي البصرة، شاهدة على أن في زمن الخراب، الحقيقة تُقتل، وأصحابها يُشيَّعون في صمت، بينما القتلة يحيطون قبورهم بالورود الكاذبة.
#حامد_الضبياني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟