أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - على رصيف الانتظار














المزيد.....

على رصيف الانتظار


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8453 - 2025 / 9 / 2 - 12:12
المحور: قضايا ثقافية
    


كان الغبار يعلو المحطة مثل ستارةٍ كثيفةٍ حجبت ملامح الوجوه. كل شيء بدا باهتاً، حتى المقاعد الحديدية التي صدئت أطرافها، واللافتات التي انطفأ لونها تحت شمسٍ لا ترحم. غير أنّ رائحة القطار، حين أطلّ من بعيد، كانت وحدها تحمل معنى الحنين، كأنها رسالة قديمة وصلت متأخرةً عن موعدها بعقود.ارتجّت القضبان، وتداخلت الأصوات: صفير القطار الممتدّ، وقع أقدام العابرين، وضجيج الباعة الذين لم يعودوا يبيعون شيئاً سوى الذاكرة. كان الزمان هنا لا يسير إلى الأمام، بل يلتف حول نفسه، يعيد المشاهد نفسها لكن بوجوه مختلفة.على مقعدٍ عند الرصيف الثالث جلست امرأة بثوبٍ أسود يلامس الأرض. كانت تحدّق في المدى بعينين متسعتين، وكأنهما نافذتان على ضوءٍ لم تتعوّد عليه منذ زمن. بين يديها حقيبة جلدية صغيرة، متهالكة من كثرة ما فُتحت وأُغلقت. لم تكن حقيبة سفر بقدر ما كانت صندوقاً للانتظار.في ملامحها كان شيء من التعب الذي يخبئه الزمن خلف التجاعيد، لكنه أيضاً التعب الذي يصرّ على البقاء جميلاً لأنه محمول على جناح الحنين. لم تكن تنتظر قطاراً جديداً بقدر ما كانت تنتظر شيئاً ضاع منها في قطارٍ قديم… رجلاً غاب ولم يعد، أو حباً لم يجد طريق العودة، أو وعداً تبعثر بين تقاطعات السكة.حين توقّف القطار أخيراً، تدافع الركاب. منهم من ضحك، ومنهم من صرخ، ومنهم من مشى كمن لا يعرف إلى أين يذهب. أما هي، فظلت جالسة، تحدّق في الأبواب وهي تُفتح ببطء. كل بابٍ بدا لها كعينٍ تفتح على عالم مجهول، وكانت تنتظر أن يطلّ منها وجه تعرفه، وجه يحمل ملامح الماضي بكل ثقله وجماله.لم يخرج أحد يشبه ما حلمت به. لكن قلبها ارتجف لحظةً حين رأته: رجل خمسينيّ بملامح مغبّرة، يحمل حقيبة قديمة، يسير بخطى مترددة كأنه هو الآخر يبحث عن صورة منسيّة. التقت العيون للحظةٍ خاطفة. عينان منكسرتان، تفتّحتا على ضوءٍ غريب. استغرابٌ أولاً، ثم دهشة، ثم ذلك الارتعاش الذي لا يعرفه سوى من يلتقي ماضيه وجهاً لوجه بعد أن ظنّه انطفأ.لم يتبادلا كلمة. لم يكن للكلمات وقتٌ على الرصيف المزدحم. لكنّ العيون قالت ما لم تستطع الذاكرة قوله. قالت إن الانتظار لم يكن عبثاً، وإن الغياب، مهما طال، يظل يترك خلفه خيطاً دقيقاً يقود إلى لحظةٍ كهذه، لحظةٍ لا تحتاج إلى اعتذار ولا إلى تفسير.وقف القطار ساكناً كأنه يحضن هذا اللقاء بصمته الحديدي. والريح حملت بقايا الغبار بعيداً، فبدا المشهد للحظة نقياً، كما لو أن المحطة اغتسلت بالدهشة. ثم تحرك القطار من جديد، وتبعثر الركاب، ولم يبق على الرصيف سوى تلك المرأة، ورجل يبتسم بخجلٍ كأنه عاد من منفى طويل إلى وطنٍ لم يتوقع أن يجده في عينيها.
وهكذا، في محطةٍ مغبرّةٍ وسط زمنٍ يتكرر، التقى الشوق بالغياب، واحتضن القطار الحكاية كأبٍ يضمّ أبناءه الضائعين، فيما ظلّت العيون مفتوحة على ضوءٍ لم يألفه الانتظار من قبل.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على سُلَّم العشق
- أنا لا أرى غيرَك
- عندما تبتلع الرمالُ أقدام الممالك
- وعد الحُلم
- الهويدر.. أغنية القدّاح على ضفاف ديالى
- -قلب الأنقاض الذي يتنفس-
- فقاعات الزمن: المدينة التي تسبح في الخيال
- كنفاس الشوق في منفى الروح
- نشيد الشوق
- الأمة بين سيف الغزاة وخيانة الأقرب -
- فضل شاكر.. العائد من غياب الحنين
- صباحُكِ ريما
- -ريما.. سفر العاشقين-
- المدن الغارقة: عندما تختفي حضاراتنا تحت الماء
- الأصوات الضائعة: المرأة في الظل الأدبي العربي القديم
- الغزو بالصناديق أم بالصوارم؟ حينما يتحول الإعلامي إلى -طبّال ...
- بلبل الدراما العراقية: شذى سالم بين الحضور والضمور..
- عبثُ الكراسي وضياعُ الوطن
- على حافة القيامة: الحرب المؤجلة بين أمريكا وإيران
- المقاهي الشعبية المصرية… أرشيف الأرواح وذاكرة الحكايات


المزيد.....




- مشروب يكشف عن مصيرك..طقوس القهوة التركية تتحدى الزمن
- بعد استكماله فترة النقاهة.. ماجد المهندس يعود لاستئناف نشاطه ...
- هيفاء وهبي تتألق بفستان زفاف على ضفاف بحيرة كومو في إيطاليا ...
- موضة ورقص..ديمة قندلفت تخطف الأنظار بإطلالة فلامنكو اسبانيّة ...
- خوف يسود شوارع غزة.. شاهد ما حدث لحظة فرار أم مع طفليها وسط ...
- حصيلة زلزال أفغانستان ترتفع إلى 1200 قتيل وتحذيرات من تأثر م ...
- بتبني سرديتهم.. دعم ماسك لشعبويي ألمانيا في انتخابات كولونيا ...
- -لن يبقى أحد لنقل ما يحدث في غزة-.. جوناثان داغر يتحدث عن رس ...
- شركة -نستله- تقيل رئيسها التنفيذي لإقامته -علاقة عاطفية غير ...
- قرويون في أفغانستان ينتظرون المساعدات بعدل زلزال مدمر راح ضح ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - على رصيف الانتظار