أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - عندما تبتلع الرمالُ أقدام الممالك














المزيد.....

عندما تبتلع الرمالُ أقدام الممالك


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8452 - 2025 / 9 / 1 - 09:17
المحور: قضايا ثقافية
    


في زمن تتشظّى فيه الخرائط كما تتشظّى المرايا القديمة، يبدو الشرق وكأنه مسرحٌ هائل تتناوب عليه العواصف، فلا يُعرف أهي عواصف رملٍ عابرة أم زلازل قادرة على تغيير تضاريس الروح والتاريخ معاً. إنّ الذي يتأمل المشهد من بعيد يلحظ أنّ القوى الكبرى لا تنسحب كما يُقال، بل تعيد تشكيل نفسها بطرقٍ أدهى من أي حضور عسكري. فالانسحاب أحياناً ليس فراراً، بل إعادة انتشارٍ في ثياب الغياب، والفراغ الذي يُترك خلف الجدران العالية قد يكون أكثر امتلاءً من الحشود ذاتها.ثمة من كان يتوهّم أنّ حلف الحديد والبارود خالدٌ لا يزول، فإذا به يتحول إلى عبء، إلى حجرٍ ثقيل يضغط على صدر صاحبه. اللعبة تغيّرت ــ هكذا تقول الإشارات الصامتة: لا حليف أبدي، ولا ولاء يدوم، فالمعادلات السياسية تُكتب بالطبشور على جدار مبلل، تمحوها قطرة ماءٍ أو نسمة ريح.
الذين كانوا يلوّحون بالرايات ذات الألوان الداكنة اكتشفوا فجأة أنّ الراية قد غدت حجاباً يقيّدهم أكثر مما يحميهم. والذين ظنّوا أنّ السفينة التي صنعوها بأيديهم ستبحر بهم طويلاً، وجدوا أنفسهم يقفزون منها قبل أن يبتلعها البحر.
وفي الزوايا القصيّة من المشهد، كان ثمة من يحاول إعادة تموضعه. يمد يده هنا، يرسل رسوله هناك، يفتح باباً عند جارٍ شمالي، ويستجدي ابتسامة من رئيس غربي، ويطلب شهادة حسن سلوك من قارة بعيدة. لكنّ الريح لا تسعف من تأخر عن الفعل طويلاً، فمن يزرع في موسم الخريف لا يحصد في الربيع.إنها لحظة تاريخية تتكلم لغة الفلسفة أكثر من لغة السياسة. فما نراه ليس مجرد تبدّل في الأدوار، بل هو انقلاب في منظومة القيم التي كانت تحكم المشهد: من التحالف إلى التخلّي، من الحماية إلى العزلة، ومن الشرعية الممنوحة إلى الشرعية المفقودة. وهنا تتبدّى الفكرة الأزلية: أنّ من يركن إلى القوّة العمياء دون أن يبني قاعدة شرعية راسخة، إنما يكتب مصيره على ماء، يذوب بأسرع مما يتصور.
أما الاقتصاد، فهو المرآة الأكثر صدقاً في هذا المسرح المعتم. برميل النفط، الذي كان يُظنّ أنه شريان حياة، صار شريان نزيف، إذ تُقتطع منه الرسوم والخصومات والديون كمن يقضم الجسد قطعةً قطعة، حتى لا يبقى سوى هيكل هشّ، يُقال عنه إنه ثروة، لكنه في الحقيقة فخٌّ من ذهب. الميزانيات المليئة بالأرقام الملونة ليست سوى أوراقٍ مبللة لا تحتمل نار الواقع. إنها هندسة عجزٍ مقصود، تُرسم بخطوط دقيقة لتتحوّل الدولة إلى جسد يقتات على فراغه.وحين يضاف إلى ذلك قيد العملة، وضغط البنوك الكبرى، والعقوبات التي تتدلى كسيفٍ فوق الرقاب، يصبح المشهد أشبه بساعة رملية تنساب حباتها بسرعة لا تُمهل. إنّه اقتصاد بلا رئة، محاصر بين جدار الفساد العميق وسقف التبعية الثقيلة. وكلّما حاول أن يتنفس، ازدادت قبضات الأيادي الغريبة التي تشدّ على عنقه.ولأنّ الخراب لا يأتي منفرداً، كان للفساد دور البطولة: مشاريع تُشيّد على الورق فقط، عقود تُكتب بالأرقام الفلكية، جسور وأنفاق ليست سوى مسارب إلى جيوب مغلقة. الأرضُ تُباع في صفقات الليل، والسماء تُرهن لشعاراتٍ خاوية، والإنسان يتحوّل إلى رقمٍ في جدول خسائر.
إنّ القادم لا يُقرأ في البيانات الرسمية، بل في نظرات الناس الذين يعرفون أنّ الحقيقة تكمن خلف الكلمات. الشرخ كبير، والانهيار ليس احتمالاً بعيداً بل مساراً مرسوماً. الشرق الأوسط، الذي يُراد له أن يُعاد صياغته بلا أنيابٍ إقليمية، يُطبخ على نارٍ هادئة، بينما شعوبه تتقلب على جمرٍ لا يبرد.التاريخ علّمنا أنّ الشعوب قد تصبر طويلاً لكنها لا تنسى. وأنّ من يظنّ أنّه قادر على لعب دور المخلّص بينما يبيع ما تبقّى من جسد الوطن، سيكتشف أنّه لم يكن سوى جزءٍ من رواية أكبر منه بكثير، رواية تُكتب بحبر الآخرين على جلد أبنائه.وهكذا يبقى السؤال معلقاً: هل ما نشهده لحظة نهاية عهدٍ وولادة آخر، أم أنّها مجرد دورة من الدورات التي تُعيدنا إلى النقطة ذاتها؟ في كل الأحوال، ما يجري الآن ليس تفصيلاً عابراً، بل زلزالاً صامتاً يُعيد ترتيب المعاني قبل أن يُعيد ترتيب السلطات.فالمشهد ليس مشهداً سياسياً وحسب، بل مأساة فلسفية كبرى: مأساة وطنٍ يراقب نفسه وهو يتآكل من الداخل، بينما تتنازعه القوى من الخارج، كجسدٍ يتناوب على افتراسه ذئابٌ متعطشة.وإذا كان ثمة عنوان لهذه المرحلة، فلن يكون سوى: "عندما تبتلع الرمالُ أقدام الممالك".



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وعد الحُلم
- الهويدر.. أغنية القدّاح على ضفاف ديالى
- -قلب الأنقاض الذي يتنفس-
- فقاعات الزمن: المدينة التي تسبح في الخيال
- كنفاس الشوق في منفى الروح
- نشيد الشوق
- الأمة بين سيف الغزاة وخيانة الأقرب -
- فضل شاكر.. العائد من غياب الحنين
- صباحُكِ ريما
- -ريما.. سفر العاشقين-
- المدن الغارقة: عندما تختفي حضاراتنا تحت الماء
- الأصوات الضائعة: المرأة في الظل الأدبي العربي القديم
- الغزو بالصناديق أم بالصوارم؟ حينما يتحول الإعلامي إلى -طبّال ...
- بلبل الدراما العراقية: شذى سالم بين الحضور والضمور..
- عبثُ الكراسي وضياعُ الوطن
- على حافة القيامة: الحرب المؤجلة بين أمريكا وإيران
- المقاهي الشعبية المصرية… أرشيف الأرواح وذاكرة الحكايات
- العراق والمخدِّرات بعد 2003: اقتصاد الظلّ الذي يلتهم المجتمع
- لهيب العِشْق
- لعنة الذيول-


المزيد.....




- -عدد القتلى والجرحى يستمر في الارتفاع-.. إليكم ما نعرفه عن ز ...
- الحوثيون يشيعون رئيس حكومتهم و9 وزراء قتلوا في الغارات الإسر ...
- المعايير الجديدة لتقليل الولادات القيصرية خطوة إيجابية غير ك ...
- برلين وباريس تتوعدان موسكو بعقوبات أشد وتعدان كييف بدعم أكبر ...
- طائرة فون دير لاين تتعرض لتشويش.. هل فعلتها روسيا؟
- -لن يبقى قريبا أحد لينقل ما يحدث-.. حملة إعلامية دولية للتند ...
- حادثة تشويش على طائرة فون دير لاين فوق بلغاريا وسط اتهامات أ ...
- المعارضة الإسرائيلية بين التشظي والتماهي مع نتنياهو
- -صوت الحرية لفلسطين- في ختام أضخم مؤتمر شعبي بأميركا
- برشلونة تودع -أسطول الصمود العالمي- المتجه إلى غزة


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - عندما تبتلع الرمالُ أقدام الممالك