أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الهويدر.. أغنية القدّاح على ضفاف ديالى














المزيد.....

الهويدر.. أغنية القدّاح على ضفاف ديالى


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8451 - 2025 / 8 / 31 - 08:37
المحور: قضايا ثقافية
    


الهويدر… قريةٌ من ماءٍ وضوءٍ وعطر، تفتح ذراعيها على ضفاف ديالى كما تفتحُ أمٌّ صدرها لطفلها. ما إن تخطو إليها حتى يبهرك صفاء هوائها، كأن الريح هناك قد اغتسلت قبل أن تعبر صدور الناس. والاسم الذي ارتبط بها ليس حروفًا فحسب؛ بل معنى من معاني النقاء: قيل هو من الفارسية "هوادار"، وقيل من التركية "هواء أيدر"، وقيل إنّه دلعٌ لرجلٍ أول سكنها اسمه حويدر، وكلّها في النهاية تجتمع عند معنى واحد: الهواءُ الطيّب الذي لا يشبه سواه.على ضفافها يتموّج النهر بثلاثة أحضان ملتفة، يحرس بساتينها ويمنحها ذلك الوجه المشرق الذي يفيض برتقالًا ورمانًا ونوميًا بصراويًا ونخيلًا يطاول الشمس. حين يزهر القدّاح في الليالي، تنفتح الأزقّة على موسيقى الرائحة، رائحة تمشي على أقدامٍ بيضاء وتترك أثرها في الحلق والذاكرة. والتمر هنا ليس فاكهة، إنما هو طقسٌ من طقوس الكرم: يعلّق كقلادةٍ على صدور النخيل، ويتحوّل إلى دبسٍ في الجرار، وإلى حكايةٍ في الشتاءات حين تلتفّ العوائل حول النار.سوقها العتيق، المسقّف بخشب السنين، ظلّ شاهدًا على أجيالٍ مرّت من تحته كالسيل. فيه المقاهي التي لا تشبه المقاهي في المدن، إنّها مدارس للذاكرة، حيث تُروى الطرائف ويُدار الشاي على تخوتٍ من سعف النخيل، وحيث يطرق اللاعبون بأصابعهم طاولة الدومنة كأنّهم يضبطون إيقاع الزمن. هناك يجلس "الكسّاخون" بطرافتهم الحاضرة، يسكبون الملح على الكلام، فيضحك الزمانُ قبل أن يعبس.
والهويدر لم تُعرف بالهواء والقدّاح وحده، بل بما صنعت الأيدي من جريدٍ وخوص: حصران للنوم، وكراسي تُحاك من سعفٍ لين، وتخوتٌ وسلال وقفاف وأقفاص للعصافير. إنها صناعة الحياة البسيطة التي قاومت البلاستيك كما قاوم النخل عواصف القرون. من خوصةٍ مغموسةٍ بالماء تتفتّق أشكال الجمال، ومن جريدةٍ صلبة يلين الخشب بين أصابع النساء والرجال.
في حمّام السوق العتيق، الذي شيّد في القرن الثامن عشر، ما زال البخار يخرج كدعاءٍ صاعد، وما زال الرجال يخرجون من أبوابه أخفَّ وأبهى، كأنهم غُسلوا بقرونٍ من الزمن. هناك تختلط رائحة الطين بذكرى الأجداد، وتبقى الجدران واقفةً كشاهدٍ على زمنٍ لم يبرح.
وللهويدر رجالاتها الذين أنارت أسماؤهم عقول الناس، منهم الوزير التربوي عبد الحميد كاظم السامرائي، الذي رفع راية التعليم في العهد الملكي، والدكتور مازن عبد الحميد في ميادين الهندسة، والشاعر أكرم الشيباني، وغيرهم كثير. ويقف المؤرخ جعفر الكشفي حارسًا للذاكرة، يقلب دفاتر الأيام كما يُقلب الفلاح تراب أرضه، فيعيد للأسماء وهجها ويصون للقرية تاريخها.
هذه القرية الصغيرة في المساحة، الكبيرة في العطاء، حملت في قلبها ألف لقب وألف شهيد، حتى غدت مرآة لآلام ديالى وأمجادها. كلّما عصفت بها السياسة وقست الأيام، عادت لتنهض مثل نخلةٍ تُقصّ سعفها اليابس لتُخرج غصونًا جديدة.من أراد أن يعرف معنى الطمأنينة، فليجلس عند غروبٍ على ضفة نهرها، حيث يبرد النسيم ويهبط القدّاح من الأشجار كثلج عطِر، وحيث يُقشَّر البرتقالُ ببطءٍ على أعتاب البيوت، وحيث يتعلم الطفل على كرسيٍّ من سعفٍ أن العالم يمكن أن يُصنع باليد، وأن يُحبّ باليد أيضًا.
الهويدر ليست مكانًا على الخريطة، بل قصيدة مكتوبة بالبرتقال والقدّاح والنخيل. هي وطنٌ صغيرٌ يتّسع لقلب العراق كلّه، وذاكرة من ماءٍ وهواءٍ وبشرٍ تمسّك بها أهلها كما يُمسك القلب بحلمه.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -قلب الأنقاض الذي يتنفس-
- فقاعات الزمن: المدينة التي تسبح في الخيال
- كنفاس الشوق في منفى الروح
- نشيد الشوق
- الأمة بين سيف الغزاة وخيانة الأقرب -
- فضل شاكر.. العائد من غياب الحنين
- صباحُكِ ريما
- -ريما.. سفر العاشقين-
- المدن الغارقة: عندما تختفي حضاراتنا تحت الماء
- الأصوات الضائعة: المرأة في الظل الأدبي العربي القديم
- الغزو بالصناديق أم بالصوارم؟ حينما يتحول الإعلامي إلى -طبّال ...
- بلبل الدراما العراقية: شذى سالم بين الحضور والضمور..
- عبثُ الكراسي وضياعُ الوطن
- على حافة القيامة: الحرب المؤجلة بين أمريكا وإيران
- المقاهي الشعبية المصرية… أرشيف الأرواح وذاكرة الحكايات
- العراق والمخدِّرات بعد 2003: اقتصاد الظلّ الذي يلتهم المجتمع
- لهيب العِشْق
- لعنة الذيول-
- حين تنكسر الموازين وتتعثر الأرض بخطى السياسة
- أنفاسكِ سَكني


المزيد.....




- بري يطرح الحوار تحت سقف استراتيجية الامن الوطنية
- سيارة تقتحم القنصلية الروسية في سيدني بأستراليا
- نيويورك تايمز: أميركا توسع قيود التأشيرات على الفلسطينيين
- الحوثيون يعتقلون 11 موظفاً أممياً، والأمين العام يطالب بالإف ...
- شاهد.. أسباب تراجع أداء برشلونة أمام رايو فاليكانو
- مقتل 9 في زلزال بقوة 6 درجات هز جنوب شرق أفغانستان
- -حلقة النار-.. جولة حرب جديدة قاسية بين إيران وإسرائبل
- نتنياهو يعطي -إشارة الانطلاق- لاجتياح مدينة غزة
- الحرب على غزة مباشر.. عشرات الشهداء في قصف للمستشفيات ونسف ل ...
- شاهد..هل استحق الأرسنال الخسارة أمام ليفربول؟


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الهويدر.. أغنية القدّاح على ضفاف ديالى