أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - تأثير التكنولوجيا على قولبة أفكار المثقف(32)















المزيد.....

تأثير التكنولوجيا على قولبة أفكار المثقف(32)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8443 - 2025 / 8 / 23 - 11:13
المحور: قضايا ثقافية
    


مما لا شك فيه إن التكنولوجيا غيّرت قد وجه العالم، وامتدت آثارها إلى كافة مجالات الحياة، حتى أصبحت جزءًا لا يُفكّك من وجود الإنسان اليومي. لكن حين نتأمل تأثيرها العميق في المثقف، فإننا لا نتحدث عن مجرد أدوات جديدة، أو وسائط اتصال أسرع، بل عن تحوّل خفي وخطير في الطريقة التي تتشكل بها أفكاره، وتتحدد فيها مواقفه، بل وحتى تُعاد صياغة وعيه الثقافي والمعرفي. وفي الزمن الذي سبق الانفجار التكنولوجي، كانت عملية إنتاج الأفكار لدى المثقف تنبع من مصادر أكثر بطئًا وأكثر تعقيدًا: الكتب، المحاضرات، الحوار المباشر، التجريب الميداني، التأمل العميق. كان المثقف مطالبًا بالسير في دروب شاقة لاكتساب المعرفة، والبحث عن الحقيقة، وتكوين رأي مستقلّ عن ضوضاء المجتمع. أما اليوم، فقد فرضت التكنولوجيا بيئة فكرية جديدة، تميل إلى السرعة، التفاعل الفوري، والمعلومات السطحية، وهو ما يعيد تشكيل البنية الداخلية لعقل المثقف دون أن يشعر.
واليوم الذكار الاصطناعي، السلاح الذي هو أقوى من القنبلة الهيدروجينية، بالنسبة للبشر، والتخوف منه بدأ يظهر رويدا – رويدا، حيث مخاطره مستقبلا، ستشكل صدمة لدى عموم العالم، بحسب تقارير تظهر هنا وهناك.
إذ تعمل التكنولوجيا، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي خصوصًا، على ضغط الزمن وتقليص مساحة التأمل. لم يعد المثقف يملك رفاهية الصمت أو الغياب الطويل للتفكير أو القراءة. بات مطالبًا بالحضور الدائم، بردّ الفعل، والمشاركة، وإنتاج محتوى قابل للاستهلاك اللحظي. وهذا يخلق نوعًا من الاستعجال في بناء المواقف، والانخراط في قضايا آنية غالبًا ما تكون زائفة أو مؤقتة. وبذلك يصبح المثقف، تدريجيًا، مفعولًا به، لا فاعلًا: يتجاوب بدل أن يُبادر، ينفعل بدل أن يُوجّه.
ومن جانب آخر، فإن هذه التكنولوجيا تمارس نوعًا من "القولبة" على مستوى الذوق والمعنى، بحيث تُفرض عليه رموز ثقافية متكررة، وصور نمطية، ومواقف جاهزة، يتم تداولها وتضخيمها عبر خوارزميات مصممة بدقة لتُرضي ما هو شائع، لا ما هو عميق. يجد المثقف نفسه محاصرًا بآراء الجماعة الرقمية، تحت ضغط الإعجاب والمشاركة، مما يحدّ من جرأته على التعبير عن مواقف غير مألوفة أو صادمة للرأي العام الرقمي، حتى لو كانت أكثر صدقًا أو أصالة. وهنا يبدأ التنازل البطيء عن حرية الفكر لصالح مقبولية الخطاب. هذا التنازل لا يحدث بشكل مباشر، بل يحدث كتحول ناعم في الوعي. يتغير أسلوب المثقف في الكتابة، في اختيار المواضيع، في تحديد الأولويات الفكرية. شيئًا فشيئًا، يُعاد تشكيله وفق إيقاع السوق الثقافي الجديد: كيف أكون مقروءًا؟ كيف أُصنَّف؟ كيف أحظى بالانتباه؟، تصبح الأسئلة التسويقية أحيانًا أكثر إلحاحًا من الأسئلة المعرفية أو القيمية. وهذا يتناقض جذريًا مع وظيفة المثقف، التي تقوم أساسًا على مساءلة السائد لا مهادنته، وعلى تفكيك الآليات الخفية للهيمنة الرمزية، لا إعادة إنتاجها.
ومن هذا المنطلق، فأن تأثير التكنولوجيا لا يتوقف عند حدود الشكل أو الوسيط، بل يتسلل إلى العمق: إلى طريقة تفكير المثقف. يميل العقل التكنولوجي إلى التجزئة، إلى القطع المعرفي، إلى تقديم الحقيقة في جرعات سريعة ومنفصلة. وهذا يتناقض مع طبيعة المعرفة العميقة التي تتطلب التركيب، الربط، والذهاب إلى الجذور. لذلك فإن المثقف الذي لا يُقاوم هذه العدوى قد يفقد قدرته على الرؤية الكلية، وعلى فهم الظواهر في سياقاتها التاريخية أو البنيوية، ويكتفي بتفسيرها وفق منطق "الترند" أو العناوين السريعة.
واضافة إلى ما سبق القول، أنّه لا يمكننا الحديث عن المثقف والتكنولوجيا بمعزل عن سؤال الوعي والمقاومة. هل سيبقى المثقف فريسة سهلة لآليات القولبة الجديدة؟ أم يمتلك من أدوات النقد الذاتي والبصيرة ما يسمح له باستعمال التكنولوجيا دون أن يُستعمل بها؟، إذ ليس المطلوب القطيعة مع الوسائل الحديثة، بل استعادة المبادرة فيها، إعادة تسييسها، وإنتاج خطاب فكري يعي أدواته وقيوده، ويرفض أن يتحول إلى صوت في جوقة لا يعرف من يقودها.
ونعتقد أن القولبة الفكرية عبر التكنولوجيا ليست قدرًا محتومًا، بل معركة مستمرة. ولكي يظل المثقف مثقفًا لا مجرد "مؤثر"، لا بد أن يُعيد النظر في علاقته بالزمن، بالمعرفة، وبالذات. لا بد أن يُعيد تأسيس فكره من خارج الإدمان الرقمي، وأن يقف ـ ولو مؤقتًا ـ خارج هذا السيل الجارف ليكتب، لا ما يُطلب منه، بل ما يجب أن يُقال.
ولكي يكتب المثقف ما "يجب أن يُقال" لا ما يُطلب منه، عليه أن يتحرر أولًا من فخّ التفاعل، من غواية "اللايك" و"المشاركة" و"الصدى الرقمي"، لأنّ هذه المؤشرات الظاهرة لا تعني بالضرورة أن ما يُقال ذو قيمة أو أثر حقيقي. إن ما تصنعه التكنولوجيا الحديثة هو اقتصادٌ رمزيٌ ضاغط، يحوّل الفكر إلى "محتوى"، والموقف إلى "رأي شائع"، والاختلاف إلى خطر على الجماهيرية، وهذا يشكّل تحديًا حقيقيًا لجوهر وظيفة المثقف.
وهذا ما لاحظته بنفسي، على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى الفيس بوك تحديدا، حيث أرى كثير من السفاسف، والخزعبلات، والمحتويات الهابطة، وعليها كمية هائلة من "اللايكات" ومن المشاركات، ومن التعليقات، ما يثير الاشمئزاز.
ووسط هذه المعمعة، والتناقضات، فأن المثقف الحقيقي ليس مجرد منتج للنصوص، بل هو كائن نقديّ، يرفض الاستسلام للغة المُعلّبة والاتجاهات العامة، ويحاول أن يعيد توجيه النظر، أن يخلق ثغرة في الجدار الناعم لهذا النظام التقني المسيطر. وهذا لا يتحقق ما لم يمتلك شجاعة العزلة الواعية، وفضيلة البطء، وجرأة التفكير من خارج الإطار المفروض. لقد أصبحت التكنولوجيا تنتج ما يشبه الصوت الموحد الجماعي، والمثقف مطالب بأن يكون النشاز الضروري، الصوت الذي يوقظ، لا الذي يُطرب.
ولنكون صادقين في أن القولبة تبدأ حين يكفّ المثقف عن مساءلة أدواته، وحين يسمح للمنصات أن تختار عنه جمهوره، وزاوية نظره، وسقف حريته. من دون مقاومة هذا التكيّف الأعمى مع شروط السوق الرقمي، يُصبح المثقف مجرد نسخة قابلة للتكرار، تفقد تفردها وضرورتها. ولذا، فإن التحدي الأكبر أمام المثقف اليوم ليس الوصول إلى الجمهور، بل الحفاظ على صدق الخطاب وعمقه واستقلاله في زمنٍ تُدار فيه الأفكار كأنها بضائع.
إن التكنولوجيا، اليوم، بكل ما تمنحه من إمكانات، ليست بريئة. إنها تحمل في بنيتها تحيزات ثقافية وقيمًا خفية تعيد تشكيل علاقة الإنسان بالعالم والمعرفة والآخر. وإذا لم يكن المثقف واعيًا لذلك، فإنه سيساهم دون أن يدري في إعادة إنتاج "القطيع"، بدل أن يكون صوتًا يحرّضه على الوعي والمقاومة.
بهذا المعنى، ليس المثقف من يُتقن أدوات التكنولوجيا، بل من يعي حدودها، ويكشف آلياتها، ويستعملها كوسيلة لنقد السلطة، لا كامتداد ناعم لها. التكنولوجيا ليست عدوًا، لكنها أيضًا ليست صديقًا. إنها ساحة معركة فكرية، وعلى المثقف أن يقرر: هل يكون من المقاتلين، أم من التابعين.
مصادر المقال:
1.هربرت ماركوز، دار الآداب لبنان، تاريخ الطبع 1972، ترجمة محسن مويدي.
2.نيكولاس كار- السطحيون: ما يفعله الانترنت بادمغتنا، دار نشر مركز نما لسنة 2010.
3.زيجموند باومان، الحداثة السائلة، الشبكة العربية للأبحاث، لسنة 2000، ترجمة حجاج ابو جبر.
4.الوجودية الجديدة عند كولن ولسن، د. سليم عكيش، منشورات شبكة المعارف، الطبعة الأولى بيروت لسنة 2010.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف والقيود الذاتية: هل المثقف يصنع قيوده؟(31)
- جسر على نهر الاسئلة: الشاعر طه الزرباطي
- المثقف المقولب في عصر العولمة: تحديات وآفاق(30)
- المثقف والحدود الفكرية: كيف تُرسم(29)
- القولبة الفكرية: خطر على الحوار الثقافي(28)
- المثقف كصانع قوالب أو كضحية لها؟(26)
- أوجاع غير قابلة للغفراف
- الضغوط المؤسسة على حرية المثقف(26)
- هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟
- المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)
- تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)
- المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
- تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
- المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
- المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
- صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
- المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
- التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
- ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
- هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)


المزيد.....




- إسرائيل تقول إن صاروخا أطلق من اليمن -تفتت في الجو-
- وزارة العدل الأميركية تنشر محاضر وتسجيلات مقابلة مع شريكة إب ...
- اجتماع بين وزيري خارجية أميركا وكوريا الجنوبية قبل قمة بين ا ...
- مصرع 5 بانقلاب حافلة سياحية على طريق سريع في نيويورك
- 89 قتيلا خلال 10 أيام جراء هجمات في الفاشر السودانية
- عراقجي يثير التساؤلات حول مصير اليورانيوم: -مدفون تحت الأنقا ...
- ترمب يعين أحد أبرز مساعديه في البيت الأبيض سفيرا لدى الهند
- بوتين يرى بارقة أمل في العلاقات بين روسيا وأميركا خلال ولاية ...
- إدارة ترمب تعتزم إقالة رئيس وكالة استخبارات الدفاع
- -تيك توك- في بريطانيا تحت وصاية الذكاء الاصطناعي


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - تأثير التكنولوجيا على قولبة أفكار المثقف(32)