أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف والقيود الذاتية: هل المثقف يصنع قيوده؟(31)














المزيد.....

المثقف والقيود الذاتية: هل المثقف يصنع قيوده؟(31)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8441 - 2025 / 8 / 21 - 23:20
المحور: قضايا ثقافية
    


الحديث عن القيود الذاتية التي تعيق المثقف وتحد من قدرته على أداء دوره الحقيقي، يفتح الباب واسعا لتفكيك صورة نمطية تعتبر المثقف طليق الفكر وصاحب موقف، في حين أن التجربة تشير إلى أن الكثير من المثقفين يحملون في داخلهم قيودًا غير مرئية، لكنها أشد تأثيرًا من القيود المفروضة عليهم من الخارج، الأمر الذي يدعونا أن نتقد المثقف بشدّة.
وأنا لديّ تجربة صارخة في هذا الاطار، سأتطرق اليها في هذا المبحث، بعد أن أوضح هذا المفهوم "هل المثقف يصنع قيوده؟".
وأعتقد جازما، بأن القيود الذاتية للمثقف – موجودة - ولا تولد من فراغ، بل هي نتاج بيئة معقدة تشكّلت عبر مراحل متعددة. فالتنشئة الأولى، والتعليم، والثقافة السائدة، والخوف من العزلة أو من فقدان الامتياز، كلها عوامل تساهم في تشكيل بنية داخلية لدى المثقف تجعله في كثير من الأحيان أسيرًا لرغبة في القبول، أو الخوف من الرفض، أو الحاجة إلى البقاء ضمن دائرة الأمان الاجتماعي والثقافي. لهذا، فإن المثقف قد يُمارس رقابة على ذاته تفوق تلك التي تمارسها أي سلطة خارجية، فيُجنّب نفسه المواقف الحادة، ويتجنّب الاصطدام، ويتخذ الحياد موقفًا، ليس عن قناعة، بل عن تحفظ خفي.
وقد لاحظت الكثير من المثقفين، رغم امتلاكهم أدوات المعرفة، ووعيهم بخلل الواقع، يترددون في تسمية الأشياء بأسمائها، أو يختبئون خلف لغة مراوغة وغامضة، ظنًا منهم أن الغموض يحفظ لهم مكانة "النخبة"، في حين أن ذلك في جوهره يعكس تردّدًا عميقًا نابعًا من داخلهم. هذا التردد، وهذه المساومة الداخلية، هما من أبرز مظاهر القيد الذاتي. إن المثقف الذي يخشى خسارة جمهوره أو سمعته أو فرصه المستقبلية، يصبح رهينة لحسابات شخصية تُعيق أداءه الوظيفي كمثقف، أي كصوت نقدي، مستقل، وغير خائف من تبعات الصدق.
والآن أشير إلى التجربة الشخصية التي لاحظتها بنفسي، وذلك من خلال عملي في الكثير من الصحف والمجلات المحلية، أن بعض المثقفين من الذين عملوا معي كمحررين، كانوا يضمرون في أنفسهم بعض القضايا، التي تخص الثقافة، بشكل عام، يخشون من طرحها أو تناولها، من خلال المقالات أو التحليلات، وحين أسألهم عن ذلك، خارج العمل في المؤسسة، كانوا يجيبون بأنهم لا يستطيعون، رغم كون بعض تلك المؤسسات كانت تعطيهم الضوء الأخضر في الكتابة.
واللافت أن بعض المثقفين الذين يبدون في الظاهر متحررين، يخضعون داخليًا لقوالب فكرية لا يقلّ سجنها قسوة عن سجون الأنظمة. فالمثقف الذي ينتمي إلى إيديولوجيا ما، قد يقمع داخليًا أي صوت يناقض قناعاته، ليس بدافع البحث عن الحقيقة، بل بدافع الحفاظ على صورة "المثقف المبدئي". وهكذا يصبح المثقف، باسم المبادئ، أسيرًا لفكر مغلق، لا يتسامح مع النقد الذاتي، ولا يقبل أن يرى تعقيد الواقع خارج حدوده النظرية. هذا أيضًا نوع من القيد الذاتي، يتخفى وراء خطاب المبدئية، لكنه في جوهره رفض للتحرر الحقيقي من الأفكار الجاهزة.
ومن الزوايا التي نادرًا ما تُناقش عند الحديث عن المثقف، تلك المتعلقة بتكوينه النفسي. فالمثقف كائن يعيش داخليًا صراعًا مستمرًا بين الذات العامة والذات الفردية، بين ما يُنتظر منه وما يشعر به، بين صورته في أعين الآخرين وبين حقيقته. هذا الصراع قد يدفعه أحيانًا إلى نوع من الانفصال أو الازدواجية، حيث يظهر خطابًا صلبًا في العلن، لكنه يتراجع داخليًا، أو يشعر بالذنب، أو يعاني من الانهاك الوجودي. إن الخوف من السقوط، من الخطأ، من أن يُكتشف أنه لا يعرف كل شيء، كلها مشاعر تدفع المثقف إلى تبني خطاب مثالي قد يبدو رصينًا، لكنه في حقيقته محاولة لتعويض هشاشة داخلية، أو لتغطية عدم يقين لا يُفصح عنه.
ولا يمكن في هذا السياق تجاهل الدور الذي يلعبه المجتمع في تكريس هذه القيود الداخلية. فالمجتمع الذي يضع المثقف في خانة "العارف الكامل" أو "المعلّم الأخلاقي"، يحمّله مسؤولية تفوق طاقته البشرية، ويجعل أي تراجع أو اختلاف في رأيه بمثابة خيانة. هذا الضغط الاجتماعي غير المرئي يخلق لدى المثقف رقابة داخلية، تدفعه إلى الصمت أو إلى المراوغة، أو إلى التماهي مع ما يُنتظر منه لا مع ما يؤمن به فعليًا. وهنا تبرز إشكالية جوهرية: كيف يمكن للمثقف أن يكون حرًا، إذا كانت ذاته مثقلة بانتظارات الآخرين، ومكبلة بالخوف من فقدان رمزيته أو شرعيته؟.
إن مواجهة القيود الذاتية لا تتم بالهروب منها، ولا بإنكارها، بل أولاً بالاعتراف بها. فالمثقف الذي يتأمل ذاته بصدق، ويعترف بحواجزه النفسية، هو أقرب إلى الصدق من مثقف يصرّ على صورة مزيفة للثبات والصلابة. النقد الذاتي، والقدرة على التشكيك في الذات، ومراجعة المواقف، ليست ضعفًا بل علامات على الوعي العميق. والمثقف الذي يُمارس هذه الشفافية مع ذاته، قادر على أن ينقلها إلى الآخرين، وأن يمارس دوره بجرأة حقيقية، لا مستعارة.
وبالتالي، فإن الحديث عن المثقف والقيود الذاتية ليس محاولة لإدانة المثقف أو تجريده من قيمته، بل محاولة لفهم إنسانيته. فالمثقف ليس بطلًا خارقًا، ولا رسولًا منزّهًا، بل إنسانًا يعاني، ويخاف، ويتردد، لكنه رغم ذلك، مطالب بالارتقاء فوق هذه المحددات بقدر ما يستطيع. وحين يفعل، لا يكون ذلك لأنه مُلزم بدور تاريخي أو ثقافي، بل لأنه اختار أن يكون صادقًا مع نفسه، أولًا، ومع فكرته ثانيًا، ومع العالم أخيرًا.
مراجع المقال:
1.خيبة المثقفين، جوليان بندا، ترجمة كمال دسوقي.
2.المثقفون، بول جونسون، ترجمة عبد الاله الملاح.
3.عصر الانحطاط: المثقفون في زمن الهزيمة، زيغمونت باومان، ترجمة ناصر عبد الرحمن.
4. الانسان المهدور، مصطفى حجازي.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جسر على نهر الاسئلة: الشاعر طه الزرباطي
- المثقف المقولب في عصر العولمة: تحديات وآفاق(30)
- المثقف والحدود الفكرية: كيف تُرسم(29)
- القولبة الفكرية: خطر على الحوار الثقافي(28)
- المثقف كصانع قوالب أو كضحية لها؟(26)
- أوجاع غير قابلة للغفراف
- الضغوط المؤسسة على حرية المثقف(26)
- هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟
- المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)
- تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)
- المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
- تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
- المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
- المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
- صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
- المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
- التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
- ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
- هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
- قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)


المزيد.....




- تحليل لـCNN: كيف منح ترامب روسيا -كل ما تريده تقريبا- بخطته ...
- تغييرات-محتملة- في إدارة ترامب.. مصادر تكشف لـCNN الكواليس
- في أول لقاء بينهما، ترامب يشيد بمحادثاته مع ممداني
- واشنطن تحذر الطيران المدني في أجواء فنزويلا من مخاطر عسكرية ...
- الجيش السوري و-قسد- يتفقان على وقف التصعيد في الرقة
- نواب أميركيون: خطة ترامب بشأن أوكرانيا تكافئ بوتين
- تعليق جديد لترامب عن أول لقاء مع زهران ممداني بعد الانتقادات ...
- أنباء عن اتفاق بين الجيش السوري و-قسد- عقب اشتباكات بريف الر ...
- وزير لبناني: سوريا تتجاوب بشأن معلومات عن اغتيالات في عهد ال ...
- قتيل في غارة إسرائيلية جديدة جنوبي لبنان


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف والقيود الذاتية: هل المثقف يصنع قيوده؟(31)