عببر خالد يحيي
الحوار المتمدن-العدد: 8441 - 2025 / 8 / 21 - 22:21
المحور:
الادب والفن
مقدمة:
تأتي مجموعة "شواطئ الغربة" للكاتب الليبي خالد خميس السحاتي بوصفها شهادة سردية على معاناة الإنسان العربي في زمن المنفى والتشظي. تتوزع نصوصها بين القصص القصيرة والقصيرة جدًا، لكنها جميعًا تتقاطع عند ثيمة مركزية هي الغربة، بما تحمله من أبعاد مكانية ونفسية واجتماعية. فالغربة هنا ليست مجرّد ابتعاد عن الوطن، بل انكسار داخلي يعيد صياغة الذات في فضاء المنفى واللاانتماء.
يميل الكاتب إلى المزج بين اللغة الشعرية والتعبير السردي المباشر، ليخلق صورًا بصرية غنية تستحضر البحر والشواطئ والطرق والوجوه، بما يجعل النصوص أقرب إلى لوحات تشكيلية ترافق التجربة الوجدانية. وتكشف المجموعة عن وعي أخلاقي يدعو إلى التمسك بالوطن والهوية، ويكشف مرارة الانفصال القسري. كما أن النصوص تحمل في طياتها بُعدًا نفسيًا متوترًا بين الحنين والقلق، حيث تنمو الأحداث ببطء، وتُترك النهايات مفتوحة على احتمالات الحزن واللايقين.
إن هذه القراءة الذرائعية تسعى إلى مقاربة مستويات المجموعة (الفكري، الأخلاقي، البصري، اللغوي، النفسي، الديناميكي) مع ربطها بالتجربة الإبداعية التي صرّح بها الكاتب، إذ جمع هذه النصوص على مدى عقدين، لتغدو مرآة لرحلة طويلة في الاغتراب الفردي والجماعي.
البؤرة الفكرية والأخلاقية:
المجموعة تنبني على ثيمة الغربة بمعانيها المتعددة:
الغربة المكانية: الهجرة عن الوطن والعيش في المنافي.
الغربة الاجتماعية: العزلة وسط مجتمعك أو بين أهلك.
الغربة النفسية: الانفصال عن الذات والحنين المستمر إلى هوية متصدعة.
البعد الأخلاقي يتجسد في الدعوة إلى التمسك بالوطن كجذرٍ روحي وإنساني، وفضح مرارة الانفصال عنه قسرًا أو طوعًا. الغربة هنا ليست مجرد ظرف جغرافي، بل حالة وجودية تكشف هشاشة الإنسان وانكساراته في مواجهة الفقد.
الغربة بمعانيها الثلاثة: المكانية، الاجتماعية، النفسية.
أخلاقيًا: النصوص تحثّ على التمسك بالجذر الوطني والهوية.
المستوى البصري
النصوص مليئة بالصور البصرية التي تجسد البحر، الشواطئ، الألوان، المدن البعيدة، والأطياف، وكأنها لوحات تشكيلية مرافقة للنص. البعد البصري يعكس نزوع الكاتب إلى تشخيص الاغتراب عبر مشاهد مكانية مؤطرة: موانئ، شوارع، منازل، وجوه متعبة.
كثافة الصور: البحر، الشواطئ، الألوان الرمادية، وجوه شاحبة.
"تسربت صور الماضي الباهتة إلى نوافذ ذاكرته التي نسي أن يغلفها قبل أن يطل الليل بظلامه الحالك" ص15
يتميّز خالد خميس السحاتي في مجموعته "شواطئ الغربة" بقدرة لافتة على توظيف البصر والفن التشكيلي داخل النسيج القصصي. فالنصوص ليست محكومة بالكلمات وحدها، بل تعانقها لوحات تشكيلية أنجزها الفنان التشكيلي د. معتوق أبو راوي، جاءت في مقدمة كل قصة لتشكل مدخلًا بصريًا للقارئ.
1. التوازي بين القصة واللوحة
كل قصة تُفتَتح بلوحة تشكيلية تحمل خطوطًا وألوانًا تستبق السرد، لتضع المتلقي في فضاء الغربة قبل أن تبدأ الحكاية. وكأن اللوحة تقوم بدور التمهيد النفسي والبصري الذي يُكمل فعل اللغة.
في قصة "شواطئ الغربة" (ص15)، تسبق النص لوحة لقاربين على أحدهما أطفال، بألوان رمادية مائلة للزرقة، تعكس الأفق الغائم، وهو ما يتناغم مع جملة " ... خرج باحثًا عن جزيرة نائية يرسو مركبه المحطم عليها". ص 16
2. اللون بوصفه مرآة للشعور
تكرار اللون الرمادي والأزرق القاتم في اللوحات يوازي إحساس النصوص بالاغتراب والتيه، فيما تظهر أحيانًا لمسات من الأحمر القاني، لترمز إلى القلق أو الدم أو الحنين الجارح.
شاهد (ص9): وصف الوجوه الشاحبة والفراغ اللوني يلتقي مع لوحة يغلب عليها البياض المتشقق، وكأنها جسد الغربة نفسه.
3. تشخيص الاغتراب بالخطوط
الخطوط المائلة والمتقطعة في اللوحات تمثل التشظي والتمزق الداخلي، وهو ما يعادل نصيًا في وصف الشخصيات الممزقة بين الماضي والحاضر.
شاهد (ص6): "الغربة في عالم اللاانتماء… يعيش الغريب مع أهله وفي مجتمعه، لكنه بلا طمأنينة."
4. تماهي البصري واللغوي
النصوص تميل إلى تكثيف الاستعارات البصرية: البحر، الموانئ، الغروب، بينما اللوحات تمنح هذه الرموز أبعادًا ملموسة، فيغدو القارئ أمام جدلية النص والصورة.
بالنهاية، يقدّم القاص عبر هذه التقنية نصًا مركّبًا يتجاوز حدود الكلمة إلى الفضاء التشكيلي، بحيث تتحول المجموعة إلى معرض سردي بصري، يجمع بين القص والحس التشكيلي في تجربة فريدة تجعل المتلقي يقرأ ويرى في آن واحد.
المستوى اللغوي
لغة الكاتب تميل إلى التداخل بين الوصف الشعري واللغة السردية المباشرة.
هناك كثافة استعارات وتشبيهات تخلق جمالية في النص.
أحيانًا يقترب من الإيقاع الشعري (التكرار، الجمل الموازية).
الحوار قليل نسبيًا مقارنة بالسرد الداخلي.
لغة تتأرجح بين السرد والتعبير الشعري.
هيمنة الاستعارات والتكرار.
المستوى النفسي
النصوص تحفر في أعماق الذات المغتربة: قلق، حنين، خوف، بحث عن معنى.
الشخصية الرئيسة غالبًا تواجه عزلة نفسية.
هناك استبطان طويل للأفكار والذكريات.
يتكرر حضور ثنائية (الماضي/الحاضر)، (الوطن/الغربة).
الغربة كحالة قلق وجودي.
استبطان داخلي للشخصيات.
المستوى الديناميكي
الأحداث ليست متسارعة، بل تتطور ببطء، أحيانًا بطريقة تأملية.
البداية غالبًا وصف لمشهد أو حالة شعورية.
العقدة تأتي عبر صدام مع واقع الغربة (موت، اغتراب، فقد).
النهايات مفتوحة أو مائلة للحزن، تؤكد غياب الحلول.
السرد يتطور ببطء تأملي.
العقدة غالبًا صدام مع واقع الغربة.
النهايات مفتوحة على اللايقين.
التجربة الإبداعية
القصص تمثل خلاصة عقدين من الكتابة والتجربة.
مستوحاة من الواقع الليبي وتجارب الهجرة والاغتراب.
"حاولتُ أن أجمع شتات ما كتبت في هذا الفن بين دفَّتَي كتاب واحد." ص6
من خلال التقديم والإهداء، يبدو أن الكاتب جمع هذه القصص على مدى عقدين تقريبًا، وهي تمثل خلاصة تجربة شخصية مع الاغتراب.
الكاتب يعترف أن هذه القصص كانت متناثرة، ثم جمعها ليصوغ "ذاكرة الغربة".
التجربة متأثرة بالواقع الليبي وما عرفته البلاد من هجرات قسرية واضطرابات.
البعد الفني متداخل مع البعد الإنساني، فالقصص هي سيرة جماعية بقدر ما هي سرد فردي.
خلاصة عامة
المجموعة تضع القارئ أمام نصوص تؤسس لمناخ قصصي قائم على الغربة كجرح وجودي، تتقاطع فيه الأبعاد الفكرية والنفسية والبصرية، ضمن لغة شعرية تخلق أثرًا تأمليًا يضاعف من ثقل التجربة الإنسانية.
وقد اخترت قصة من قصص المجموعة والت حملت عنوان المجموعة.
شواطئ الغربة:
قراءة ذرائعية في البنية الوجودية والنفسية لتجربة الاغتراب
يُعدّ الأدب القصصي مرآةً تعكس قلق الإنسان وأسئلته الكبرى، وهو في أشدّ تجلياته حين يقترب من موضوع الغربة والاغتراب، بما يحمله من تمزّق بين الحنين إلى الوطن والانغماس في واقع المنافي. تأتي قصة "شواطئ الغربة" للكاتب الليبي خالد خميس السحاتي بوصفها نصًا مركزيًّا في مجموعته القصصية التي تحمل الاسم ذاته، لتختزل بؤرة التجربة الإبداعية وتكثف ثيماتها المتعددة.
الغربة في هذا النص ليست حالة مكانية فحسب، بل هي جرح وجودي يتجلى في صور بصرية وإيحاءات لغوية، ويترسّخ في البنية النفسية للشخصية. إنّها غربة مزدوجة: خارجية عن الوطن، وداخلية عن الذات. يبرز الكاتب عبر نصّه البعد الأخلاقي في التمسك بالهوية، ويعكس من خلال الحضور المتكرر للبحر والشواطئ رمزية الذاكرة واللاانتماء، في سردٍ يتسم بالبطء التأملي والنهايات المفتوحة، مما يمنح النص طابعًا فلسفيًا يحاور القارئ أكثر مما يجيب عن أسئلته.
إنّ هذه القراءة الذرائعية تسعى إلى تفكيك مستويات القصة (الفكرية، الأخلاقية، البصرية، اللغوية، النفسية، الديناميكية، والتداولية)، مع إبراز دور التجربة الإبداعية التي تمتد لعقود في صياغة نصّ يعبّر عن معاناة جماعية بملامح فردية، حيث تتحول الغربة إلى معادل موضوعي لحالة الإنسان العربي المعاصر في مواجهة الفقد والانكسار.
أولًا: البؤرة الفكرية والخلفية الأخلاقية
تتمحور القصة حول الغربة بوصفها جرحًا وجوديًا، لا يقتصر على المكان (الهجرة/المنفى) بل يتسع ليشمل الانفصال عن الذات والأهل والمجتمع.
البؤرة الفكرية: الإنسان المغترب مخلخل الكيان، تتنازعه الذاكرة والحاضر، فيعيش بلا جذور ولا يقين.
الخلفية الأخلاقية: دعوة ضمنية إلى الوعي بقيمة الوطن والهوية، وتحذير من التشظي والذوبان في المنافي.
"فراغ يلفّ الفضاء، تدبّ فيه العزلة، وتتوه الشمس خلف الأفق..."
هذا المقطع يربط الغربة بالفراغ والضياع، في صورة مكثفة تُبرز انعدام المعنى.
ثانيًا: المستوى البصري
القصة تعتمد على التصوير البصري المكثف: البحر، الشواطئ، الغروب، الألوان الباهتة، وجوه شاحبة.
هذه الصور تُجسّد الغربة كفضاء بصري ملموس، يحولها من مجرد فكرة إلى مشهد حيّ.
البحر يتكرر كرمز: حدّ فاصل بين الوطن والمهجر.
"... ضاعتِ التذاكر وبطاقات الحجز والهوية في شواطئ الغربة"
ثالثًا: المستوى اللغوي
اللغة مشحونة بالإيحاء الشعري: مفردات (الفراغ، الغروب، الأفق الرمادي، التشظي، التيه).
السرد داخلي/ تأملي أكثر منه حواري.
الجمل قصيرة متوترة، تعكس نفسية مضطربة.
"تشابكت خواطره المشوشة، وتراشقت بحبات الوهم القاتل، فاختلط الحابل بالنابل"
رابعًا: المستوى النفسي
القصة تنفتح على عمق نفسي مأزوم:
البطل يعيش انقسامًا بين الحنين للماضي والرضوخ لواقع الاغتراب.
هناك شعور بالتيه، اللاانتماء، الخوف من الضياع الأبدي.
الغربة تصبح حالة مرضية (اكتئاب/اغتراب وجودي).
"ثم خرج باحثًا عن جزيرة نائية يرسو مركبه المحطم عليها.. فما لبثت شطئان الغربة تدعوه لسبر أغوارها من جديد".
خامسًا: المستوى الديناميكي
الأحداث تتحرك ببطء، لكنها ديناميكية داخلية (صراع نفسي).
لا نجد تصاعدًا تقليديًا، بل تناميًا شعوريًا يصل إلى ذروة الحيرة ثم يترك النهاية مفتوحة.
الغربة هنا ليست حدثًا خارجيًا بل صراعًا داخليًا متناميًا.
"تذكّر طفليه .... ابتسم بألم ثم غادر إلى هناك حيث لا تعبث أمواجُ التشظي بقواربِ الكادحين"
سادسًا: المستوى الحجاجي/التداولي
الخطاب موجّه ضمنيًا إلى القارئ/المغترب، كدعوة للتفكير في معنى الهوية والوطن.
القصة تثير أسئلة: هل الغربة قدر لا مفر منه؟ هل يمكن للوطن أن يُستعاد؟
الكاتب يترك الباب مفتوحًا للحوار، بدل تقديم أجوبة جاهزة.
" تساءل عن جدوى هذه اللحظات الباقية، وعن قيمة الحياة كلها دون رفيق يخفف عنه وعثاء السفر، ... "
سابعًا: التجربة الإبداعية
هذه القصة تمثل لبّ تجربة الكاتب كما صرّح في تقديمه للمجموعة:
كتب النصوص على مدى عقدين، وهي تمثل تجربة شخصية مع الغربة والمنفى.
القصة عنوان للمجموعة، مما يدل على أنها الخلاصة والمرآة لبقية النصوص.
الكاتب يوظف سيرته الذاتية بشكل غير مباشر، لتصبح الغربة تجربة جماعية.
قصة "شواطئ الغربة" تنجح في تكثيف ثيمة المجموعة كلها:
فكريًا: الغربة جرح وجودي.
بصريًا: البحر والشاطئ رمزان للفقد.
نفسيًا: صراع داخلي متوتر.
أخلاقيًا: دعوة ضمنية للتمسك بالوطن والهوية.
تداوليًا: نص مفتوح يدعو القارئ للتأمل.
قصة تحمل بُعدًا وجوديًا وجماليًا، تجعلها أكثر نصوص المجموعة تعبيرًا عن فلسفة الكاتب وتجربته.
#دعبيرخالديحيي الإسكندرية – مصر 21/ 8 / 2025
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟