أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي دريوسي - رجال الدين والفيدرالية














المزيد.....

رجال الدين والفيدرالية


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 20:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في خضم النقاشات المتصاعدة في سوريا التعيسة كعظمة حول شكل الدولة وإدارتها، يبرز الحديث عن "الفيدرالية" كمصطلح سياسي معقّد، كثيرًا ما يُساء فهمه، بل يُوظّف في غير سياقه من قبل فئات مختلفة. ومن بين هؤلاء، نجد بعض رجال الدين والمشايخ، لا سيما في المناطق التي تتسم بالتعدد الطائفي أو الانقسام الجغرافي ـ حيث يُطرح هذا المفهوم أحيانًا باعتباره "المنقذ" أو "الحل العادل"، بينما تكمن خلف هذا الطرح دوافع لا علاقة لها بجوهر الفيدرالية الحقيقي.

الفيدرالية هي في الأساس نظام حكم يقوم على تقاسم السلطات بين حكومة مركزية وحكومات إقليمية، ويُعتمد في دول ديمقراطية متقدمة لضمان توزيع عادل للسلطة والموارد، واحترام الخصوصيات المحلية ضمن إطار وحدة الدولة. لكن بعض رجال الدين في مناطقنا يتعاملون مع هذا المفهوم كما لو كان "سلاحًا" لحماية مكتسباتهم، أو درعًا يحول دون تدخل المركز في شؤونهم، خاصة عندما تكون تلك الشؤون ذات طابع ديني أو طائفي.

واللافت أن الكثير ممن يرفعون شعار الفيدرالية، لا يمتلكون الحد الأدنى من المعرفة بمضمونها الدستوري أو السياسي، بل يختزلونها في مجرد تقسيم إداري يكرّس الاستقلال المحلي، أو حتى شبه الانفصال، الذي يمنحهم فرصة فرض سطوتهم الدينية والاجتماعية دون رقابة أو مساءلة.

من خلال الدعوة إلى الفيدرالية، يحاول بعض رجال الدين إعادة تعريف العلاقة بين المركز والأطراف، لكن ليس من منطلق وطني جامع، بل من منظور مصلحي ضيق. في بعض الحالات، يُستخدم الخطاب الديني لتبرير هذا التوجه، باعتباره "ضرورة لحماية الهوية"، أو "ضمانًا لخصوصية المذهب"، أو "صونًا لحقوق المكوّن". ويصل الأمر أحيانًا إلى حد التحريض ضد الدولة المركزية بوصفها "قمعية" أو "ظالمة"، مع الترويج لمظلومية تاريخية تُستثمر سياسيًا أكثر مما تُعالَج واقعيًا.

خطورة هذا التوجه لا تكمُن فقط في سوء فهم الفيدرالية، بل في ما يُبنى عليه من نتائج. فحين تُختزل الفيدرالية في رغبة "الانفلات من المركز"، تصبح أداة لتعزيز الانقسامات، وتكريس الزعامات المحلية، وتثبيت سلطات دينية قد لا تخضع لأي نوع من أنواع الرقابة الديمقراطية. هنا تتحول الفيدرالية من وسيلة للعدالة إلى وسيلة للهروب من دولة القانون.

والأخطر أن هذه الدعوات كثيرًا ما تترافق مع تصعيد طائفي، أو إعادة إنتاج خطابات الهُوية المنغلقة، مما يقوّض النسيج الوطني ويزرع بذور التفكك بدلًا من أن يُسهم في بناء نظام أكثر عدالة وفعالية.

لفهم الفيدرالية بشكل أفضل، لا بد من النظر إلى تجارب الدول الأخرى، حيث اتخذت الفيدرالية أشكالًا مختلفة بحسب السياق السياسي والاجتماعي، فبعضها مثّل نموذجًا ناجحًا للاستقرار والتعدد، بينما أدى سوء فهمها أو توظيفها الطائفي إلى الانقسام والتفكك.

ألمانيا تُعد من أبرز النماذج الناجحة للفيدرالية، حيث قُسّمت البلاد إلى 16 ولاية تمتلك صلاحيات واسعة في مجالات التعليم، الأمن المحلي، والصحة، لكن في إطار وحدة سياسية صارمة تحكمها مؤسسات دستورية قوية. لم تكن الفيدرالية هناك وسيلة للتقسيم، بل أداة للتنمية والإدارة الرشيدة.

أما في سويسرا، فهي دولة متعددة اللغات والثقافات، وتُدار بنظام فيدرالي يقوم على الكانتونات. هذه الكانتونات تتمتع بسلطات واسعة وتحافظ على خصوصياتها الثقافية واللغوية، لكن ضمن عقد اجتماعي واضح يُعلي من شأن التعايش والتوافق الوطني، لا الانعزال الطائفي.

في العراق، ورغم أن الدستور نص على الفيدرالية، إلا أن بعض القوى الدينية سعت إلى استغلالها لبناء كيانات طائفية مهيمنة، ما أدى إلى تشظٍ في القرار الوطني، وانعدام الثقة بين المكوّنات، وتراجع سلطة الدولة المركزية.

مثال آخر أكثر تطرفًا هو يوغوسلافيا، حيث كانت الفيدرالية موجودة شكليًا، لكن غياب الهوية الجامعة، وتغلغل القومية والطائفية، أدى إلى حروب أهلية وانهيار الدولة في نهاية المطاف.

هذه التجارب تُظهر أن الفيدرالية ليست "كبسولة سحرية"، بل أداة تحتاج إلى بيئة سياسية ناضجة، ومؤسسات شفافة، وثقافة وطنية تؤمن بالوحدة في إطار التعدد. أما استخدامها كغطاء لمشاريع الهيمنة الطائفية أو الزعامة الدينية، فهو وصفة أكيدة للانقسام.

إن الحاجة الحقيقية ليست إلى مزيد من الأصوات التي تطالب بالفيدرالية لأغراض فئوية، بل إلى نقاش وطني جامع، يستند إلى رؤية علمية وسياسية ناضجة، يشارك فيها الأكاديميون والحقوقيون وأصحاب المصلحة الحقيقيون. ولا بد من وضع حد لتوظيف رجال الدين في قضايا لا يمتلكون أدواتها المعرفية، خاصة عندما يتحول خطابهم إلى وسيلة لترسيخ مواقعهم، لا لخدمة المجتمع الذي يدّعون تمثيله.

فالفيدرالية ليست "حصنًا طائفيًا"، ولا "محمية دينية"، بل صيغة حكم تتطلب وعيًا دستوريًا عميقًا، ومؤسسات ديمقراطية راسخة، وإرادة وطنية حقيقية. أما تحويلها إلى أداة لتعزيز الهيمنة المحلية، أو حماية "إقطاعيات دينية"، فليس سوى طريق جديد نحو تفتيت الدولة من الداخل.



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشحادة الفيسبوكية
- بين الكبرياء والتحدي
- حنين الروح
- بين لغتين
- حين خانني الصمت
- شريط ذكريات مفقود
- الإبداع والكفاح
- التوازن
- الرجل الذي أخضع الكبرياء
- حديقة التفاهم
- الرواية الأولى
- الطفل الذي لم تحتضنه قريته
- دائرة الزمن
- الفنان والواقع
- خمارة على ضفاف الراين
- التأقلم المهني
- السورية الألمانية مادلين هاردت
- في غرفة الرنين
- المجداف
- جامع جامعة دمشق


المزيد.....




- خطة السيطرة على غزة: إسرائيل ترفض الانتقادات الدولية، ومجلس ...
- احذر فالحيتان لها آذان.. كيف تستخدم الاستخبارات الحيوانات لل ...
- خبراء أمميون: عقوبات واشنطن على ألبانيزي تهدف لإسكات الأصوات ...
- الحرب في أوكرانيا: ترامب سيلتقي بوتين في 15 أغسطس في ألاسكا ...
- فيديو: مناصرون لحزب الله يقطعون طرقا في مناطق لبنانية
- -الكرملين- يعلّق على تحديد مكان لقاء بوتين وترامب
- وزراء خارجية 5 دول يدينون خطة إسرائيل للسيطرة على غزة
- الولايات المتحدة تعرض 50 مليون دولار للقبض على الرئيس الفنزو ...
- تأجيل انعقاد الجلسة الطارئة لمجلس الأمن بشأن خطة احتلال غزة ...
- كيف ينظر القانون الدولي لاستخدام مصطلح السيطرة بدل احتلال غز ...


المزيد.....

- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي
- زمن العزلة / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي دريوسي - رجال الدين والفيدرالية