|
حين خانني الصمت
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 8412 - 2025 / 7 / 23 - 16:18
المحور:
الادب والفن
ـ 1 ـ لا أعلم متى بدأت الخيانة، أو متى انتهت البراءة. كلّ ما أعلمه أنّ صباح برلين ذاك كان مختلفًا. الشمس كانت باهتة، كأنها تطلّ بتردّد، متردّدة مثلي. كنتُ أقف أمام النافذة الصغيرة في شقتي المستأجرة، أراقب عالَمًا لا يُشبهني، ولا أعرف إن كنت قد بدأت أُشبهه. ارتشفتُ أول رشفة من قهوتي. طعمها مرّ، لكنه لا يُقارن بمرارة شيء آخر كنت أحاول تجاهله. مرارة الاعتراف.
أنا، ليلى، الطالبة العربية القادمة من مدينةٍ تحفّها الأعراف، المربوطة بذكريات البيت والأم و"لا تفعلِي"، وقفتُ في ذلك الصباح على حافة خطٍّ رمادي: هل أحببتُ رجلًا غير زوجي؟ وهل هذا هو تعريف الخيانة؟ أم أن الخيانة سبقتني من هناك... من حيث أتيت؟
أغمضتُ عينيّ. كانت الرسالة الأخيرة من سامي، زوجي، لا تزال تشتعل في ذهني: "آسف. لم أقصد أن تري الرسالة. لم يكن شيئًا مهمًا."
لكني رأيتُ كل شيء. الرسائل، الصور، التفاصيل الحميمة التي لم يَعُد يخصّني بها منذ شهور. في لحظة واحدة، شعرت أنني أنا الغريبة، لا في برلين، بل في حياتي كلّها.
فتحتُ عينيّ. السماء ملبّدة بالغيوم. ورغم البرد، كنت أشعر بحرارة شيءٍ ينضج داخلي، شيء يشبه الغضب. أو الشجاعة.
كان عليّ أن أذهب. الموعد مع ماركوس لم يتبقّ عليه سوى نصف ساعة، وأنا لم أقرر بعد: هل أذهب كضحية، أم كامرأة بدأت تكتب قصّتها بنفسها؟
في البدايات، كل شيء يبدو كاملاً. القلوب تهتف قبل أن تعقل، والأصوات تختلط بالضحك والعطر والنوايا الطيبة.
هكذا كان سامي، أو هكذا أردتُ أن أراه. تعرفنا على بعضنا في الجامعة، في ردهة الكلية، حين أسقطتُ كتابي فأعاد لي إيّاه بيدين مرتجفتين، وعينين تحاولان أن تتجنّبا عيني. لم يكن وسيمًا كما تصفه الروايات، لكن فيه طيبة مطمئنة، ورجولة شرقية متأصلة، تلك التي تتحدث عن "الحماية" و"الستر" و"العائلة".
كان يحب الشعر، ويكره التصوير. قال لي مرة: "الصورة تمسك اللحظة، لكن القصيدة تحررها."
ضحكت. لم أكن أفهم شيئًا من ذلك، لكنني أحببتُ طريقته في النظر إلى الأشياء.
تقدّم لي بعد سنتين من التعارف. العائلة فرحت، وأنا شعرتُ بشيء يشبه الرضا... أو التواطؤ مع التوقعات. الزواج كان بسيطًا، بلا حفلات صاخبة. بيت صغير في حيّ شعبي، وقلبان يحاولان التناغم وسط ضوضاء الحياة.
في الأشهر الأولى، كنت أعدّ له القهوة على ذوقه، أرتّب قمصانه بالألوان، أكتب له ملاحظات صغيرة داخل محفظته.
لكنه تغيّر... أو ربما، كشف عن وجه لم أره من قبل. بدأ كل شيء مع أول ضغوط العمل.
"أنتِ لا تفهمين، ليلى. الرجال تُرهقهم المسؤولية." "مش كل يوم رومانسية. احنا كبرنا." "خليكي عاقلة، وركّزي في بيتك."
وهكذا بدأت أختفي. شيئًا فشيئًا، أصبحتُ مجرد زوجة. وظيفتي: الإصغاء، الطبخ، الانتظار.
ثم جاءت فرصة السفر إلى ألمانيا، منحة دراسية نادرة. رفضها أولاً، بشدة. قال: بنتي تسافر لوحدها؟!
لكنني لم أكن ابنته. كنت امرأة تحاول أن تظل على قيد ذاتها.
أقنعه والدي، أو ربما تعب هو من الجدال، فوافق، بشرط أن أعود "كما أنا".
ضحكت حينها… لا أحد يعود كما هو بعد السفر. حتى القصائد، تتغير حين تترجم.
غادرتُ إلى برلين، وكنت أظن أن المسافة ستجعلنا نشتاق. لكن الذي حدث أن المسافة جعلتني أراك بوضوح يا سامي…
ورأيتُ كم كنتُ وحدي، حتى حين كنتَ بجانبي.
في الجامعة البرلينية، لم يكن أحدٌ يعرفني حقًا. كنت الطالبة الهادئة، التي تجلس قرب النافذة دائمًا، وتكتب كثيرًا، لكن لا تشارك أبدًا. اللغة كانت جدارًا أحيانًا، وأحيانًا قناعًا. أحببتُ المكتبة أكثر من قاعات المحاضرات، كانت مأوى من العالم، ومن نفسي. ذات مساء رمادي، كنت أبحث عن كتاب نادر حول علم الاجتماع الثقافي. كانت يدي تمتد نحو الرف الأعلى حين سمعتُ صوتًا خلفي يقول بلغة إنجليزية واضحة: „Do you need help reaching that?“
استدرت، ورأيته للمرة الأولى. رجل في أواخر الثلاثينات، طويل، بشعر أشقر بدأ يخونه الزمن عند أطراف الجبين. عيناه زرقاوان، لكن ليستا من ذلك النوع البارد، بل فيهما دفء يشبه القصص.
قلت له: „Yes, thank you. I’m just a bit short for German shelves.“ وضحك، ضحكة ليست صاخبة، بل كأنها اعتادت احترام الصمت. ناولني الكتاب، وبقي واقفًا. „Are you new here?“ “A few months. I’m from Lebanon.” “Welcome. I’m Markus. Sociology department.” صافحني، ومضى. لم يحدث شيء يُذكر. لكنني بقيتُ أفكر في تلك الضحكة.
في الأيام التالية، التقينا صدفة أكثر من مرة. مرّة في مقهى الجامعة، مرة في ندوة عن الاندماج الثقافي، وأخرى في معرض صور لنساء مهاجرات. كان ماركوس مستمعًا جيدًا، وسألني أسئلة لم يسبق أن وجّهها لي رجل: „هل تشعرين أنك تنتمين لهذا المكان؟“ „ما الفرق بين العيش كأنثى في بيروت وبرلين؟“ „ما الذي تخافينه هنا؟ وما الذي يدهشك؟“ أسئلته لم تكن غزلًا، بل فهمًا. وكانت عينيه لا تلاحقان جسدي، بل تحاولان قراءة داخلي.
في إحدى الليالي، بعد ندوة طويلة، مشينا معًا نحو محطة القطار. قال لي: „You know, Leila, you speak like someone who hides fire under her words.“ ضحكت وقلت: „And you speak like someone who wants to light that fire.“ توقفتُ لحظة بعد أن قلتها. هل كنت أ flirting؟ هل كنت أنا من بدأ؟ أم أنني فقط اشتقتُ أن أُرى، لا أن أُراقب؟ في تلك الليلة، عدتُ إلى شقتي، لم أستطع النوم. أعدت قراءة الرسائل القديمة من سامي… بعضها لم يكن لي، كنت أعرف ذلك الآن. وقفتُ أمام المرآة طويلاً. ورأيت في وجهي أمرأتين: واحدة تُفتّش عن الحب، وأخرى تُحاكم نفسها على ذلك.
ـ 2 ـ
كان يوم أحد. المدينة نائمة، والسماء رمادية كعادتها، وكأنها تتواطأ مع مزاجي. جلستُ على الكنبة التي صارت ملاذي في الوحدة، كوب شاي بالنعناع بارد منذ ساعة، وكتاب مفتوح لا أقرأ منه شيئًا. فتحتُ هاتفي بتثاقل. رسالة واحدة من سامي. "سأسافر غدًا في مهمة عمل. لا تتصلي كثيرًا. الإشارة ضعيفة."
لكنني اتصلت، كالعادة. مرتين… ثلاث. لا رد. شيء في داخلي كان يصرخ: "ليس هناك إشارة، بل امرأة."
فتحتُ تطبيقًا لم أستخدمه منذ زمن، ذلك الذي يربط الهاتف بملف الصور المشترك على الحاسوب. لم يكن مفترضًا أن يكون مفعّلًا… لكنني، ذات مساء، نسيتُ إغلاقه. وظهرت الصورة. هي. في غرفتنا. ترتدي قميصي الأزرق، الذي اشتراه لي سامي في أول ذكرى زواج. لم تكن صورة مباشرة. لم يكن فيها مشهد فاضح. لكن من يرى التفاصيل… لا يخطئ. السرير، الإضاءة، القميص، وابتسامة سامي التي لم أرها منذ شهور.
سقط الهاتف من يدي. لا أدري إن كان الصوت الذي سمعته هو سقوط الجهاز… أم قلبي. لم أبكِ. ربما لأنني كنتُ أبكي منذ شهور، بكاءً صامتًا بلا دموع. لكن ما آلمني أكثر من الخيانة، أنني لم أُفاجأ.
في اليوم التالي، زارتني فرح، زميلتي اللبنانية الوحيدة التي شعرتُ نحوها بشبه من نوعٍ ما. كانت عكس مظهري الهادئ. جريئة، صريحة، وغالبًا ما تبدأ جملها بعبارة: "ما تزعلِي مني..."
جلست على أرض غرفتي، شربت شايًا بارداً وقالت فجأة: "ليلى… إنتِ عم تعيشي بنص خيانة، بس بتحاولي تقنعي حالك إنك مو شايفة." نظرتُ إليها، لم أفهم. أكملت: "ماركوس… عيونك عم تحكي كل شي. ما بعرف إنتي معجبة فيه؟ بتحبيه؟ بس اللي بعرفه إنك عم تفتّشي عن شي، وبلّشتي تلاقيه، ويمكن هيدا الشي يدمّرك… أو يحرّرك." قلتُ بمرارة: "بس سامي… خانه قلبي، قبل ما أخونه." ردّت بهدوء غريب: "نحنا ما منخون لما نحبّ، منخون لما ننسى نحبّ حالنا." تلك الليلة، لم أنم. أغلقت الستائر، أطفأت الأضواء، وبقيت أتأمّل ظلّي على الحائط. كنت أشعر كأن جسدي غرفة يسكنها اثنان: واحدة تريد أن تعود إلى بيتها مهما انهار، وأخرى تريد أن تهدمه، وتحيا بلا حنين.
ـ 3 ـ
دعاني ماركوس إلى معرض فني عنوانه: "الهويّة كسؤال: نساء بين الوطن والمنفى." قال لي حينها: "I thought you might relate." ابتسمت دون تعليق، رغم أني شعرت بصدقه. لم يكن يحاول التقرب… كان يفتح بابًا، ويدعني أقرر إن كنت سأدخله. ذهبت. كانت القاعة صغيرة، دافئة، تعجّ بصورٍ لنساء بملامح تشبهني. نساء مشرّدات بين عواصم، بملامح خجولة، وعيون تنظر في عدسة الكاميرا كأنها تقول: "لسنا هنا تمامًا، ولا هناك تمامًا." وقفنا أمام صورة لامرأة عجوز تلفّ وجهها بحجاب نصف شفاف. قال ماركوس بصوت خافت: "She looks like she’s praying… but her eyes are full of defiance." نظرتُ للصورة وقلت: "Maybe she’s praying for courage to keep resisting." نظر إليّ طويلًا، ثم قال: "You speak like someone who’s resisting everything, even herself." كانت الجملة قاسية، لكنّها أصابت شيئًا بداخلي، فصمتُّ. مشينا إلى الخارج، كان الليل باردًا، والهواء يحمل رائحة المطر. حين وصلنا إلى مفترق الطريق، مدّ يده، لم يقل شيئًا. ولم أكن أحتاج إلى تفسير. مددتُ يدي، ولم أسحبها. كانت يده دافئة، قوية، لكنها لا تفرض نفسها. ليست كيد سامي حين كان يقبضها ليحكم النقاش… ولا كيد أبي حين كان يربّت على رأسي ليقول "اسكتي". كانت يدًا تسأل، وتنتظر الجواب من نبض أصابعي. مشت أقدامنا ببطء، كأنها تتعلّم الرقص لأول مرة. وفي داخلي، كانت أصوات كثيرة تتكلّم: "هذه خيانة." "هذه بداية جديدة." "هذه لحظة ضعف." "هذه أنتِ… كما لم تكوني من قبل." عند باب شقتي، توقفنا. قال لي: "May I see you again?" نظرت في عينيه، ولم أجب. لأن الإجابة كانت في يدي، التي لم تترك يده حتى الآن. مرّت أيام قليلة بعد تلك الليلة. لم يحدث شيء "جسدي" بيني وبين ماركوس، لكنني كنت أعلم أن شيئًا آخر، أعمق، قد حدث. كنت أذهب إلى النوم وأحسّ أنني محمولة على كتفٍ غير مرئي، أرتاح فيه دون شعور بالذنب… إلى حين.
ـ 4 ـ
في مساء خريفي ناعم، دعاني ماركوس إلى منزله. قال ببساطة: "I want to cook something Lebanese. You tell me if I fail." ضحكتُ وقلت: "You will fail. But I’ll pretend you didn’t." كان منزله بسيطًا. خشبٌ كثير، لوحات فنية، مكتبة تعجّ بالكتب، وصورة لامرأة في الأربعينات… على الرفّ، بجانب شمعة. رآني أحدّق بالصورة، فقال بهدوء: "Her name is Klara. We’re still married." شعرت أن الهواء انقطع. نظرت إليه، فلم يبدُ عليه التوتر. كان يقولها كما يقول اسمه. قلتُ بصوت خافت: "You’re married… and you invited me here?" قال: "Yes. We’ve been open for years. She knows about my relationships. That’s part of our agreement." شعرت بشيء بارد ينسكب داخلي. لم يكن الغضب. كان تشوّشًا كاملًا. "ماذا يعني أن تكون العلاقة مفتوحة؟" "أهذا صدق؟ أم تلاعب راقٍ؟" "أيعني ذلك أنني لست خائنة… أم أنني مجرد حلقة في سلسلة خيانات مغلّفة بالتحرر؟" قلتُ له: "Do you love her?" قال: "Not in the way we once did. But we share history, a child, and trust. Love takes many shapes, Leila. Sometimes… it evolves." جلست بصمت. لم أستطع أن أصرخ، ولا أن أعاتب. فهو لم يكذب. لم يخدعني. لكن… لماذا شعرت أن قلبي هو من يُخدع؟ بعد العشاء، حين أوصلني إلى باب بيتي، قال بهدوء: "You can choose to step back. I won’t push. But I will be honest, always." نظرت إليه، ورأيت فيه سامي آخر… لكن هذا لا يخون في الظلام، بل في النور.
في تلك الليلة، كتبتُ في دفتري: "سامي خانني لأنه اعتقد أن جسدي ملكه." "ماركوس خانني رغم أنه أعطاني حرية الاختيار." "وأنا… خنت نفسي حين صدّقت أن الخيانة قرار مفرد."
ـ 5 ـ
مرّ أسبوع لم أخرج فيه من شقتي. لا مكالمات، لا زيارات، لا ماركوس، ولا رسائل من سامي. كان الصمت كثيفًا، يملأ الغرف كما يملأ النفس. جلست على الأرض، وأمام قدمي أوراق مبعثرة، أقلام، دفتر بجلدٍ بنيّ، ومرآة صغيرة مهشّمة الحافة. نظرت في المرآة، وقلت لنفسي: "كل ما حدث، لا يجب أن يضيع فقط لأنه مؤلم." فتحت الدفتر وكتبت على الصفحة الأولى: "أنا أكتب، لأني لا أعرف طريقًا آخر للبقاء." بدأت أكتب كل شيء. من اللقاء الأول مع سامي، إلى لحظة الإمساك بيد ماركوس، إلى صورة المرأة بالحجاب الشفاف. كل الأشياء التي صمتّ عنها… أعطيتها كلمات. كل مشهد كنت أعيشه، أُعيد كتابته كما أتمنّى أن يكون. كأنني أمارس نوعًا من العدالة الرمزية… أعيد ترتيب الحياة وفق كرامتي، لا وفق الواقع. أعطيتُ نفسي الحق في قول كل ما كنتُ أخافه. وكتبت ذات مساء: "لا، أنا لستُ ضحية. لكنني أيضًا لستُ خائنة. أنا امرأة تعبت من انتظارات لا تشبهها، فقررت أن تخلق حكايتها بنفسها."
ـ 6 ـ
فرح زارتني في اليوم الرابع. نظرت إلى الأوراق، إلى عينيّ، وقالت: "إنتِ عم تطلعي من الوجع… بس مو هروب، بل كتابة." هززت رأسي. قلت لها: "ما بعرف إذا رح أقدر أحبّ من جديد. بس بعرف إني بلّشت أحبّ نفسي… مو النسخة القديمة، بل هاي الجديدة، اللي عم تنولد من الرماد." فرح ضحكت وقالت: "يا ريت كلنا نخون هيك… ونصير نكتب."
في نهاية الأسبوع، أرسلت ليلى رسالة إلى سامي: "ما عدت أكرهك. لكنني لم أعد أحتاجك لتكون نهاية قصتي. أنا لا أكتب عنك، بل عني… حين كنتُ بجانبك." ثم مسحت رقمه من هاتفها. ولم تبكِ.
ـ 7 ـ
كانت الأمسية في مقهى ثقافي صغير، تختلط فيه لغات ولهجات، لكنه يفيض بشيء واحد: الحكاية. جلستُ في الصف الأخير، أوراقي بين يديّ، يداي تتعرقان، وقلبي يخفق كما لم يفعل منذ سنوات. كنت أرتجف لا لأنني سأقرأ… بل لأنني سأكشف نفسي، عاريةً من كل أقنعة اللغة. صعدت فتاة شابة من سوريا، قرأت نصًا عن النزوح والطفولة المكسورة. ثم رجل ألماني خمسيني، قرأ قصيدة عن وحدته بعد وفاة زوجته. ثم نادوا اسمي. "ليلى حسن، من بيروت. تقرأ مقطعًا من نصّها الروائي: (حين خانني الصمت)." مشيت إلى المنصّة، وكأن خطواتي تمشي على زجاج ذاكرتي. فتحت الورقة، قرأت بصوت خافت أولًا… ثم بدأت الكلمات تستوي في فمي كأنها صلاة: "أنا لست امرأة هربت من الخيانة، بل امرأة عادت من عمقها، تحمل بيد قلمًا، وبالأخرى قلبًا أعاد اختراع نفسه. أنا من فتشت في عيون رجلين عن الوطن، ثم اكتشفته في المرآة." صمتٌ. ثم تصفيق خافت… لكنه صادق. لم يكن أحد يعرفني هناك. لكنني شعرت أنني مرئية، للمرة الأولى، دون أن أحتاج لأحبّ أحدًا ليؤكّد لي ذلك. في نهاية الأمسية، اقتربت مني امرأة مسنّة، وضعت يدها على يدي وقالت: "You are brave. Not because you loved, but because you dared to speak of it." ابتسمت، ولم أجب. فقد تعبت من شرح نفسي. اليوم، كانت الكلمات تشرحني بدلاً عني. حين خرجت من المقهى، شعرت بالهواء باردًا… لكن صدري دافئ. أخرجت دفتري، وكتبت على الصفحة التالية: "لست بحاجة إلى حبيب. أنا بحاجة إلى صوت. وقد بدأ يتكوّن."
ـ 8 ـ
بعد أسبوع من الأمسية، تلقيت بريدًا إلكترونيًا من محررة دار نشر ألمانية صغيرة. "نودّ أن نناقش إمكانية تحويل مخطوطتك إلى رواية منشورة. وجدنا في نصك صوتًا نادرًا، شجاعًا، ومتعدد الطبقات." قرأت الرسالة أكثر من مرة، لا لأتأكد من محتواها… بل لأتأكد أنني أنا من كُتب لها. في المساء ذاته، وصلني من ماركوس رسالة قصيرة: "قرأت النص. كان مؤلمًا وصادقًا. أنتِ لا تحتاجينني بعد الآن… وربما لم تحتاجيني يومًا. أنا ممتن للحظة يدك في يدي." لم أجب. لأول مرة، لا لأنني أتجاهل، بل لأن الصمت هنا ليس هروبًا… بل جوابًا مكتملًا.
ـ 9 ـ
ثم قررت أن أعود. لبيروت. ليس هربًا من شيء، ولا بحثًا عن سامي، ولا حتى شوقًا، بل فقط… لأنني أردت أن أرى المدينة بعينيّ الجديدتين. في الطائرة، حملت معي دفتري، نسخة مطبوعة من النص، وبعض الخوف. نظرت من نافذة الطائرة، وكتبت: "أحيانًا لا نُشفى بالحب، بل بالمسافة. وأحيانًا لا نغادر لكي نهرب، بل لنعود إلينا." عند الهبوط، لم يكن أحد في انتظاري. ولا كنت أنتظر أحدًا. مشيت وسط ضجيج المطار، رائحة الوطن مختلطة بالغبار والذكريات، وكنت أعلم… أنني أعود ككاتبة، لا كزوجة. كشاهدة، لا كمجنيّ عليها. ليلى القديمة ماتت هناك، في صورة القميص الأزرق. أما أنا… فقد بدأت للتوّ أكتب. في مقهى صغير في الحمرا، جلستُ وحدي. دفتر جديد على الطاولة، بجانبه فنجان قهوة، ونسخة أولى من الرواية التي صارت كتابًا. امرأة خمسينية كانت تجلس بقربي، سألتني بعد أن لمحت الغلاف: "أنتِ الكاتبة؟" نظرتُ إليها، وقلت: "لا... أنا المرأة التي كتبت لتتذكر أنها ليست وحدها." ابتسمتْ، وقالت: "وهل نجحتِ؟" شربتُ جرعة من القهوة، وقلت: "كفاية أنني كتبت." ثم نظرت إلى الشارع، وكتبت على أول صفحة في الدفتر الجديد: "الخيانات لا تكسرنا. الذي يكسرنا هو الصمت بعدها." وضعت القلم، ونهضت. لم أعد أبحث عن نهاية. كنت فقط أمشي، بثقة، كمن عبر البحر وما عاد يخاف من البلل.
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شريط ذكريات مفقود
-
الإبداع والكفاح
-
التوازن
-
الرجل الذي أخضع الكبرياء
-
حديقة التفاهم
-
الرواية الأولى
-
الطفل الذي لم تحتضنه قريته
-
دائرة الزمن
-
الفنان والواقع
-
خمارة على ضفاف الراين
-
التأقلم المهني
-
السورية الألمانية مادلين هاردت
-
في غرفة الرنين
-
المجداف
-
جامع جامعة دمشق
-
ورشة شعر أدونيسية
-
رحلة مع بيغاسوس
-
نبض الحياة
-
حلم أخضر
-
حماة الوطن
المزيد.....
-
صحف عالمية: الغزيون تعبوا من النزوح وظاهرة دعمهم تمتد إلى عا
...
-
فيلم -صوت هند رجب- يفوز بجائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقي
...
-
فيلم “صوت هند رجب” يفوز بجائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقي
...
-
-فوات الأوان- لمحمد أبو زيد: في مواجهة الوقت الذي أفلت
-
صوت هند رجب: فيلم عن غزة يفوز بالأسد الفضي لمهرجان البندقية
...
-
فيلم -هند رجب- يفوز بالأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائ
...
-
جائزة الأسد الفضي لـ -صوت هند رجب- في مهرجان البندقية السينم
...
-
-صوت هند رجب-... أبرز الأفلام المرشحة لنيل -الأسد الذهبي- بم
...
-
أبكى الجمهور... فيلم التونسية كوثر بن هنية حول غزة مرشح لنيل
...
-
فيلم -هجرة- للسعودية شهد أمين يفوز بجائزة -NETPAC- في مهرجان
...
المزيد.....
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|