|
السورية الألمانية مادلين هاردت
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 8356 - 2025 / 5 / 28 - 20:02
المحور:
الادب والفن
في زاوية زنزانة معتمة في قلب مدينة مزدحمة، جلست مادلين هاردت، امرأة سورية-ألمانية، امرأة جميلة رغم تعاقب السنين والجروح العميقة التي خلفتها الحياة على وجهها. كانت ذات يوم رمزاً للنجاح والقوة، لكنها الآن حبيسة الصمت والوحدة. بعينين حادتين يعلوهما الحزن والغموض راحت تراقب الظلال التي تتراقص على الجدران وتتأمل قضبان الحديد الصدئة التي تحاصر حريتها. رافقتها في صمتٍ تفاصيل ماضيها الحافل الذي بدا كأنه ينتمي إلى حياة أخرى.
ولدت مادلين في دمشق لأب سوري وأم ألمانية من مدينة درسدن، في عائلة تميّزت بثرائها العلمي والتاريخي. كان والدها أستاذًا جامعيًا في علم الاجتماع ومؤرخًا شغوفًا بالتاريخ المحلي، أما والدتها فكانت مصممة أزياء، وغالبًا ما كانت تتحدث بفخر عن جدتها كريستين هاردت، المرأة التي سجّلت أول براءة اختراع لحمالات الصدر في أوائل القرن العشرين. كان لهذا الإرث أثر عميق على مادلين منذ صغرها؛ فهو مزيج من الأصالة الشرقية والحداثة الأوروبية.
كانت مادلين طالبةً نجيبة منذ صغرها، مليئة بالفضول والشغف، تربت بين الكتب والقصص عن ماضٍ غني بالتفاصيل وبين قماش وتصاميم ملونة. بعد أن أكملت دراستها الثانوية في دمشق، سافرت مادلين إلى ألمانيا لتلتحق بجامعة درسدن، حيث درست التاريخ وتخصصت في موضوع مثير وغير تقليدي: "تاريخ الملابس الداخلية ودورها في تشكيل المجتمعات والهويات الثقافية". أذهلت أساتذتها ببحثها الفريد من نوعه، الذي جمع بين التحليل التاريخي والدراسات الاجتماعية والثقافية. ومنحت شهادة الدكتوراه من جامعة درسدن عن أطروحتها التي تناولت كيف انعكست الملابس الداخلية على مفاهيم الجمال والهوية عبر العصور.
لاحقًا، أطلقت معرضًا في برلين حمل عنوان "تاريخ الجسد المخفي ـ تطور الأنوثة في مرآة الأزياء"، حيث عرضت قطعًا نادرة من الملابس الداخلية تعود إلى مختلف العصور. نجحت مادلين في لفت الأنظار، ونال المعرض شهرة واسعة وأصبح حديث الصحافة الفنية والثقافية.
ورثت مادلين عن جدتها كريستين هاردت ليس فقط حس الابتكار، بل أيضًا شغف العمل التجاري في مجال الملابس الداخلية. بدأت مسيرتها العملية في بيع الكلاسين النسائية الفاخرة مستفيدة من خبرتها ومعرفتها بالسوق، وكان هذا العمل يبدو متواضعًا بالمقارنة مع نجاحها الأكاديمي لكنه كان بوابتها إلى عالم المال والأعمال. التقت أثناء عملها غونتر، أحد كبار المشترين، وهو رجل غامض ومسؤول عن تمويل شبكات الدعارة في أوروبا بالكلاسين وحمّالات الصدر وأدوات اللذة. كان غونتير مفتوناً بطموحها وشجاعتها، ساعدها على توسيع نشاطها، فاستفادت من صفقاته المربحة لتكوين ثروتها. بعد سنوات من العمل مع غونتر، جمعت مادلين ما يكفي من المال لشراء مصنع للملابس الداخلية في "ميانمار" مستغلة رخص اليد العاملة هناك. كان المصنع بداية إمبراطوريتها، طورت المصنع وأضافت إليه خطوط تصنيع حديثة، استطاعت من خلالها إنتاج الملابس الداخلية التي جمعت بين الفخامة والراحة، بتصاميم وأشكال وألوان وزخرفات متنوعة. أصبحت مادلين رمزًا للنجاح، بفضل ذكائها وجاذبيتها الاستثنائية.
في مكتبها الفخم لوحة كبيرة لأوراق التين تتخللها هذه الكلمات: (بعد أن أغرت الْحَيَّةُ المرأة بقضم ثمر الشجرة المحرّمة، أغرت المرأة بدورها الرجل ليتذوق ثمارها، حينئذ "انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان"، بعد الخطية شعرا بالخجل، "فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر". آن سطعت الشمس جفّت أوراق التين التي سترا بها عريهما وتساقطت. فصنع الرَّب الإِله لآدم وامرأته كلاسين من جلد وألبسهما.)
مع بلوغها الخمسين ورغم النجاح الباهر، كانت مادلين تعيش حياة مزدوجة مليئة بالتحديات. امرأة جميلة وقوية، لها حضور آسر، لكنها محاطة بشبكة من الأسرار. كان لديها ابن وحيد يعاني من مرض مزمن جعله هدفًا للتنمر والإهانة خلال طفولته ومراهقته. حاولت مادلين حمايته بشتى الطرق، لكنها كانت عاجزة أمام وحشية العالم. كانت تحمل في قلبها حزنًا عميقًا وغضبًا مكبوتًا على كل من أساء إلى طفلها. وعندما بلغ ابنها سن الرشد، واشتد مرضه وتوقف تطوره العقلي، قررت مادلين أن تنتقم لكل لحظة ألم عاناها.
في سلسلة من الجرائم التي حيرت الشرطة، قُتل عشرة أشخاص بطرق مدروسة ومحكمة. كل الضحايا كانوا مرتبطين بشكل أو بآخر بالأذى اللفظي والجسدي وسوء المعاملة الذي تعرّض له ابنها في روضة الأطفال، في المدرسة الابتدائية، في الشارع، في الدوائر الصحية والحكومية. مع كل رسالة تصلها من دائرة حكومية ومع كل لقاء رسمي أو دعوة لنقاش حالة ابنها المرضية كانت تشعر بالغثيان وكأنها تعيش في الزمن النازي حيث لا مكان للمرضى النفسانيين.
تغيرت حياتها إلى الأبد عندما ألقي القبض عليها. أنكرت في البداية جميع التهم، لكنها في النهاية اعترفت بجريمتها بدافع الانتقام لكرامة ابنها. حُكم عليها بالسجن مدى الحياة بتهمة القتل المتسلسل، وأصبحت وحيدة في زنزانتها في سجن شديد الحراسة. كان زوجها، مارتن، أول من شك في تصرفاتها. لاحظ التغيرات في سلوكها، والغموض الذي يحيط ببعض أفعالها. تركها مارتن وهجر المنزل بعد شكوكه في تورطها بالجريمة الأولى، لكنه ظل يزورها بعد اعتقالها برفقة ابنهما المريض، ربما مدفوعاً بالشفقة أو الشعور بالذنب. كان الصمت يسيطر على لقاءاتهم، إلا من كلمات قليلة تحمل بين طياتها الحزن والأسى.
اليوم، تجلس مادلين وحدها في زنزانتها. وجهها يحمل جمالاً غريباً، خليطاً من الحزن والقوة. تعرف أن مصيرها قد حُسم، لكنها لا تندم. في نظرها كانت كل جريمة عدالة مؤجلة. لم تكن ترغب في أن يُنظر إليها كبائعة كلاسين فقط، بل كأم حاربت بشراسة من أجل ابنها، حتى لو كان الثمن حياتها نفسها. في كل ليلة، تسمع مادلين صدى أصوات ضحاياها في أحلامها، لكنها أيضاً ترى وجه ابنها يبتسم لها، وكأنما يغفر لها كل شيء. ربما، في نهاية المطاف، كانت تبحث عن الغفران أكثر من الانتقام.
القصة لم تنتهِ.
قصة مادلين ليست مجرد حكاية امرأة جمعت بين الشرق والغرب، بين القوة والضعف، وبين الجمال والخطر، بل هي صورة مركبة عن الطموح، السقوط، والصراع مع الذات والمجتمع.
جمالها الآسر وشخصيتها القوية جعلاها محط اهتمام مدير السجن، الذي يعاني من انهيار حياته العائلية بعد أن تركته زوجته مع ابنتهما التي تعاني من متلازمة "داون". بذكائها ودهائها، بدأت مادلين تكسب ثقة المدير، وأخذت تنسج خيوط خطة للهروب من السجن. كان مدير السجن، الرجل الوحيد المهجور، مفتاح خطتها.
وجدت مادلين في معاناته مرآة لمعاناتها، وفي معاناتها مرآة لمعاناته، واستغلت ذلك لتكسب تعاطفه. كان هدفها الوحيد هو استعادة حريتها والبدء من جديد في مكان آخر، بعيدًا عن الألم والذكريات.
كان الليل يغطي السجن بظلامه المعتاد عندما بدأت الخطة تأخذ مجراها. هل ستنجح مادلين في استعادة حريتها؟ هل ستبدأ حياة جديدة أم أن مصيرها سيبقى مرتبطًا بقضبان السجن إلى الأبد؟
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في غرفة الرنين
-
المجداف
-
جامع جامعة دمشق
-
ورشة شعر أدونيسية
-
رحلة مع بيغاسوس
-
نبض الحياة
-
حلم أخضر
-
حماة الوطن
-
كيفما تكونوا يولى عليكم
-
أرض جديدة
-
بردى
-
ممزّق بين امرأتين
-
ماركس وإليانور: بين التنصل والفخر
-
هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش 5 والأخيرة.
-
هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش ـ4ـ
-
هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش 3
-
هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش ـ2ـ
-
هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش ـ1ـ
-
الطيور والنمل
-
أطفال للبيع
المزيد.....
-
بعد تكرميه بجائزة الثقافة في مالمو 2025 - محمد قبلاوي ”صناعة
...
-
هوليوود.. نهاية حلم صناعة السينما؟
-
اكتشاف أثري تحت الركام.. ما مصير القرى الأثرية بعد سقوط نظام
...
-
أعلام في الذاكرة.. حكايات شخصية مع رموز ثقافية عراقية وعربية
-
-القسطنطينية- يفتتح الدورة السابعة لمهرجان -بايلوت- الروسي (
...
-
بيان رسمي بعد نزاع بين ملحن مصري وحسين الجسمي
-
من غرناطة إلى تستور.. كيف أعاد الموريسكيون بناء حياتهم في شم
...
-
مايك تايسون يتلقى عرضا مغريا للعودة إلى الحلبة ومواجهة أحد أ
...
-
من غرناطة إلى تستور.. كيف أعاد الموريسكيون بناء حياتهم في شم
...
-
فنانة وإعلامية مصرية شهيرة تعلن الصلح مع طبيب تجميل شوه وجهه
...
المزيد.....
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
المزيد.....
|