أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - في غرفة الرنين














المزيد.....

في غرفة الرنين


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 8353 - 2025 / 5 / 25 - 20:47
المحور: الادب والفن
    


في ذلك الصباح الذي بدا عادياً لوهلة، كان الأب يقود سيارته نحو المستشفى. ولده ذا الأربع سنوات يجلس في المقعد الخلفي، عيناه الكبيرتان تنظران نحو العالم من خلف زجاج السيارة، لكن دون أن تراه حقاً. الطفل لا يتحدث، ولا يتواصل، لكنه كان دائماً حاضراً، بوجهه الصغير وعالمه الصامت الذي لا يستطيع أحد الولوج إليه. كان الأب يحاول أن يبدو هادئًا، رغم القلق العميق الذي يعتصر قلبه. في الوقت نفسه، كان يرى في عيني ابنه الصغير نظرات غريبة، وكأن روحه تائهة في عالم لا يمكن لأحد الوصول إليه.

حين وصل الأب، أُخذت أوراقه وأُعطي التعليمات. إلى غرفة التصوير بالرنين المغناطيسي، قال الممرض "إنها ستكون صعبة قليلاً. لكن لا بأس، نحن معتادون على الأطفال."

لا يعرف الأب كيف يشرح للممرضين أن هذا الطفل ليس كغيره. لا يمكنه أن يُعبّر عن خوفه أو ضيقه، ولا حتى أن يقول إن هناك ألماً أو برداً.

حين دخل الغرفة، رأى الآلة. كبيرة، باردة، وساكنة. تشبه التابوت كما تخيلها في لحظته تلك، تابوتاً يبتلع طفله الصغير. الغرفة كانت موحشة، إضاءتها بيضاء قاسية كأنها تنتمي إلى عالم آخر. جدرانها صامتة، لكن كل شيء فيها يصرخ بالعزلة.

وضعوا الطفل على السرير المعدني، جسده الصغير بدا ضئيلاً أكثر من أي وقت مضى. وُضع قناع التخدير على وجهه، وحين بدأ الطفل يغفو، أخذ الأب يراقب أنفاسه بقلق. هل هي طبيعية؟ هل يتنفس كما يجب؟ وحين أُغلق عليه داخل الآلة، شعر الأب وكأن شرياناً في قلبه قد انقطع.

بدأت الآلة بالعمل. كان الصوت المرتفع للرنين يملأ المكان. أصوات تشبه أبواق السماء، مزيج غريب من الطنين والصخب الذي يبعث القلق والضياع في أعماق الروح. كل صوت كان كأنه يصرخ في أذن الأب: "ها هي النهاية تقترب". هل كانت النهاية لطفله؟ لعالمه؟ لم يفهم. لكنه شعر بالخوف، خوف لم يعرف له مثيلاً من قبل.

تلك الدقائق الثلاثون بدت وكأنها دهر طويل. لم يكن هناك شيء ليفعله سوى الانتظار. كان قلبه يكاد ينفطر. كان يتخيل طفله داخل ذلك التابوت الصغير، يعاني من الوحدة والخوف، ويحاول أن يتماسك رغم كل شيء. وقف الأب بجوار الآلة التابوت، يضع يده على سطحها البارد، كأنه يحاول أن يرسل لطفله رسالة غير مرئية:
"أنا هنا. لا تخف. أنت لست وحدك، سنمر بهذا معاً".

لكنه كان يعرف في قلبه أن الكلمات ليست كافية. كيف يمكن للطفل الذي لا يعرف التعبير عن مشاعره أن يتخيل ما سيحدث في تلك اللحظات؟ وكيف يمكن للأب أن يشرح له شيئًا لا يفهمه هو نفسه؟

وأخيرًا، بعد لحظات طويلة من المعاناة، انتهت الجلسة. حين توقفت الآلة عن العمل، أخرجوا الطفل ببطء. كان لا يزال نائماً، وجهه الصغير هادئاً كما لو أنه في سلام أبدي. لم يكن هنالك كلمات، فقط دموع الأب التي تنهمر بهدوء على وجنتيه. جلس الأب بجانبه، شدّ على أصابعه الصغيرة وقال بصوت خافت رغم الصمت العميق:
"لماذا ترغب أن تنام وحيداً؟ دعني أضمك. دعني أضع رأسي بجوار رأسك وأخبرك حكاية."

لم يكن الطفل يرد. كان صامتاً، كما هو دائماً. شدّ الأب أصابعه أكثر، كأنه يحاول أن ينقل شيئاً من روحه إلى جسد طفله، شيئاً يجعله يتحدث، يفهم، يخرج من عزلته تلك.

"تكلم يا صغيري. قل شيئاً. أخبرني كيف كان يومك. هل فهمت أين كنا اليوم؟"
"تكلم يا حبيبي، أناشدك أن تتكلم، تكلم على الأقل وأنت نائم. أرجو من الله أن يسحب طاقاتي كلها، من جسدي وقلبي وروحي وعقلي، ويطلقها كي تتدفق في عروقك وخلاياك، فقط كي تتكلم يا حبيبي".

لكن الأب يعلم أنه لا جواب. يعلم أن طفله لا يعرف ما يحدث حوله، وأنه ربما لن يعرف أبداً.

عاد الأب بذاكرته إلى أيامهما المعتادة. استيقاظ في الخامسة صباحاً، الطفل يبحث عن الهاتف الذي أخفاه الأب ليلاً. ركض في الصالون، الجلوس أمام التلفاز بلا اهتمام حقيقي بما يُعرض. حركات مكررة كأن الطفل يدور في دائرة لا تنتهي.

" لا أعتقد أنك تعلم ما يجري من حولك. هل تعرف ما هي النقود؟ هل تعرف ما هو العيد؟ هل تفهم أننا نحتفل بوجودك، حتى لو لم تفهمنا؟"
"أنت لا تعرف أنواع الطعام. أنت لم تتذوق حتى الآن طعم اللحم أو الخضار. ، أنت لا تعرف كلمة أخ ولا كلمة أخت، أنت لم تقل يوماً بابا ولا ماما".
"جعلتني مهزوماً دون أن يكون لك ذنب في ذلك".

تعب الأب وهو يناجي نفسه. لم يكن الطفل يدرك شيئاً من هذا العالم. كل ما في حياته هو التكرار، والروتين، وصمت يشبه الجدار.

حين استيقظ الطفل بعد التخدير، فتح عينيه ببطء ونظر إلى والده. كانت نظرة فارغة، لكن الأب شعر كأنها تحمل شيئاً. شيئاً صغيراً، ربما لحظة إدراك عابرة.

ابتسم الأب، ابتسامة ثقيلة لكنها مفعمة بالأمل.
"أنت تعيش يا صغيري. وهذا يكفي."



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المجداف
- جامع جامعة دمشق
- ورشة شعر أدونيسية
- رحلة مع بيغاسوس
- نبض الحياة
- حلم أخضر
- حماة الوطن
- كيفما تكونوا يولى عليكم
- أرض جديدة
- بردى
- ممزّق بين امرأتين
- ماركس وإليانور: بين التنصل والفخر
- هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش 5 والأخيرة.
- هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش ـ4ـ
- هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش 3
- هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش ـ2ـ
- هذا كل ما كتبته منذ لحظة سقوط الوحش ـ1ـ
- الطيور والنمل
- أطفال للبيع
- المبادرة التصويبية الثورية لمحاربة الجوع السوري


المزيد.....




- فيلم -المشروع X-.. هل يصبح أهم أفلام 2025 المصرية؟
- جنيفر لوبيز تشعل حفل جوائز الموسيقى الأمريكية وجانيت جاكسون ...
- القتلة المتسلسلون.. كيف ترعب أفلامهم المشاهد وتحبس أنفاسه؟
- خمسون عاما على السعفة الذهبية: -وقائع سنين الجمر- مازال يحتل ...
- المخرج الفلسطيني إياد الأسطل: -غزة تقاوم بالفن أيضا-
- حكاية العربي الأخير لواسيني الأعرج.. نقد الراهن واستشراف الم ...
- الأدب السري لمسلمي إسبانيا الأواخر.. الألخميادو وتلمس سبل ال ...
- تأثير صناعة الرياضة على ثقافة الشباب والاقتصاد في عام 2025
- -مستشفى الشفاء- و-غزة ساوند مان- يعززان رصيد الجزيرة 360 من ...
- بعد منحها لقب -العاصمة الثقافية لروسيا لعام 2025-.. توقعات ب ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - في غرفة الرنين