أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود كلّم - ناجي العلي رسمها، ونزار بنات نطق بها: سيرةُ وطنٍ يغتالُ أبناءَهُ!















المزيد.....

ناجي العلي رسمها، ونزار بنات نطق بها: سيرةُ وطنٍ يغتالُ أبناءَهُ!


محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)


الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 16:20
المحور: القضية الفلسطينية
    


لم يكن نزار بنات يعرفني، ولم أكن أعرفه.
لكن في أحد الأيام، رنّ هاتفي، فإذا بصوتٍ جديد يسألني عن كتابي "ناجي العلي... من أجل هذا قتلوني"، الصادر عن دار بيسان في بيروت عام 2001.
سألني بأسلوبه المباشر:
"قرأت عن كتابك عن ناجي العلي... من أين يمكنني الاطلاع عليه؟"

لم يكن الاتصال عابراً، ولا السؤال عاديّاً.
شعرتُ، منذ اللحظة الأولى، أن هذا الصوت ليس كسائر الأصوات.
كان نزار بنات يبحث عن ناجي العلي، لا كفنان، بل كنهج.
كان يُفتّش في صفحات الكتاب عن سيرة تُشبهه، عن ملامح مقاومة تُشبه صوته، وربما عن مصيرٍ يدرك أنه في انتظاره.

ذلك الاتصال الأول كان بداية نصّ لم نُكمله.
وكان نزار بنات، منذ البدء، يشبه ناجي العلي: يكتب بدمه، يوقّع بالحقيقة، ويسير في اتجاهٍ واحد: ضد الخوف، ضد القهر، وضد الخيانة.

منذ تلك اللحظة، بدأت الحكاية بيني وبينه.

لم يكن بيني وبين نزار بنات سوى شاشة.
لا مقهى يجمعنا، ولا ضحكة تُغطّي الوجع.
كلّ ما كان بيننا: بضعُ رسائل، ونبرةُ تعبٍ تأتي مختبئةً خلف الكلمات.

آخر مرة كلّمني فيها، كتب لي:
"لعله خير، نشوفك بكرة، تصبح على خير، اكيد يا باشا."
كانت الجملة قصيرة، بسيطة،
لكنها كانت جرساً يدقّ في رأسي كلّ ليلةٍ منذ ذلك اليوم.

في لقائنا الأخير، كانت كلماته محمّلةً بما لا يُقال،
بوجعٍ غامض، كأنه كان يعلم أن الفجر لن يطلّ عليه.
حدّثني عن مدينة الخليل، عن الفساد، عن القهر،
عن جرحٍ لا يلتئم...
وحدّثني عن الوطن الذي يُجلد كلّ ليلة.

نزار بنات لم يكن يخاف الموت،
وكان يدرك أن صوته لم يعد يُزعج المحتلّ وحده،
بل صار يُربك من لبسوا ثياب الوطن... ورفعوا السكاكين في وجهه.

في صباح الرابع والعشرين من حزيران 2021،
استُدعِي نزار بنات من فراشه فجراً... لا للمثول أمام العدالة،
بل ليموت تحت ضرباتٍ همجية،
بعتلاتٍ حديديةٍ هوت على جسده وهو نائم،
من يد قوةٍ أمنية تتبع للسلطة "الفلسطينية" في الخليل.

لم يكن متهماً بالخيانة... بل بالصدق.
لم يكن يحمل سلاحاً... بل كلمة.

نزار بنات الذي عاش حياته مدافعاً عن الفقراء،
صاحب الصوت المدوّي ضدّ الفساد، قُتل وهو ينطق بما لم يحتمله أصحاب المكاتب المحصّنة بحصون الظلم والخيانة.
كان يعلم أن هذا الوطن لا يحتمل الكلمة، ولا يتّسع لرأيٍ حر،
فكتب بدمه آخر مقال، وترك على جدران القهر وصيةً، تقطر ألماً وكرامة.

نزار، يا من قلتَ: "التاريخ لا يخلّد الخونة"، صدقت.
فأنت تُكتَب الآن في دفاتر الخلود، شهيد الكلمة، ونبض الحرية.
استرح حيث أنت، وافترش السماء، فإن ضاقت بك الأرض، فصدورنا مفتوحة لك.
وإن صمتت البنادق، فصوتك لن يُدفن.
وإن غابت العدالة، فذكراك هي الحُكم.

بعد استشهادك، عدتُ إلى رسائلنا.
أعدتُ قراءة كلّ كلمةٍ كتبتها لي.
بحثتُ عن وداعٍ ضمني، عن نبوءة، عن لمحةِ حزنٍ خبّأتها عمداً.

في آخر سطرٍ لك، كتبتَ لي:
"إذا متُّ... لا تبكِني، بل تذكّرني".

وها أنا أكتب، يا نزار، لا بوصفي كاتباً صحفياً، بل بوصفي صديقاً لم يُمسك بيدك في النهاية،
رفيقاً لم يستطع أن يُبعد الحديد عن جسدك،
ولم يتمكن حتى من أن يقول لك: "انهض، نحن ما زلنا بحاجةٍ إليك"، لكنهم كانوا أسرع.
ضربوك حتى فارقت الحياة،
ثم خرجوا ليُعلنوا: "مات أثناء الاعتقال."

يا نزار...
لم تمت أثناء الاعتقال،
بل قُتلت أثناء اليقظة.
قُتلت لأنك كنت أشد وعياً من أن تُشترى،
وأكثر صدقاً من أن تُكسَر.

صديقي نزار...
كلّ ما تبقّى منك: صورة مشوّهة لوجهك في المستشفى،
وتقارير طبية مُسيَّسة،
وصمت رسميٌّ يقطر خيانة.
لقد أدار الدهر وجهه عنك،
كأنك قلت ما لا يُقال،
وكأنّ الصدق الذي سكن صوتك كان جُرماً لا يُغتفر.

لكننا نعرف الحقيقة.
أنت لم ترحل... بل رُحِّلت، بقرار، وبترتيب، وبيدٍ يعرفها الناس جيداً.

أكتب الآن،
لا لأرثيك، بل لأدين من قتلك،
لا لأبكيك، بل لأكشف أن "أجهزة الحكم" حين تفقد مشروعيتها،
تصبح أكثر دمويةً من الاحتلال نفسه.

وها نحن نطوي الصفحة الأخيرة،
لا لأنّ الحكاية انتهت، بل لأن الراوي خُنق قبل أن يُكملها.
نزار بنات لم يمت وحده، بل ماتت معه قطعةٌ من كرامتنا،
وانكسر فينا شيء لا يُرمَّم.
تركنا في العراء، نُحدّق في الفراغ،
نبحث عن وجهه بين الأخبار، فلا نجده...
ولا نجد سوى الصمت، هذا الصمت الثقيل الذي يشبه المقابر.

وإن سألني أحدهم يوماً:
"هل التقيت نزار بنات؟"
سأقول:
"نعم، التقينا في نصّ، في رسالة، في لحظة صدقٍ عبر الشاشة...
وكان ذلك اللقاء كافياً ليكسرني عمراً كاملاً بعد غيابه."

في الليلة الأخيرة... ليلة الاغتيال،
وجدتُ على هاتفي أكثر من عشر مكالمات فائتة من نزار.
أعدتُ الاتصال به، فكان صوته مضطرباً...
متوتراً كما لم أعهده من قبل.
تحدّثنا طويلاً.
بدأ يحكي لي عن أطفاله،
يذكر أسماءهم بضحكة مختنقة،
ويُلقّب كلّ واحدٍ منهم بلقبه المحبب،
كأنه كان يودّعهم من بُعد.
كان الشوق في صوته واضحاً،
خاصةً حين تحدّث عن "مارية"، آخر العنقود، ومهجة قلبه،
وكان يُدلّلها بـ"ماشا".

ثم جاءه اتصالٌ آخر...
فأغلق على وعد:
"نكمل حديثنا غداً..."

لكن الغد لم يأتِ.
الغد خذلنا.
الغد صمت، كما صمت كلُّ شيء بعد تلك الليلة.

وبعد اغتيالك، يا نزار،
كنتُ - وما زلت - أخجل من النظر إلى صورتك.
أخجل، لأننا جميعاً شاركنا في اغتيالك.
تركناك وحيداً تواجه العصابة، ووقفنا نتفرّج.
شاركنا في قتلك بالصمت... بالخوف... وبالتجاهل الذي يشبه الخيانة.
سامحنا، يا نزار، لأننا خذلناك جميعاً،
ولأننا لم نكن رجالاً حين كنتَ وحدك تمشي في وجه العاصفة.
سامحنا... إن استطعت.
نم كما تنام الجبال حين تُثقُلها الخيبات،
فأنت من جعل الكلمة سيفاً،
ومن جهرَ بالحقّ حين صمت الجميع.

نم قرير العين، يا نزار،
فهذا الوطن الذي أحببته، ضاق بصوتك الحر،
وهذا الزمان الذي أفنيتَ عمرك لأجله، لم يعرف قيمتك.

وإن خانتك الأرض، فلن يخونك رب السماء،
وإن خذلك الزمان، فلن تخذلك عدالةُ يومٍ لا ظلم فيه.
نرفع إليك الدعاء،
وواثقون أن الله لا يُضيّع صوتاً صادقاً،
ولا ينسى شهيداً قال الحقّ في وجه الظلم، فدفع روحه ثمناً.

سلامٌ عليك، يا نزار،
يوم وُلدت حرّاً،
ويوم نطقتَ صدقاً،
ويوم ارتقيتَ شهيداً.

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.



#محمود_كلّم (هاشتاغ)       Mahmoud_Kallam#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وصيّةُ الدّم... من نزار بنات إلى ابنته مارية بنت الأربعين يو ...
- الشهيد نزار بنات... حين يُغتالُ الصوتُ ولا تموتُ الحقيقة!
- خليل نزار بنات... يكبُرُ على وجعِ الوطنِ!
- نزار بنات... شهيدُ الكلمة والشّاهدُ الذي كتب وصيّتهُ بدمهِ!
- نزار بنات واليمن... قصّةُ حُبٍّ لا تعرفُ الخيانة!
- نزار بنات: شهيد الحقيقة في زمن الخيانة!
- حين بكى غسان... ونام نزار في تراب فلسطين
- جيهان ونزار... وحدهُما في حُضنِ الغيابِ!
- حين تُناديه الأُمُّ... ولا يُجيبُ!
- حين ينكسرُ قلبُ الأب… ولا أحدَ يسمع!
- مجزرة مدرسة صيدا الرسميَّة – المدخل الجنوبي: حين تحوَّل المل ...
- محمد نمر غضبان: ضميرُ الثورة الذي خذله الزمن!
- غزّة لا تنتظر القيامة... إنّها تعيشها!
- حين يموتُ المُؤرِّخُ... وتبقى غزّة تكتُبُ المأساة!
- الدكتورة آلاء النجار... أُمُّ الشهداء وصبرُ الجبال في وجه ال ...
- غزّة تمُوتُ ببُطءٍ... والعالمُ يغُضُّ الطّرف
- غزّة... النَّعشُ الذي يمشي وحدهُ
- غزّة تكتُبُ قصيدة الشّاعر نزار قبّاني الأَخيرة!
- بدر فلسطين التي غابت دون وداعٍ!
- شهد الصوّاف... صرخةٌ جائعةٌ في وجه أُمَّةٍ خذلتها!


المزيد.....




- -مازلت أسمع أصواتكم-.. نانسي عجرم تشارك متابعيها لحظات من حف ...
- قطر: وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران أنتج -زخما- لاستئناف ...
- البرلمان الإيراني يمهّد لقطع التعاون مع الوكالة الدولية للطا ...
- الحكم الثاني على القيادي الطلابي معاذ الشرقاوي بالسجن عشر س ...
- كيف انتهت مواجهة الـ12 يوماً بين إيران وإسرائيل؟
- أطفال سيفورا ـ الهوس بمستحضرات العناية بالبشرة رغم المخاطر
- الجيش الإسرائيلي يقتل المزيد من الفلسطينيين المحاصرين والجائ ...
- البرلمان الإيراني يوافق على مشروع قانون لتعليق التعاون مع ال ...
- ضبابية موقف ترامب بشأن الالتزام ببند الدفاع المشترك يلقي بظل ...
- مدينة تبريز موطن الأذريين شمالي غربي إيران


المزيد.....

- 1918-1948واقع الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين خلال فترة الانت ... / كمال احمد هماش
- في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها / محمود خلف
- الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها / فتحي الكليب
- سيناريوهات إعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان -دراسة استشرافية ... / سمير أبو مدللة
- تلخيص كتاب : دولة لليهود - تأليف : تيودور هرتزل / غازي الصوراني
- حرب إسرائيل على وكالة الغوث.. حرب على الحقوق الوطنية / فتحي كليب و محمود خلف
- اعمار قطاع غزة بعد 465 يوم من التدمير الصهيوني / غازي الصوراني
- دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأ ... / غازي الصوراني
- الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024 / فهد سليمانفهد سليمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود كلّم - ناجي العلي رسمها، ونزار بنات نطق بها: سيرةُ وطنٍ يغتالُ أبناءَهُ!