أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود كلّم - حين بكى غسان... ونام نزار في تراب فلسطين














المزيد.....

حين بكى غسان... ونام نزار في تراب فلسطين


محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)


الحوار المتمدن-العدد: 8375 - 2025 / 6 / 16 - 16:16
المحور: القضية الفلسطينية
    


في زوايا الذاكرة المتعبة، يقف ظل نزار بنات شامخاً كجبل الخليل، حنوناً كنسيم الهفوف، غائباً جسداً، حاضراً روحاً لا تنطفئ. وفي محطات الحنين، يتكئ القلب على اسم غسان، الأخ الذي ظل وفيّاً لذكرى أخيه، والصاحب في الدرب والدمعة.

كانت الرحلة الأولى في أوائل الثمانينيات، سنة 1984، حين حملت العائلة أحلامها ووجعها الفلسطيني من مدينة الخليل إلى منطقة الهفوف والأحساء شرق السعودية. كان الطريق طويلاً، لكن نزار الصغير لم يكن يرى المسافات، بل كان مشغولاً بالدهشة، يحدّق في النخيل الراكع لصلاة الشمس، وفي الغرباء الذين سيصبحون أهلاً بعد حين.

أما غسان، الأكبر سنّاً، فكان أكثر نضجاً، ينظر من نافذة السيارة بصمت، وكأن قلبه يدرك أن هذه الأرض البعيدة ستكون فصلاً من كتاب حياته.
كان يطمئن نزار بكلمة، بابتسامة، بلمسة على الرأس… يرافقه كظلٍّ حنون.

في مدرسة تحفيظ القرآن في الهفوف، كان نزار يجلس في الصفوف الأولى، يحب اللغة العربية كأنها وطن جديد، يكتب بخطٍّ أنيق، ويضحك بخجل حين يخطئ في التجويد. وكان هناك أستاذ يمنيّ، يجلّ نزار، ويقول له دائماً: "أنت ابن فلسطين، وفلسطين أمّ اللغة."

كان نزار يعشق هذا الأستاذ، ويقول لأخيه غسان: "اليمنيون يشبهوننا يا غسان، يحبون الأرض، ويحترمون الكلمة." ومنذ تلك الأيام، بدأ حبه لليمن ينمو في صمت، حبّاً بلا حدود، ولا مصالح.

في أحد الأيام، شبّ حريق في بيت أهل نزار في الهفوف. كانت اللحظات مرعبة، والدخان يعلو، والأم تبكي، وغسان يصرخ بأعلى صوته: "نزار! الكتب!" حتى جاء شاب يمنيّ لا يعرفهم، وأطفأ الحريق.

في سنة 1990، حصل غسان ونزار على شريط لحفلة "فرقة العاشقين" في اليمن. كانا يسمعانه في المساء، ونزار يغني بصوت خافت: "اشهد يا عالم علينا وعا بيروت..." يغمض عينيه، ويضع رأسه على الوسادة، ويهمس: "بيروت والخليل يا غسان... قلبي هناك."

ضحكهم في تلك الليالي، دموعهم المختبئة في الوسائد، وأرواحهم التي ظلّت مشدودة نحو فلسطين... كلها أشياء لا تموت.

في مكتبة البيت، كانت رفوف نزار مليئة بكتب عن تاريخ وعادات وتقاليد اليمن، وكتب طبخ يمنية كان يقرؤها كما يُقرأ الشعر. وكان غسان يضحك ويقول: "وقلبي عند العراق يا نزار... بغداد تشبه الخليل حين تبكي."

هكذا كانا: نزار بروحه في اليمن، وغسان بقلبه في العراق، وكلاهما بأجسادهما في السعودية، وبأحلامهما في الخليل.

في الهفوف، كانا يركضان بين النخيل،
يصنعان من الطين جنوداً، ويحلمان بغدٍ يُشرق بالحرية.
وفي الخليل، حين يعودان في الصيف، كان نزار يركض نحو بيتهم، يقبّل الباب، ويجلس على عتبة الدار كمن وجد وطناً في الحجارة.

في ليلة من ليالي الخليل، جلس نزار مع غسان وقال له: "إن متُّ يا غسان، ادفني هون... بين الزيتون." وها قد صدقت كلماته، ومات في حضن الوطن، مغدوراً لا من الأعداء… بل ممن ادّعوا الأخوّة.

نزار لم يمت، بل قُتل... قُتل لأنه قال الحقيقة، لأنه لم يصمت، لأنه حمل روحه على كفّه وقال "لا".
وغسان؟ بقي يحمل صورة أخيه في قلبه، ويحدثه كل ليلة كأن صوته لم ينقطع.

غسان... لم يسكن الحزن قلبه فحسب، بل سكنته الرسالة.
جاب طول البلاد وعرضها، حاملاً صورة نزار في قلبه، وقضيته على كتفه، كمن يحمل وطناً لا يُفرّط به.
تعرّض لكل ما هو ممنوع، وتلقى التهديدات من كل اتجاه، لكنه ما استسلم، وما صمت.

قالها مراراً:
"لن أصالح على دم نزار... لن أضعف، ولن أساوم."

صار صوته منبراً، وصرخته راية.
من مدينة لأخرى، من مؤتمرٍ لندوة، من وقفةٍ احتجاجيةٍ لخبرٍ عابر... كان غسان يطارد الحقيقة، ويواجه الصمت المدجج بالإنكار.
جاب العالم طولاً وعرضاً، لا سائحاً، بل شاهداً، لا يبتغي شهرة، بل عدالة لدم نزار.
وفي كل محطة، كان يردد:
"نزار لم يمت… نزار قُتل، وسأبقى أصرخ حتى يُقال للقاتل: هذا دمٌ لا يُغتفر."

في كل زاوية من الخليل، وفي كل ظل نخلة في الهفوف، هناك صوت نزار. في كل كتاب عن اليمن، وفي كل خبر عن العراق، هناك دمعة غسان.

لم يكونا مجرد إخوة... كانا ذاكرة، وطناً متنقلاً، وحكاية بدأت في فلسطين، ونُثرت رماداً في المنافي... لكنها لن تنتهي.

ما أقسى أن يموت الأخ، لا برصاص عدوّ يُعرَف، بل بأيدٍ تتكلّم لغتك، وتلبس ملامحك، وتدّعي أنك منها. نزار لم يرحل وحده، بل أخذ جزءاً من الخليل، من الهفوف، من دفء الطفولة وضحكة المساء. ومنذ ذلك اليوم، لم تعد الأشياء كما كانت... غسان يمشي بثقل لا يُرى، يحادث صور نزار بصمت، ويضحك أحياناً على نكتة قديمة، ثم يبكي كما لم يبكِ أحد.

ذاك الطفل الذي ركض بين النخيل، والذي قال "لا" في وجه الظلم، عاد شهيداً. لكن صوته باقٍ، كأنه دعاء، كأنه قصيدة مكسورة لا تنتهي.

ارقد يا نزار... فلم يبقَ فينا إلا الحنين، ولم يبقَ لنا منك إلا وجع لا يُشفى.
لن نخذلك يا شهيدنا!

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.



#محمود_كلّم (هاشتاغ)       Mahmoud_Kallam#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جيهان ونزار... وحدهُما في حُضنِ الغيابِ!
- حين تُناديه الأُمُّ... ولا يُجيبُ!
- حين ينكسرُ قلبُ الأب… ولا أحدَ يسمع!
- مجزرة مدرسة صيدا الرسميَّة – المدخل الجنوبي: حين تحوَّل المل ...
- محمد نمر غضبان: ضميرُ الثورة الذي خذله الزمن!
- غزّة لا تنتظر القيامة... إنّها تعيشها!
- حين يموتُ المُؤرِّخُ... وتبقى غزّة تكتُبُ المأساة!
- الدكتورة آلاء النجار... أُمُّ الشهداء وصبرُ الجبال في وجه ال ...
- غزّة تمُوتُ ببُطءٍ... والعالمُ يغُضُّ الطّرف
- غزّة... النَّعشُ الذي يمشي وحدهُ
- غزّة تكتُبُ قصيدة الشّاعر نزار قبّاني الأَخيرة!
- بدر فلسطين التي غابت دون وداعٍ!
- شهد الصوّاف... صرخةٌ جائعةٌ في وجه أُمَّةٍ خذلتها!
- مارغريت تاتشر... حين قالت: -أنا لست زعيماً عربياً-!
- خوسيه موخيكا يغيب... وغزة تزداد نزفاً
- الإنسان الفلسطيني: المعجزة التي هزمت السلاح!
- جائزة لصانع السلام... ورصاصةٌ لنزار بنات الذي نادى بالحق!
- إنزو مايوركا أنقذ دلفيناً... فمن يُنقذ غزّة؟
- لا تصالح... أمل دنقل والقصيدة التي تنزف من غزة!
- خلف الحمير… إلى الهاوية!


المزيد.....




- هل يعيد تاريخ الصين نفسه ولكن في الولايات المتحدة؟.. وما علا ...
- مجلس الشيوخ الأمريكي يناقش مشروع قانون ترامب للإنفاق وسط انق ...
- محكمة إسرائيلية توافق على تأجيل جلسات محاكمة نتانياهو في قضا ...
- يضم معارضين سياسيين ومواطنين أجانب... القصف الإسرائيلي يلحق ...
- فرنسا تعتزم أداء -دور محوري- في مفاوضات النووي وطهران تبدي - ...
- مشاهد للجزيرة توثق قصف مسيّرة للاحتلال فلسطينيا يحمل كيسا من ...
- ماذا تعرف عن إنفلونزا العيون؟
- الفساد يطيح بوزير يوناني و3 نواب
- غزة تنزف منذ 630 يوما.. إبادة ممنهجة ومعاناة لا تنتهي في ظل ...
- للمرة الأولى.. أطباء أسناء يركّبون سنًّا لدب بني


المزيد.....

- 1918-1948واقع الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين خلال فترة الانت ... / كمال احمد هماش
- في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها / محمود خلف
- الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها / فتحي الكليب
- سيناريوهات إعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان -دراسة استشرافية ... / سمير أبو مدللة
- تلخيص كتاب : دولة لليهود - تأليف : تيودور هرتزل / غازي الصوراني
- حرب إسرائيل على وكالة الغوث.. حرب على الحقوق الوطنية / فتحي كليب و محمود خلف
- اعمار قطاع غزة بعد 465 يوم من التدمير الصهيوني / غازي الصوراني
- دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأ ... / غازي الصوراني
- الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024 / فهد سليمانفهد سليمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود كلّم - حين بكى غسان... ونام نزار في تراب فلسطين