محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8372 - 2025 / 6 / 13 - 14:02
المحور:
القضية الفلسطينية
صوتُ الشهيد نزار بنات ما زال حيّاً في قلب أُمِّه مريم.
حين رحل الشهيد نزار بنات، لم تغِب معه فقط الكلمةُ الحرّة، بل بقيت أمُّهُ تحرسُ صوته، وتُطيل النظر في ذاكرةٍ لم تكتمل.
لم يكن نزار بنات مجرّد ناشطٍ سياسيّ، ولا صاحب رأيٍ عابر، بل كان جداراً من الصدقِ في زمنٍ تتآكلُ فيه الجدران، وصوتاً لا ينحني أمام العواصف.
لم يحمل بندقيّةً، بل حمل الكلمة، وأطلقها في وجه الفساد والخوف.
كان يدركُ أن الثمن سيكونُ باهظاً، لكنه آمن بأنّ الصمت خيانةٌ أكبر.
في ذلك الصباح من حزيران، لم يُقتل نزار وحده...
بل قُتلت معه لحظةُ صدقٍ نادرة، وانكشفت خيبةُ وطنٍ يُرعبه الصوت، ويرتجفُ من الحقيقة إذا خرجت على لسان رجلٍ أعزل.
لكنّ السؤال الأصعب بعد الرحيل لم يكن: "كيف قُتل الشهيد نزار بنات؟"
بل: "من بقي بعد نزار؟"
بقيت هي...أمّه مريم.
المرأةُ التي لم تُرفع صورتُها في الساحات، ولم تُنصِت لها الميكروفونات، لكنها حملت في صدرها قلباً يناديه كلَّ صباح.
كانت أمّاً لم يغب عن حضنها يوماً، حتى حين كبر، بقي الأقرب إلى قلبها، والسّاكن الأول في وجدانها.
في بيتها، صار الصمتُ هو الزائر الأشدَّ حضوراً.
السريرُ الذي لم تُرتَّب عليه بطّانيتُه منذ رحيله، صوته في الزوايا، حذاؤه عند الباب، كوفيتُه المعلّقة كأنها تنتظر عودته...
كلُّها تفاصيلُ صغيرة، لكنها تُوقظ الجرح كلَّ يوم.
قلبُها لم ينكسر فقط... بل فقد نبضه حين نادته باسم: "يمّا"، ولم يُجب.
أطفاله كبروا فجأة.
تعلّموا أن أباهم لم يُقتل لأنه أخطأ، بل لأنه قال: "لا"، في وقتٍ كان فيه الجميعُ يهمس: "نعم".
تعلّموا أن اسم والدهم يُذكر بخشوع، لا لأنهم أيتام، بل لأنهم أبناءُ رجلٍ علّمهم كيف يرفعون الصوت،
حتى في حضور الموت.
أمُّه لم تكن امرأةً انطفأت، بل كانت امتداداً حيّاً لروحه.
قاومت بصمت الأمهات، وارتجفت كلّما سمعت اسمه، لكنها وقفت.
وكلّما اغرورقت عيناها، شهِق الوطن معها.
وكلّما وضع أحدٌ وردةً على قبره، شعرت أنها تضع قلبها هناك... للمرة الألف.
وفي كل مرة يُذكر فيها الشهيد نزار بنات، يتّجه الصمت نحوها، وكأنه يقول:
"هُنا تسكن الأُمُّ التي لم يُدفن صراخُها مع جسد ابنها."
الشهيدُ نزار بنات رحل، لكنه لم يُغادر.
اسمه لم يُكتب بالحبر، بل حُفر بالدم في ذاكرة وطن.
ووراء هذا الاسم، هناك أمٌّ لم يُنصفها الإعلام، لكنها كانت الحقيقة التي أنجبته.
في زمنٍ تتكسّرُ فيه الأصوات، وتُشترى فيه المواقف،
يبقى في حضن الأمهات شيءٌ لا يُشترى:
امرأةٌ تصنع من الحداد دعاءً، ومن الغياب صبراً، ومن الألم رايةً تُرفرف فوق جراح الوطن.
ولأن بعض الأمهات يُشبِهن الوطن…
حين يُكسر، ينهضن به من جديد، لا بالبكاء، بل بالصبر والعناد.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟