حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 14:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ اللِّيبْرَالِيَّة وَحُرِّيَّة الْفَرْدِ فِي تَحْدِيدِ قِيَّمِه
وَاحِدَةٌ مِنْ أَعْمَقَ الْمُعْضِلَات الْفَلْسَفِيَّةِ الَّتِي تُوَاجِهُ اللِّيبْرَالِيَّة ؟ كَيْفَ يُمْكِنُ لِمُجْتَمَع يَعْلِي مِنْ قِيمَةِ حُرِّيَّةُ الْفَرْدِ فِي تَحْدِيدِ قِيَّمِه وَمُعْتَقَدَاتِه. أنْ يُحَافِظُ عَلَى أَخْلَاقِيَّة مُشْتَرَكَة ضَرُورِيَّة لِلتِّمَاسُك الِإجْتِمَاعِيِّ؟ وَهَلْ تُؤَدَّي اللِّيبْرَالِيَّة الْمُفْرِطَة إلَى نِسْبِيَّة أَخْلَاقِيَّة تُهَدِّد أُسِّس الْأَخْلَاق الْعَامَّةُ؟ هَذَا لَيْسَ مُجَرَّدَ تَسَاؤُل نَظَرِيّ، بَلْ هُوَ تَحَدِّ عَمَلِي يُوَاجِه الْمُجْتَمَعَات اللِّيبْرَالِيَّة الْيَوْم.
تُشَدِّدْ اللِّيبْرَالِيَّة، خَاصَّة اللِّيبْرَالِيَّة الْكَلاَسِيكِيَّة وَالْحَدِيثَةِ، عَلَى إسْتِقْلَالِيَّة الْفَرْد (Autonomy). هَذَا يَعْنِي أَنَّ لِلْفَرْدِ الْحَقِّ فِي إخْتِيَارِ رُؤْيَتُهُ لِلْخَيْرِ. يَعْنِي أَنَّ لِكُلِّ شَخْصٍ الْحَقُّ فِي تَحْدِيدِ مَا يَعْتَبِرُهُ حَيَاة جَيِّدَةٌ أَوْ خَيْرًا لِنَفْسِهِ، بِنَاءً عَلَى مُعْتَقِدًاته، قَنَّاعَاتُه، وَأُسْلُوبُ حَيَاتِهِ. لَا يَحِقُّ لِلدَّوْلَةِ أَوْ لِلْمُجْتَمَع فَرْض رُؤْيَة مُعَيَّنَة لِلْخَيْرِ عَلَى الْأَفْرَادِ.
يَشْمَلُ ذَلِكَ حُرِّيَّةَ الضَّمِير وَالْمُعْتَقَد. حُرِّيَّةُ الِإعْتِقَادِ الدِّينِيِّ أَوْ الْفَلْسَفِيّ، وَحُرِّيَّة التَّعْبِيرِ عَنْ هَذِهِ الْمُعْتَقَدَات، هِيَ حَجَرٌ الزَّاوِيَةِ فِي الْفِكْرِ اللِّيبْرَالِيّ. هَذَا يُقَوِّضُ صَلَاحِيَّات السُّلْطَةَ الْكَهْنُوتِيَّة بِشَكْلٍ شِبْه مُطْلَقٌ وَ يَعْمَلُ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ عَلَى الْحَدِّ مِنْ التَّدَخُّل الْحُكُومِيّ. بِإعْتِبَارِ الدَّوْلَة اللِّيبْرَالِيَّةِ تُقَلِّل مِنْ تُدْخِلُهَا فِي الشُّؤُونِ الشَّخْصِيَّة لِلْأَفْرَاد، مَا لَمْ يَلْحَقْ ذَلِكَ ضَرَرًا بِالْآخَرِين (مَبْدَأ الضَّرَر لِجَوَن سِتِّيوَأَرَتّ مَيْل).
التَّحَدِّي: الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْمُشْتَرَكَة وَالتَّمَاسُك الِإجْتِمَاعِيّ. هُنَا تَبْرُز الْمُعْضِلَة. إذَا كَانَ كُلُّ فَرْدٍ يُحَدِّد الْخَيْرِ لِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ لِلْمُجْتَمَع أَنْ يُحَافِظَ عَلَى قَيِّمِ مُشْتَرَكَة تُسْهِمُ فِي تَمَاسُكِه؟
1. الْخَوْفِ مِنْ النِّسْبِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة: كُلِّ شَيْءٍ مُبَاحٍ مَا دَامَ لَا يَلْحَقُ ضَرَرًا مُبَاشِرًا بِالْآخَر. هَذِهِ هِيَ النُّقْطَةِ الَّتِي تُثِيرُ الخَوْفَ مِنْ النِّسْبِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة. إذَا كَانَ مِعْيَارَ الْأَخْلَاق الْوَحِيدُ هُوَ عَدَمُ إلْحَاقِ الضَّرَرِ الْمُبَاشِر، فَقَدْ يَسْمَحُ بِسُلُوكِيَّات تُعْتَبَر مُضِرَّة لِلْمُجْتَمَع كَكُلّ عَلَى الْمَدَى الطَّوِيلِ، أَوْ تَقُوِّضُ أَسَّسَه الْأَخْلَاقِيَّة، حَتَّى لَوْ لَمْ تُلْحِق ضَرَرًا فَرْدِيًّا مُبَاشِرًا. يَخْشَى الْبَعْضِ أَنَّ تُؤَدَّي اللِّيبْرَالِيَّة الْمُفْرِطَة إلَى تَآكُلِ الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة، حَيْثُ يُصْبِحُ الْفَرْدِ هُوَ الْمَرْجِعُ الْوَحِيد لِكُلِّ شَيْءٍ، مِمَّا يُفْقِد الْمُجْتَمَع إِطَارًا أَخْلَاقِيًّا مُشْتَرَكًا.
غِيَاب أَسَاسٍ مَتِينٍ لِلْأَخْلَاق: إذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ مَرْجِعِيَّة عُلْيّا لِلْأَخْلَاق دِينِيَّة، تَقْلِيدِيَّة، أَوْ فَلْسَفِيَّة مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. فَكَيْفَ يُمْكِنُ إقْنَاع الْأَفْرَاد بِالِإلْتِزَام بِقِيَم مُعَيَّنَة تَتَطَلَّب التَّضْحِيَة الشَّخْصِيَّةِ أَوْ التَّعَاوُنِ إذَا كَانَتْ تَتَعَارَضُ مَعَ رُؤْيَتِهِمْ الْخَاصَّة لـِلْخَيْرِ؟ كَيْفَ تَتَعَامَل الْمُجْتَمَعَات اللِّيبْرَالِيَّة مَعَ هَذَا التَّحَدِّي؟
تُحَاوِل الْمُجْتَمَعَات اللِّيبْرَالِيَّة التَّوْفِيقُ بَيْنَ حُرِّيَّةِ الْفَرْد وَ الْحَاجَةُ إلَى قَيِّمٍ مُشْتَرَكَةٍ مِنْ خِلَالِ آلِيَات مُتَعَدِّدَة
1. الْمَبَادِئُ اللِّيبْرَالِيَّة الْأَسَاسِيَّة كَقِيَم مُشْتَرَكَة: اللِّيبْرَالِيَّة نَفْسَهَا لَيْسَتْ خَالِيَةً مِنْ الْقَيِّمِ. فَهِي تُشَدِّد عَلَى قَيِّمِ مِثْل الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، الْمُسَاوَاةُ، الْعَدَالَة، التَّسَامُح، حُرِّيَّة التَّعْبِير، وَإحْتِرَام الْقَانُونِ. هَذِهِ الْقِيَمِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا تَسْمَّحُ بِتَنَوُّع وَاسِعٌ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ، تُشْكِل أَسَاسًا أَخْلَاقِيًّا مُشْتَرَكًا يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ الِإلْتِزَام بِه.
مَبْدَأ الضَّرَر: رَغْمَ أَنَّهُ قَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ أَدْنَى، إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ أَخْلَاقِيَّة مُشْتَرَكَة تَحْمِي الْأَفْرَادِ مِنْ الْأَذَى.
2. الْقَانُونُ وَالدَّوْلَة الْمَدَنِيَّة: الْقَوَانِين فِي الْمُجْتَمَعَاتِ اللِّيبْرَالِيَّة لَا تَفْرِضُ رُؤْيَة مُعَيَّنَة لِلْخَيْر، بَلْ تَهْدِفُ إِلَى حِمَايَة الْحُقُوقِ وَالْحُرِّيَّاتِ الْفَرْدِيَّة، وَضَمَان التَّعَايُش السّلَمِي، وَمَنْعَ الضَّرَرِ. تُعْتَبَر الْقَوَانِين تَعْبِيرًا عَنْ إرَادَةِ الْأَغْلَبِيَّة الدِّيمُقْرَاطِيَّة، وَتُطَبِّق بِشَكْل مُتَسَاوٍ عَلَى الْجَمِيع. يُمْكِن لِلْقَوَانِين أَنْ تُكَرِّس قَيِّمًا أَخْلَاقِيَّة مُعَيَّنَةٍ مِثْلُ حَظْر التَّمْيِيز، مُكَافَحَة الْعُنْف حَتَّى لَوْ كَانَ أَسَاسُهَا لِيبْرَالِيًّا وَلَيْس دِينِيًّا أَوْ تَقْلِيدِيٍّا.
3. الْمُؤَسَّسَات الْمَدَنِيَّة وَالْمُجْتَمَع الْأَهْلِيّ: الْمَدَارِس، العَائِلَات، الجَمْعِيَّات التَّطَوُّعِيَّة، الْمُنَظَّمَات غَيْر الحُكُومِيَّة، وَحَتَّى الْأَدْيَان وَالمُؤَسَّسَات الثَّقَافِيَّة، تَلْعَبُ دَوْرًا حَيَوِيًّا فِي غَرْسِ القِيَمِ الأَخْلَاقِيَّةِ لَدَى الْأَفْرَادِ. لَا تُعْتَبَرُ هَذِهِ الْمُؤَسَّسَات جُزْءًا مِنْ الدَّوْلَةِ، وَلَكِنَّهَا تُسْهِمُ فِي بِنَاءِ النَّسِيجُ الِإجْتِمَاعِيُّ وَالْقَيِّم الْمُشْتَرَكَةِ. فِي الْمُجْتَمَعِ اللِّيبْرَالِيّ، تَظَلّ هَذِه الْمُؤَسَّسَات حُرَّةٌ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ قَيِّمِهَا، وَتُشَكِّل بِذَلِك رَوَافِد مُتَعَدِّدَة لِتَشْكِيل الْأَخْلَاق.
4. الْحِوارُ الْعَامّ وَالنَّقَّاش: تُشَجِّع الْمُجْتَمَعَات اللِّيبْرَالِيَّةُ عَلَى الْحِوَار الْمَفْتُوح وَالنَّقَّاش الْعَامُ حَوْلٌ الْقَضَايَا الْأَخْلَاقِيَّة. مِنْ خِلَالِ النَّقَّاش، يُمْكِن لِلْمُوَاطِنِين الْوُصُولُ إلَى تَفَاهمَّات مُشْتَرَكَةٍ أَوْ حُلُولِ وَسَط تَمَكُّنِهِمْ مِنْ التَّعَايُش رَغْم الِإخْتِلَافَات. هَذَا الْمَنْظُورِ يُجَسِّد عَمَلِيِّا الِمَقُولَة الَّتِي طَرَحَهَا جَوْن رُولز، (الْإِجْمَاع الْمُتَدَاخِل (Overlapping Consensus) حَيْثُ يُمْكِنُ لِأَفْرَاد ذَوِي رُؤَى مُخْتَلِفَة لِلْخَيْر أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى مَبَادِئِ سِيَاسِيَّة وَأَخْلَاقِيَّة مُعَيَّنَة لِأَسْبَابٍهِمْ الْخَاصَّة.
هَلْ تُؤَدَّي اللِّيبْرَالِيَّة الْمُفْرِطَة إلَى نِسْبِيَّة أَخْلَاقِيَّة؟ هَذَا هُوَ الْخَطَرُ الْحَقِيقِيّ وَالْجَدَل الْمُسْتَمِرّ. اللِّيبْرَالِيَّةُ، فِي سَعْيِهَا لِحِمَايَة الْحُرِّيَّةَ الْفَرْدِيَّةَ، قَدْ تُصْبِحُ عُرْضَّةً لِإتِّهَامِات بِالتَشْجِيع عَلَى النِّسْبِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة إذَا لَمْ يَتِمَّ التَّأْكِيدِ عَلَى حُدُودِ مُعَيَّنَة.
الْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْوِيلِ: قَدْ يُبَالِغُ الْبَعْضِ فِي تَفْسِيرِ مَبْدَأ عَدَمُ إلْحَاقِ الضَّرَرِ لِدَرَجَة تُصْبِح مَعَهَا أَيْ سُلُوكِ لَا يُسَبِّبُ أَذًى جَسَدِيا مُبَاشِرًا لِلْآخَرِين مَقْبُولًا، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ أثَارِهِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ أَوِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْأَوْسَع.
فِقْدَانُ السُّلْطَة الْمِعْيَارِيَّة: بِدُونِ وُجُودِ سُلّْطَة أَخْلَاقِيَّة سَوَاءٌ كَانَتْ دِينِيَّةً أَوْ تَقْلِيدِيَّة أَوْ فَلْسَفِيَّة تُفْرَضُ مِنْ الْخَارِجِ، قَدْ يَشْعُرُ الْبَعْض بِفِقْدَان التَّوْجِيه الْأَخْلَاقِيّ، مِمَّا يُؤَدِّي إلَى نَوْعٍ مِنْ فَرَاغِ قِيَمِيّ.
التَّفَكُّك الِإجْتِمَاعِيُّ: فِي السِّينَاريو الْأَسْوَأَ، قَدْ تُؤَدِّي النِّسْبِيَّة الْمُطْلَقَةُ إلَى تَفَكُّكِ الْمُجْتَمَعِ، حَيْثُ لَا يَعُودُ هُنَاكَ أَيْ أَسَاس لِلتَّفَاهُم أَوْ التَّعَاوُن. وَمَعَ ذَلِكَ، يُجَادِل أَنْصَار اللِّيبْرَالِيَّة بِأَنَّ الْقِيَمَ اللِّيبْرَالِيَّة الْأَسَاسِيَّة نَفْسِهَا (الِإحْتِرَام الْمُتَبَادَل، التَّسَامُحُ، الْعَدَالَة، الْكَرَامَة) تُقَدِّم إِطَارًا أَخْلَاقِيًّا يُمَكَّنُ مِنْ خِلَالِهِ بِنَاءِ مُجْتَمَعٍ مُتَمَاسِك، وَإِنْ النِّسْبِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة لَا تَعْنِي بِالضَّرُورَة الفَوْضَى، بَلْ تَعْنِي مَسْؤُولِيَّة أَكْبَر لِلْفَرْد فِي تَشْكِيلِ هُوِيَّتُه الْأَخْلَاقِيَّة.
بِشَكْلٍ عَامٍّ. التَّوْفِيقُ بَيْنَ حُرِّيَّةِ الْفَرْدِ فِي تَحْدِيدِ قِيَّمِه وَ الْحَاجَةُ إلَى قَيِّمٍ أَخْلَاقِيَّة مُشْتَرَكَة هُو تَحَدٍّ مُسْتَمِرّ لِلْمُجْتَمَعَات اللِّيبْرَالِيَّة. الْحَلِّ لَا يَكْمُنُ فِي فَرْضٍ الْأَخْلَاقِ، بَلْ فِي بِنَاءِ إِطَار قَانُونِيٍّ وَمُؤَسَسِي وَثَقَافِيّ يُعَزِّزُ الْقَيِّم اللِّيبْرَالِيَّة الْأَسَاسِيَّة كَأَرْضِيَّة مُشْتَرَكَةٍ لِلتِّعَايِش، مَعَ تَشْجِيع الْحِوَار الْعَامّ، وَالِإعْتِمَادُ عَلَى الْمُؤَسَّسَات الْمَدَنِيَّة لِغَرْس الْقِيَمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَعَ الِإعْتِرَافِ بِأَنَّ النِّسْبِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة تَظَلّ خَطَرًا يَجِب التَّعَامُل مَعَه بِوَعْي وَحُكْمُه.
_ الْأَخْلَاقِ فِي ظِلِّ إقْتِصَاد السُّوق اللِّيبْرَالِيّ: تَحَدِّيَات وَ تَوَازُنًات
يُعَدُّ التَّوَتُّر الْجَوْهَرِيّ بَيْن الْمَبَادِئ الِإقْتِصَادِيَّة اللِّيبْرَالِيَّةِ الَّتِي تَعْلِي مِنْ شَأْنِ الْأَسْوَاق الْحُرَّة وَالْمُنَافَسَة وَالرِّبْح، وَبَيْنَ الْقَيِّمِ الْأَخْلَاقِيَّة الْمُجْتَمَعِيَّة مِثْل الْعَدَالَةِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ، التَّضَامُن، وَ الْإِنْصَاف. هَذَا التَّوَتُّر لَيْسَ جَدِيدًا، وَهُوَ مَحَلُّ نَقَّاش فَلْسَفِيّ وَ إقْتِصَادِيّ وَسِيَاسِيّ مُسْتَمِرّ.
هَلْ تُعَزِّزُ آلِيَات السُّوقُ الْحُرَّةُ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ؟ مِنْ مَنْظُورٍ نَظَرِيّ، يُجَادِل بَعْض الْمُدَافِعِين عَنْ السُّوقِ الْحُرَّة بِأَنَّهَا تَعَزُّز بَعْضَ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ بِشَكْلٍ غَيْرِ مُبَاشِر. السُّوقِ الْحُرَّة تُكَافِئ الْكَفَاءَة وَالِإبْتِكَار، مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ كَقِيمَة إِيجَابِيَّة تُسْهِمُ فِي التَّقَدُّمِ الْبَشَرِيِّ وَرَفَاهِيَة الْمُجْتَمَع بِشَكْلٍ عَامٍّ مِنْ خِلَالِ تَوْفِير سِلَع وَخَدَمَات أَفْضَل وَأَكْثَر. تُمْنَحُ الْأَفْرَاد حُرِّيَّة إخْتِيَار الْمِهْنَة، الِإسْتِهْلَاك، وَالِإسْتِثْمَار، مِمَّا يُعَزِّز الْكَرَامَة الْفَرْدِيَّةِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ الشَّخْصِيَّة. فِي بَعْضِ الْجَوَانِبِ تُسَاهِم الْمُنَافَسَةُ فِي جَعْلِ الْأَسْعَار وَ الْمَعْلُومَات أَكْثَر شِفَافِيَّة، مِمَّا يُمْكِنُ الْمُسْتَهْلْكَيْن مِنْ إتِّخَاذِ قَرَارَات مُسْتَنِيرَة. وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنْ هَذَا التَّعْزِيز لَا يَشْمَلُ بِالضَّرُورَة قَيِّمًا مِثْل الْعَدَالَةِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّضَامُن بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ، بَلْ غَالِبًا مَا يَتَطَلَّبُ تَدْخُلات إضَافِيَّة.
هَلْ تُؤَدَّي آلِيَات السُّوقُ الْحُرَّةُ إلَى تَفَاقُمِ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ وَ تَعْزِيز الرِّبْحُ عَلَى حِسَابِ الْأَخْلَاق؟ هَذَا هُوَ الْجَانِبُ الْأَكْثَر نَقْدًا لِإقْتِصَاد السُّوق اللِّيبْرَالِيّ. السُّوقُ الْحُرَّةُ، بِطَبِيعَتِهَا، تُكَافِئ الْأَفْرَاد بِنَاءً عَلَى قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْمُنَافَسَةِ وَخَلَق الْقِيمَة الِإقْتِصَادِيَّة. هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى تَفَاوِتَات كَبِيرَةٌ فِي الدَّخْلِ وَالثَّرْوَة، خَاصَّةً إذَا كَانَتْ فُرَصُ الْوُصُولِ إلَى التَّعْلِيمِ، رَأْسِ الْمَالِ، وَالشَّبَكَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ. فَاَلَّذِين يَمْلِكُون أَكْثَر يَمِيلُونَ إلَى تَجْمِيع الْمَزِيد، بَيْنَمَا يَجِدْ الْآخَرُون صُعُوبَةً فِي الِإرْتِقَاءِ.
إعْلَاءَ شَأْنِ الرِّبْحِ عَلَى حِسَابِ الْأَخْلَاق. عِنْدَمَا يُصْبِح دَافِع الرِّبْحَ هُوَ الْمُحَرِّكُ الْأَسَاسِيُّ، قَدْ تَغُضّ الشَّرِكَات الطَّرْفِ عَنْ الْمُمَارَسَات الَّتِي تَضُرُّ بِالبِيئَةِ، أَوِ الْعُمَّال مِثْل ظُرُوف الْعَمَلَ غَيْرُ الْامِنَة، الْأُجُور الْمُنْخَفِضَة، أَوْ الْمُسْتَهْلْكَيْن مِثْلُ الْمُنْتَجَات ذَات الْجَوْدَة الرَّدِيئَةُ أَوْ الْمُضَلِّلَة. تُشَجِّع الْمُنَافَسَة الشَّرِسَة أَحْيَانًا عَلَى الْمَعَايِير الْمُزْدَوِجَة حَيْثُ تَتَبُّعُ مُمَارَسَات أَخْلَاقِيَّة أَقَلّ صَرَامَةً فِي بَعْضِ الْأَسْوَاقِ خَاصَّةً فِي الدُّوَلِ النَّامِيَة لِتَحْقِيق أَقْصَى رِبْح.
مَبْدَأُ الرِّبْح بِأَيِّ ثَمَنٍ. هَذَا الْمَبْدَأِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَوِّض الثِّقَةُ، وَ يُشَجِّعُ عَلَى الْغِشِّ، التَّلَاعُب، وَحَتَّى الْفَسَادِ إذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ ضَوَابِط صَارِمَة. الْمُنَافَسَة الشَّدِيدَة قَدْ تَضْعُفُ الرَّوَابِطِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَتُشَجَّعْ عَلَى الْفَرْدِيَّةِ الْمُفْرِطَة، مِمَّا يُقَلِّلُ مِنْ الشُّعُورِ بِالتَّضَامُن وَالْمَسْؤُولِيَّةُ تُجَاه الْفِئَات الْأَضْعَفُ فِي الْمُجْتَمَعِ. و بِالتَّالِي تَآكُل التَّضَامُن الِإجْتِمَاعِيّ.
كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْمُجْتَمَع اللِّيبْرَالِيّ أَنْ يَضْمَّنَ حِمَايَةِ المِلْكِيَّةِ الْفَرْدِيَّة لَا تَتَعَارَضُ مَعَ الْعَدَالَةِ الِإجْتِمَاعِيَّة؟ التَّحَدِّي الْأَسَاسِيُّ فِي اللِّيبْرَالِيَّة هُو الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ حِمَايَةِ المِلْكِيَّةِ الْفَرْدِيَّة وَ الْحُرِّيَّات الِإقْتِصَادِيَّة الَّتِي تُعَدُّ أَسَاسِيَّةً لِلنَّمو الِإقْتِصَادِيِّ وَبَيْنَ السَّعْيِ لِتَحْقِيق الْعَدَالَةِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تُعَدُّ ضَرُورِيَّة لِلتِّمَاسُك الْمُجْتَمَعي وَالِإسْتِقْرَارُ. هُنَاك عِدَّة آلِيَات تُسْتَخْدَم لِمُحَاوَلَة تَحْقِيقِ هَذَا التَّوَازُنِ:
1. التَّنْظِيم الْحُكُومِيّ (Regulations): الدَّوْلَة اللِّيبْرَالِيَّة لَا تَدْعُو إلَى غِيَاب تَامّ لِلتِّدخل. بَلْ تَفْرِّضُ قَوَانِين وَتَشْرِيعَات لِتَنْظِيم الْأَسْوَاق، حِمَايَة الْمُسْتَهْلْكَيْن، ضَمَانُ حُقُوقِ الْعُمَّال، وَ مُكَافَحَة الْمُمَارَسَات الِإحْتِكَارِيَّة. هَذِه التَّنْظِيمَات تَهْدِفُ إِلَى تَصْحِيحِ فَشُلّ السُّوق وَمَنَع الشَّرِكَات مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُجْتَمَع بِإسْمِ الرِّبْحِ. كَمِثَال :قَوَانِين مُكَافَحَة الِإحْتِكَار، قَوَانِين السَّلَامَةَ وَالصِّحَّةَ الْمِهَنِيَّة، اللَّوَائِح البِيئِيَّة.
2. الضَّرَائِبِ وَإعَادَة التَّوْزِيع (Taxation and Redistribution): تُسْتَخْدَم الضَّرَائِب التَصَّاعُدِيَّة عَلَى الدَّخْل وَالثَّرْوَة لِجَمْع الْإِيرَادَات الَّتِي تُسْتَخْدَمُ فِي بَرَامِج الرِّعَايَة الِإجْتِمَاعِيَّة، مِثْلِ التَّعْلِيمِ الْعَامّ، الرِّعَايَةِ الصِّحِّيَّةِ، الضَّمَان الِإجْتِمَاعِيّ، وَدَعْم الْبَطَالَة. هَذَا يُعْتَبَرُ آلِيَّة أَسَاسِيَّة لِإِعَادَة تَوْزِيع الثَّرْوَة وَتَقْلِيل عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، دُونَ الْمِسَاس بِحَقّ الْمِلْكِيَّةَ الْفَرْدِيَّةَ كُلِّيًّا. اللِّيبْرَالِيَّة الِإجْتِمَاعِيَّة (Social Liberalism) تُؤْمِن بِضَرُورَة دُور لِلدَّوْلَة لِضَمَان حَدِّ أَدْنَى مِنْ الرَّفَاهِيَةِ وَالْفُرَص لِلْجَمِيع.
3. حِمَايَةُ حُقُوقُ الْعُمَّالُ: تَشْرِيعَات الْعَمَلُ الَّتِي تُحَدِّدُ الْحَدّ الْأَدْنَى لِلْأُجُور، سَاعَاتِ الْعَمَلِ، حَقَّ النِّقَابِات الْعُمَّالِيَّة، وَظُرُوفِ الْعَمَل اللَّائِقَة، كُلِّهَا تَهْدِفُ إِلَى حِمَايَة الْفَرْدِ الضَّعِيفِ فِي السُّوقِ مِنْ الِإسْتِغْلَالِ.
4. التَّعْلِيمُ وَتَكَافُؤ الْفُرَص: الِإسْتِثْمَار فِي التَّعْلِيمِ الْعَامّ الْجَيِّد وَالرِّعَايَةِ الصِّحِّيَّةِ الشَّامِلَة يُعَدّ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ فِي تَحْقِيقِ الْعَدَالَةِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ ضَمِن الْإِطَار اللِّيبْرَالِيّ. فَمَنْ خِلَال تَوْفِير فُرَص مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْوُصُولِ إلَى هَذِهِ الْمَوَارِدِ الْأَسَاسِيَّة، تَمَكَّن الْأَفْرَادِ مِنْ الْمُنَافَسَةِ بِشَكْلٍ أَكْثَرَ عَدْلًا فِي السُّوقِ.
5. المَسْؤُولِيَّةِ الِإجْتِمَاعِيَّة لِلشَّرِكَات (CSR): تُشَجِّع الْمُجْتَمَعَات اللِّيبْرَالِيَّة الشَّرِكَات عَلَى تَبْنِي الْمَسْؤُولِيَّة الِإجْتِمَاعِيَّة لِلشَّرِكَات، حَيْث تَتَجَاوَز أَهْدَافَهَا الرِّبْحِيَّة وَتُسَاهِمُ فِي التَّنْمِيَةِ الْمُسْتَدَامَة، وَحِمَايَة الْبِيئَة، وَدَعْم الْمُجْتَمَعَات الْمَحَلِّيَّةِ. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ هَذَا غَالِبًا مَا يَكُونُ طَوْعًيا، إلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُصْبِحَ جُزْءًا مِنْ ثَقَافَةِ الْأَعْمَال.
خِتَامَا، يُشْكِل إقْتِصَاد السُّوق اللِّيبْرَالِيّ بِيئَة قَوِيَّة لِلنَّمو وَ الِإبْتِكَار، لَكِنَّهُ يَحْمِل فِي طَيَّاتِهِ مَخَاطِر تَفَاقُم عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ وَ إِعْلَاء شَأْنِ الرِّبْحِ عَلَى حِسَابِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ. الْمُجْتَمَعَات اللِّيبْرَالِيَّة لَا تَتَجَاهل هَذِهِ التَّحَدِّيَات، بَلْ تَسْعَى جَاهِدَة لِلْمَوَّازِنَة بَيْنَ حِمَايَةِ المِلْكِيَّةِ الْفَرْدِيَّة وَتَعْزِيز الْعَدَالَةِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ خِلَالِ مَزِيج مِنْ التَّنْظِيم الْحُكُومِيّ، السِّيَاسَات الضَّرِيبَيَّة وَإعَادَهُ التَّوْزِيع، وَحِمَايَة الْحُقُوق، وَالِإسْتِثْمَار فِي الْفُرَصِ الْمُتَسَاوِيَة. الْهَدَفَ هُوَ خَلْقُ نِظَام يَسْمَح بِالِإزْدِهَار الِإقْتِصَادِيّ مَعَ الْحِفَاظِ عَلَى التَّمَاسُكِ الِإجْتِمَاعِيّ وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة الْأَسَاسِيَّة.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟