محفوظ بجاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8377 - 2025 / 6 / 18 - 09:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من المفارقات المؤلمة في مجتمعاتنا، أن أكثر من يدّعون معرفة ما في السماء، هم أنفسهم من يجهلون ما يجري على الأرض. يتحدثون باسم المطلق، ويلوّحون بسلطان الغيب، وكأنهم ناطقون رسميّون عن الإله، في حين أن الأرض من تحتهم تغرق في الجهل، والظلم، والتخلف، ولا يُحرّكون ساكنًا.
يتحدثون عن الجنة والنار، عن الثواب والعقاب، عن شرائع أزلية، ومصائر محتومة، لكنهم يعجزون عن قراءة واقعهم السياسي، أو معالجة أزمة البطالة، أو فهم معنى الكرامة الإنسانية. يوزّعون الأحكام والفتاوى كما لو كانوا أوصياء على البشرية، بينما لا يفقهون شيئًا في علوم الاجتماع، ولا في الاقتصاد، ولا في إدارة الدولة ولا في أبسط آليات العدل بين الناس.
أيّ إيمانٍ هذا الذي لا يعلّم صاحبه التفكير، ولا يدفعه لطلب المعرفة، ولا يحثه على خدمة الناس؟ أيّ تدينٍ هذا الذي يجعل المرء قاسيًا في أحكامه، مغلقًا في عقله، متعجرفًا في منطقه؟ إن من لا يعرف شيئًا عن معاناة الإنسان، لا يحق له أن يدّعي تمثيل السماء. فالسماء ليست سلاحًا للتهديد، ولا عصا للوصاية، بل رسالة نور ورحمة.
لقد تحوّلت بعض الخطابات الدينية إلى وسيلة للهروب من الواقع بدل مواجهته، وأصبح كثيرون يفضلون الانشغال بالغيبيات على العمل من أجل حاضرهم. والأخطر من ذلك، حين تُستعمل هذه الخطابات لتكريس الظلم، وتخدير العقول، ومنع التغيير بحجة "القدر" أو "الفتنة".
إن الإيمان الحق لا يناقض العقل، ولا يصادر الحرية، بل يسندها. الدين ليس دعوة للعزلة، بل مشروع للنهوض الإنساني. وما لم نعِ أن إصلاح الأرض مقدَّم على الحديث عن السماء، سنظل عالقين في دوائر التبعية، ويظل الجهل باسم الدين هو سيد الموقف.
في زمن تسير فيه الشعوب نحو المستقبل بعقلها وعلمها ومؤسساتها، نجد من لا يزال يحفر في ماضٍ ميت، ويدعو الناس للركون والخضوع، ظنًّا منه أنه يحسن صنعًا.
إن من لا يملك تصورًا واضحًا عن الدولة، عن المواطنة، عن الحقوق، عن العلوم، لا يملك أن يزعم أنه يمتلك الحق الإلهي. من لم يتعلم بعد كيف يحترم المختلف، أو كيف يُحسن تدبير الخلاف، لا يمكن أن يُنصّب نفسه مرشدًا إلى الجنة.
فالإصلاح يبدأ من الأرض، ومن الإنسان، ومن الوعي، لا من الوهم ولا من التقديس الأجوف.
#محفوظ_بجاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟