أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محفوظ بجاوي - من إستهلاك السلع إلى احتضار الفكر : حين نقتني كل شيء ونعرض عن الفكرة














المزيد.....

من إستهلاك السلع إلى احتضار الفكر : حين نقتني كل شيء ونعرض عن الفكرة


محفوظ بجاوي

الحوار المتمدن-العدد: 8367 - 2025 / 6 / 8 - 09:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في زمنٍ تغصّ فيه الأسواق وتفرغ العقول، صارت البضائع تُعرض كما تُعرض الهويات، وتُفتح المراكز التجارية فيما تُغلق المكتبات. تتكدّس الأجهزة وتتبخّر الأسئلة، يُقبل الناس على شراء الملابس ويُعرضون عن قراءة الكتب، يُفتنون بما يلمع ويهجرون ما يُنير. لقد انقلبت سلّم الأولويات حتى باتت مجتمعاتنا العربية تتخبط بين تخمة مادية ومجاعة فكرية، وليس ذلك وليد لحظة عابرة، بل نتيجة مسار طويل ساهمت فيه الدولة والإعلام والتعليم والتدين الشكلي، في ترسيخ عقلية استهلاكية تُعلي من قيمة الامتلاك وتُقصي قيمة التفكير.
ثقافة الاستهلاك ليست مجرد ميلٍ إلى شراء المزيد، بل هي نمط ذهني وقيمي كامل. تجعل من الإنسان مرآةً للسلعة، ومن رغبته صدى لإعلان، ومن وجوده حالةً دائمة من اللهاث وراء الجديد: جديد الموضة، وجديد الهواتف، وجديد المطاعم والترف. لكنها في المقابل لا تترك له إلا القليل من التأمل، والقليل من البحث، وأقل من ذلك من التمرّد على السائد. وهكذا يُعاد تشكيل وعي الفرد، لا ليبحث عن معنى، بل ليبحث عن منتج. يتماهى الناس حتى يغدوا متشابهين في هيئتهم، في أذواقهم، في مناسبات فرحهم، وفي طرائق استهلاكهم للأفكار بالقدر ذاته من السطحية. لم تعد الهوية سؤالًا داخليًا أو وعيًا ذاتيًا، بل صارت شعارًا يُعلّق على منتج، أو نشيدًا يُردد في إعلان تجاري، أو علمًا يُطبع على قميص رياضي. هويةٌ معلبة، سريعة، لا تحتاج إلى جهد أو تفكير، شأنها شأن كل شيء في منطق السوق.
المأساة أن هذه الثقافة لم تتوقف عند المواد الاستهلاكية، بل زحفت إلى الفكر والدين أيضًا. بات الخطاب الديني يُستهلك كما تُستهلك السلع؛ نحب الواعظ الذي يُسلينا، ونميل إلى الفتوى الأسهل، ونتابع المشايخ النجوم كما نتابع مؤثري إنستغرام. ترى الشاب يحفظ عشرات الأحاديث، لكنه لا يقف عند واحدة منها متفكرًا. الاستهلاك طال حتى الروح، حتى ما كان يُفترض أن يكون جسرًا نحو التفكر والتزكية.
أما السياسة، فقد استُهلكت هي الأخرى. المواطن لم يعد شريكًا واعيًا في الشأن العام، بل صار متلقيًا للخطاب السياسي كما يتلقى إعلانًا تجاريًا. ينتخب كما يشتري، ويُصفق كما يُصفق لحفل. لا يُحاسب لأنه لم يُربَّ على المحاسبة، ولا يُسائل لأنه فُطم على التبعية. في مثل هذا المناخ، تتحول الوطنية إلى "هاشتاغ"، والثورة إلى "فلتر"، والانتماء إلى شعار يُردد لا فكرة تُفكّر. تُصبح الرموز بديلاً عن المواقف، والاحتفال بالشكل بديلاً عن الانشغال بالمضمون.
ومن أعمق تجليات هذه الثقافة أنها تُنتج ما يمكن تسميته بـ"اللازمنية"؛ إذ يُختزل الزمن كله في لحظة "الآن". لا ماضٍ يُفهم أو يُحلل، ولا حاضر يُقوّم، ولا مستقبل يُخطط له. بل سؤال دائم يلحّ على الوجدان: "ما الجديد؟"، "ماذا أشتري بعد؟"، "ما الذي فاتني من العروض؟". بهذا المعنى، لا يعود الإنسان كائنًا حرًا، بل يصبح كائنًا مبرمجًا، يتلقى، يلهث، ويُكرر بلا وعي.
وهكذا نجد أنفسنا في مجتمعات توهمنا بالحداثة، وهي خالية من المشروع. مدن تلمع في ظاهرها، لكن لا تفكر. شوارع مزدحمة بالعابرين، لكن عقولًا خاوية من الرؤية. جامعات تخرّج الآلاف سنويًا، لكنها لا تُنتج فكرة واحدة قادرة على إحداث التغيير. شباب يعرفون كل ماركات الملابس، ويجهلون أسماء المفكرين، وتاريخهم، وأسباب تأخرهم الحضاري.
وهنا يطرح السؤال نفسه بإلحاح: لماذا تجاوزنا الآخرون بينما بقينا حيث نحن؟
لأنهم ببساطة، أدركوا أن التقدم لا يكون في استيراد السلع، بل في تصدير الأفكار. وأن القوة لا تُقاس بعدد المراكز التجارية، بل بعدد مراكز البحث العلمي. وأن الشعوب التي تستهلك كل شيء ولا تُنتج فكرًا، تصبح عبئًا على نفسها وعلى العالم من حولها. لقد انتقل الغرب من مجتمع الإنتاج إلى مجتمع المعرفة، بينما ما زلنا نحن نحلم بالانتقال من الاستهلاك إلى التصنيع، من دون أن نعبر بمحطة العقل.
لقد سبقونا لأنهم علموا أبناءهم أن يطرحوا الأسئلة، بينما علمنا أبناءنا أن يحفظوا الأجوبة. جعلوا من المدرسة مكانًا لبناء الشخصية، بينما جعلناها نحن ساحةً للعقاب ومقبرةً للفضول. هم علّوا من قيمة الكتاب، ونحن رفعنا من شأن الهاتف. هم شجّعوا المثقف، ونحن خوّناه. هم احتفوا بالمفكر، ونحن دفناه في صمت التجاهل.
فما العمل أمام هذا الانحدار؟
إن الحاجة اليوم إلى مشروع فكري مضاد لثقافة الاستهلاك، مشروع يعيد تعريف النجاح لا على أساس الامتلاك، بل على أساس التفكير والوعي. نحتاج إلى نظام تعليمي يغرس الشك الإيجابي، ويُربّي ملكة السؤال، ويُخرّج إنسانًا يرى في التفكير ضرورة لا ترفًا. نحتاج إلى إعلام يُنتج المعنى، لا مجرد التسلية. إلى خطاب ديني يعيد للتدبر والتفكر مكانتهما الأصلية في جوهر الإيمان، لا في هامشه. إلى مجتمع مدني ينهض بالذوق العام، ويواجه الزيف المغلف بالصخب والضجيج.
علينا أن نعيد الاعتبار للكتاب، للفكرة، للمسرح، للفن النظيف، للمجلة الثقافية، لحوار العقول بدلًا من صراخ الألسنة. وأن نبني جيلًا قادرًا على التمييز بين الإعلان والفكرة، بين الانبهار اللحظي والشغف الحقيقي.
فالتحدي القادم ليس ماديًا فقط، بل هو تحدٍ معرفي بالأساس. والمجتمعات التي لا تُنتج فكرًا، لن تعرف كيف تُنتج مصيرها.



#محفوظ_بجاوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التحرر من أسر الماضي: الطريق نحو نهضة حقيقية
- حين يُقصى العقل،وتُستبدل المعرفة بالوهم... يصبح الصمت جريمة.
- الممنوعات باسم الفضيلة: كيف تصنع القيود مجتمعا خائفًا ومقموع ...
- التعليم في أوطاننا... بين التلقين والجمود
- خراب العقول حين تغيب الفلسفة
- جذور ثابتة وهوية لا تُشترى: الجزائر وطن ضارب في التاريخ لايم ...
- الطاعة و الخضوع بين التنشءة والواقع الإجتماعي: قراءة في مواق ...
- في يوم الطالب:من جيل التحرير إلى جيل البناء... هل مازلنا أوف ...
- السياحة الدينية في الجزائر: كنوز مهدرة وفرص ضائعة
- لماذا أنا متشائم؟
- العقل المتهم... والدجل المحصَّن
- في المرآة لا أحد
- لم أُخلق لأربح بل لأصمد: قصة تشاؤم بلا هزيمة
- غريب بين وطنين
- ركضت طويلا، فوجدت نفسي في النهاية: الحسرات تطاردني، والزمن ل ...
- التعليم الرديء يصنع دولة فاشلة : حين تصعد الرداءة من القسم إ ...
- لأنني محفوظ بكم
- حين يصمت الوعي، ويتجمد الموقف....الحياد يصبح خيانة ناعمة!
- جيل يواجه المجهول : لا تُكرّروا خيانة العقول _أمة تطفيء مصاب ...
- من المعلم إلى الواعظ: كيف فقدت المدرسة الجزائرية رسالتها الت ...


المزيد.....




- ردود فعل على مقتل قائد -المجاهدين- أسعد أبو شريعة من عائلات ...
- -الدوما-: رفض نظام كييف استلام جثث جنوده يدحض الصورة التي رس ...
- بريانسك: إسقاط 10 مسيرات أوكرانية استهدفت المقاطعة
- مسيّرات روسية تدمّر منظومة حرب إلكترونية غربية هامة لقوات كي ...
- قط -كاشخ- بأناقة البشت والثوب يسرق الأضواء في السوشيال ميديا ...
- -يديعوت أحرونوت-: حريق في كنيس الخاخام الأكبر السابق إسحاق ...
- قافلة مغاربية من تونس إلى رفح للمطالبة بوقف العدوان على غزة ...
- -يديعوت أحرونوت-: جيشنا في غزة كالبط في ساحة الرماية وحرب ال ...
- برلماني إيراني يتوعد إسرائيل بردود أقوى بعد عملية -الملفات ا ...
- واشنطن بوست: الخلاف بين ماسك ومساعدي ترامب كان يتصاعد منذ أش ...


المزيد.....

- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محفوظ بجاوي - من إستهلاك السلع إلى احتضار الفكر : حين نقتني كل شيء ونعرض عن الفكرة