أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - -من الرقص على التكتك إلى السقوط من رفوف الوعي-














المزيد.....

-من الرقص على التكتك إلى السقوط من رفوف الوعي-


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8369 - 2025 / 6 / 10 - 09:48
المحور: قضايا ثقافية
    


في بلادٍ كانت تُطبع فيها الحروف على ورق الطين، وتُخطّ على الألواح قَصائد بحروف سومرية قبل أن تنطق الدنيا بأبجديتها، صار الكتاب فيها اليوم عارًا يوضع أسفل كومة أغلفة الشيبس، وصار المسرح مهجورًا كأنه شاهد زور على زمن لم يعد يشاهد. يا بلاد الرافدين، كم رفعتِ الرأسَ عاليًا في مَواكب الحضارة، وكم انحنى اليوم أبناؤكَ أمام كاميرا هاتف من أجل إعجابٍ خافت لا يطفئ جوعًا ولا يمنح كرامة!
تسير الثقافة في العراق على قدمين واهنتين، تمشي بخطى متعثرة في شارع تضج فيه المتناقضات، فالفقر يلتقي بالتفاخر، والجهل يرفع راية الشهرة، والبطالة ترتدي أقنعة النجاح الزائف. ولم تعد الموهبة تُطرق بها أبواب المؤسسات الثقافية، بل تُكسر تلك الأبواب بصوت "الترند"، وتُفتح الساحات لمن يرقص لا لمن يكتب، لمن يُضحك السُذج لا لمن يُبكي الحروف. ويا لسخرية القدر! من كان يُتقن الغناء يُقصى، ومن لا يعرف سوى التصفيق يُقدّس.
المجتمع اليوم لا يشبه صور ألبوم الأمس، فلا البيت بيت، ولا الجار جار، ولا الكلمة كلمة. حتى مفردات اللغة هجرت قاموسها، وأصبحت تُركّب كما تُركّب مساحيق التجميل على وجه ممثل يبحث عن محتوى. أما الشِعر، ذلك الكائن المقدّس الذي كان يُلقي السلام على الصباحات، فقد أُجلس في زاوية المقاهي، يستمع بمرارة إلى مناقشات "الفلتر" وأخبار اليوتيوبرات، يبتسم بشحوب، ويشرب قهوته على مهلٍ كأنه في جنازته الخاصة.الفرد العراقي، المسكين، المملوء بالأحلام، المُثقل بالهموم، وجد نفسه في مواجهة حياة تعطيه صفعة كل صباح، وتطلب منه أن يشكرها على نعمة "البقاء حيًا". لا عمل، لا دخل، لا أفق واضح، وكل الأبواب تُغلق بوجهه عدا نافذة صغيرة تبثُّ الرقص والغناء المبتذل، وتعده بأن الشهرة على بُعد فيديو. فيصير التكتك حلمًا، والرقص عليه وسيلة للعيش. ويا له من مشهد! شاب يحمل شهادة جامعية، يطارد "اللايكات" كمن يطارد الخبز، وفتاة تتصنع التفاهة لأنها أدركت أن الحياء لا يُطعم، وأن العمق لا يُباع.صار كثير من الفنانين الحقيقيين غرباء في وطنهم، يطرقون الأبواب فلا تُفتح، ويُسألون: "عندك جمهور؟"، فإن قالوا: "نحن نملك فكرة"، أُجيبوا: "الفكرة لا تبيع". صار الفن يُقاس بعدد المتابعين، لا بجودة العمل، والمواهب تُقبر لأنها لا تلبس "ماركة"، ولا تعرف كيف تُجمل حديثها بكلمات دخيلة تحاكي لغة اللاوعي الجماعي.كل شيء تغيّر، من المفردة إلى الإشارة، من اللحن إلى النغمة، حتى الحياء صار مادة قديمة، يضحكون منها كما يُضحك على موضة انقرضت. البرامج الثقافية أُلغيت أو أُفرغت من مضمونها، واستُبدلت ببرامج حوارية تطرح سؤالًا واحدًا: "شنو آخر ترند عندك؟" أما المكتبات، فتراها خاوية كأنها أطلال يمر بها العابرون بحثًا عن "واي فاي".مؤسسات الثقافة، التي يُفترض أن تكون القِبلة للمبدعين، أضحت أشبه بمضافات للمدعومين، يُنتخب فيها الرديء لأنه يُجيد التصوير بزوايا حادة، بينما يُقصى العاقل لأنه "ما يعرف يتسوق نفسه". حتى الجوائز، صارت تمنح للضوضاء، ولا تُعطى للجوهر. الفن يُباع في أسواق الترويج، والوعي يُباع على الأرصفة… ولا من يسأل: إلى أين؟
لكن رغم هذا السواد، يبقى هناك بصيص. لا لأن الأمل دائمًا واجب، بل لأن الصمت جريمة في زمن يُكرّم فيه الصراخ. إن النهوض بالمجتمع لا يكون بلعن الظلام فقط، بل بزرع شموع تصنعها العقول لا الماركات. الثقافة ليست قطعة أثاث نضعها في الصالون ونغلق عليها الباب، بل هي مقاومة ناعمة، صامتة أحيانًا، لكنها تدوي في العُمق. أن تقرأ في زمن "الترند" ثورة. أن تكتب جملة حقيقية في زمن الشعارات ترف، وأن تؤمن أن الوطن يُبنى بالحرف قبل الحجر، هو بطولة من نوع خاص.يجب أن نعيد ترتيب الطاولة. أن نفتح النوافذ لطموحات لا تمر عبر "الفلاتر"، وأن نصنع من الفن صرخة لا تسلية. لا يكفي أن نقول "مع الأسف"، بل علينا أن نقول "كفى". كفى لكل من جعل الثقافة عبثًا، والإبداع سلعة. كفى لكل من زاحم الموهبة بالضجيج، وجعل من التهريج بابًا للرزق، ومن الجهل منبرًا.النهضة تبدأ حين نكسر الشاشات التي تُرينا أنفسنا على غير حقيقتها. حين نُعيد للغتنا احترامها، ولفنّنا جوهره، وللمسرح بهاءه، وللكتاب رونقه، وللشعر وقاره. لا ببرامج تُبكي الضحك، بل بخطوات صامتة، ثابتة، كمن يُعيد بناء هيكل مهدوم، لا ليُسكنه أحد، بل لأن القيمة تستحق العناء.فلا تفرح كثيرًا إن أصبح لك جمهورٌ كبير، فقد يكون الحشد كله ضائعًا مثلك. ولا تفتخر إن ظهرت على الشاشة، ما لم تكن صورتك تعكس فكرًا لا زيفًا. وإن أردت أن تكون مؤثرًا، فلا ترفع صوتك، بل ارتفع بمعناك. وإن كنت تريد لبلدك أن ينهض، فلا تشارك في دفنه ولو برقصة!
العراق لا يموت، لكنه أحيانًا يُخدر بفيديو… ويُفقَد بين الفواصل.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا بنو أميّة تحديدًا.
- -ديمقراطية على ضوء القمامة.. وحبر الانتخاب في يد السنونو!-
- -منفى الرمق الأخير-
- هاتف الثلج.. الناطق بلسان وطن لا بلسان سلطان.
- -ضباب لم يأتِ-
- السرير الكَمّي: بين وهج الوعد الكوني وسكون الحقيقة العلمية-
- -الجيب العراقي... الحبل السري لاقتصاد طهران-
- العيد الذي غادرني
- بهرز… حين يصير النسيم تاريخًا ناطقًا بحضارة الألف عمر.
- كردستان... حيث يولد السلام من رحم الجمال
- حين تبتلع الأرض أبناءها... دجل الوطن وضياع القضايا-
- -اللص الشريف... عضو البرلمان الموقّر-
- كهنة الخراب: حين يتوضأ النفاق بدموع الفقراء
- ذي قار… نشيد الزقورة، ملحمة الرجولة، ووهج الأهوار
- العباءة السوداء التي تخنق النيل: التغلغل الصفوي في مصر وخطره ...
- صرخة لوط في ليل الضياع: عبرة لمن غابت رجولته وتنكرت فطرته.
- العراق بين قبضة الطغاة ووهج الثورة: صحوة الوعي وميلاد الغضب ...
- -فضائيات بلا أفق... مذيعون من كوكب التملق... وبرامج للبيع في ...
- -حين يقاتل الحالمون: كيف يغيّر الإبداع مصير العالم رغم الثعا ...
- وجعٌ يشبهك


المزيد.....




- فستان زفاف ثانٍ لأمينة خليل في اليونان..هل تفوّق على الأول؟ ...
- -حيوانات ترفع أعلامًا أجنبية-.. شاهد ما قاله ترامب عن -مثيري ...
- إيران تهدد باستهداف جميع القواعد الأمريكية في حال فرض الحرب ...
- -الدوما-: لا طرق قانونية لتمديد ولاية زيلينسكي
- الجيش الإسرائيلي ينشر نتائج تحقيقه حول أحداث 7 أكتوبر في موش ...
- الأحزاب المعارضة تصوت على حل الكنيسيت الإسرائيلي اليوم.. كيف ...
- لوس أنجلوس.. ترامب يبعث الحياة في -قانون الانتفاضة- بعد أكثر ...
- -التحالف الدولي- يبحث مخاطر -داعش- في سوريا
- إسرائيل تبدأ تجنيد جيش من الحريديم مطلع يوليو
- نتنياهو يسابق الزمن لإنقاذ حكومته وسط تهديدات بحل الكنيست بس ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - -من الرقص على التكتك إلى السقوط من رفوف الوعي-