|
روسيا – الإمبراطور الأحمر – دروس ستالين والستاليتية
زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8365 - 2025 / 6 / 6 - 13:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نافذة على الصحافة الروسية نطل منها على أهم الأحداث في العالمين الروسي والعربي والعالم أجمع
*اعداد وتعريب د. زياد الزبيدي بتصرف*
ألكسندر سامسونوف كاتب صحفي ومحلل سياسي مؤرخ وخبير عسكري روسي
4 يناير 2023
في 4 يناير 1943، إختارت مجلة "تايم" الأمريكية جوزيف ستالين شخصية عام 1942. لقد تمكّن "الإمبراطور الأحمر" من إنشاء حضارة سوفياتية فريدة حققت تماسكًا شعبيًا غير مسبوق، وإيمانًا متقدًا بالنصر المستقبلي، وعالمٍ جميلٍ ومشرق.
وجاء في المجلة: «...لا خطوة إلى الوراء!.. لقد كان عام 1942 عام الدم والجبروت. الرجل الذي يعني إسمه "الفولاذ"، والذي تضم مفرداته باللغة الإنجليزية عبارة "رجل قاس"، هو رجل عام 1942. وحده جوزيف ستالين عرف مدى إقتراب روسيا من الهزيمة في عام 1942. ووحده يعرف كيف أنقذ روسيا. لقد إنتصر جوزيف ستالين. إنه هو ذلك "الرجل القاسي"...».
الإمبراطور الأحمر
ورث ستالين دولة مدمّرة تمامًا، شعبًا منهكًا أنهكته الحرب العالمية الأولى، والإضطرابات، والتدخل الأجنبي. بلد بلا صناعة، بلا إحتياطي من الذهب، بلا تكنولوجيا أو مستقبل. بطالة جماعية، فقر، إنفلات الجريمة. بيروقراطية متضخمة مقارنة بزمن القيصرية (بسبب تراجع مستوى الإدارة)، وإندماج بين البيروقراطية والجهاز الحزبي المحلي والـ"نِيبمان" (أثرياء المرحلة الجديدة – البرجوازية الجديدة). رواية "العجل الذهبي" ل إلف وبيتروف كانت موسوعة للسرقة والنصب التي عششت في روسيا في ذلك الزمن.
كان يبدو أن روسيا السوفياتية في عشرينيات القرن العشرين محكومٌ عليها بأن تصبح ملحقًا من المواد الخام للغرب والشرق المتقدمين (اليابان). في الوقت الذي بدأت فيه أزمة رأسمالية جديدة في الغرب، كانت روسيا بدائية التصنيع، والمسلحة تسليحًا ضعيفًا، معرضة لأن تكون ضحية لجيرانها الأقوياء، حتى بولندا وفنلندا كانتا تمثلان تهديدًا، ناهيك عن اليابان العسكرية والرايخ الثالث القادم. وفي الداخل كانت إضطرابات جديدة تقترب: صدام بين المدينة والريف. فبعد الخروج من كارثة 1917–1920، كانت روسيا السوفياتية تنحدر نحو "هيروشيما" قومية جديدة. كان الإنهيار وشيكًا، إما بهزيمة عسكرية، أو بإنهيار إقتصادي داخلي – أو بكليهما.
تمكّن ستالين من تحقيق المستحيل تقريبًا. لم ينجح فقط في الحفاظ على الحضارة والدولة والشعب على حافة كارثة جديدة، بل دفع بهم إلى الأمام، إلى المستقبل. الأمين العام الفولاذي، جسّد واقعًا جديدًا، حضارة سوفياتية جديدة. أسّس مجتمعًا جديدًا قائمًا على التطور، والمعرفة، والبناء، والخدمة.
أعطى ستالين للشعب، وخاصة للشباب، صورة لعالم جميل قادم – "الآتي الجميل". مثُل عالم جديد يكون فيه العمل والإبداع والبناء هو الأساس. عالمٌ لا يُستغَل فيه الإنسان من قبل الإنسان. عالمٌ يتحقق فيه مستوى أعلى من التطور عبر العمل، والإبداع، وتفجير الطاقات الفكرية والروحية، وعبر تغيير عميق في الوعي والسلوك – حيث لا يعمل الإنسان عند "عمٍّ غريب"، بل من أجل قضية مشتركة. وهكذا، تظهر حضارة جديدة – عالم المستقبل، حيث تصبح رغبات الإنسان عقلانية، وتعلو الروحانية فوق المادية، وتغلب المسؤولية الإجتماعية على الأنانية الحيوانية. الجميع يدرك أنه من أجل غدٍ سعيد، لا بد اليوم من التحمّل والعمل الشاق، وربما حتى التضحية.
بهذا المعنى، فإن الشيوعية الروسية، الستالينية، كرّرت في جوهرها أفضل ما في الحضارة المسيحية. حاولت أن تنقذ الإنسان من عالم "العجل الذهبي"، من التمادي في المادية، و"توحش" الإنسان. لقد شيّد ستالين ورفاقه واقعًا جديدًا، مشرقًا، تسوده أخلاق العمل، والضمير، والخير، والعدالة.
مجتمع المستقبل
الحلم الجذاب، الجميل، الممكن التحقيق، أصبح أساس "المعجزة السوفياتية". لقد آمن الناس بالإمبراطور الأحمر، والإيمان يصنع المعجزات. بجهد جماعي من الشعب والأرض، بنوا دولة عظيمة، دافعوا عنها في معارك شرسة مع الغرب، وأطلقوا الإنسانية نحو الفضاء.
نجح ستالين في حل عدة مهام كبرى بدت مستحيلة. بُنيت القدرة الدفاعية والإقتصاد الوطني. وعندما شنّ الغرب الجماعي هجومه، كانت روسيا مستعدة – خلافًا للإمبراطورية الروسية عام 1914. التحدي العظيم – تخطي قرن من التخلف الإقتصادي والتكنولوجي في عشر سنوات – تحقق بنجاح!
وهناك مهمة أخرى مصيرية: "الطابور الخامس" الذي دمّر الإمبراطورية الروسية على أبواب النصر (حين كانت ألمانيا وحلفاؤها يخسرون الحرب). ستالين حيّد هذا الطابور – وهو سر "التطهير العظيم". جرى القضاء على معظم التروتسكيين، والأمميين، والقوميين (في البلطيق وأوكرانيا)، والإنقلابيين من العسكريين. طهّر الإمبراطور الأحمر الحزب الذي كان يتحول بسرعة إلى أداة للثراء الشخصي. هذا ما سمح بتفادي إنهيار الإتحاد السوفياتي في بداية الحرب الوطنية العظمى – وهو ما راهنت عليه ألمانيا وأمريكا وبريطانيا.
كان ستالين يبني المستقبل علنًا، عامًا بعد عام. لم يكن "يُعيد الهيكلة" أو "يُحدّث" أو "يُصلح"، بل كان يخلق. شُيدت آلاف المصانع، المحطات، المختبرات، المنازل، والبنية التحتية. خطوط سكك الحديد، أنابيب النفط، وسائل الإتصالات. روضات، مدارس، معاهد، جامعات، مسارح، مكتبات، بيوت ثقافة وإبداع. بُنِيَ واقعٌ جديد، لم يكن له مثيل بعد الحرب الأهلية، حين كانت البلاد خرابًا.
وإشتهرت مقولة ونستون تشرشل، المنسوبة في الحقيقة إلى المؤرخ البريطاني إسحاق دويتشر: «... لقد إستلم روسيا وهي تجرّ المحراث، وتركها مع المفاعلات النووية. رفع روسيا إلى مصاف الدولة الصناعية الثانية في العالم. ولم يكن ذلك نتيجة للتقدم المادي والتنظيمي فحسب، بل لثورة ثقافية شاملة ذهب فيها الشعب كله إلى المدارس وتعلم بجدية عالية».
مبدع إجتماعي
كانت روسيا محظوظة بأن قادها في تلك المرحلة طالب مدرسة كهنوتية سابق، وثوري، ومثقف عصامي، وربما أفضل إداري في تاريخها.
فقد أدرك بوضوح أن لا بديل عن التعاونيات الزراعية في تلك الظروف. فإما إنهيار إقتصادي، ثم حضاري، للدولة، أو تعاونيات زراعية كعملية عقلانية وتكنولوجية لنقل الريف الروسي إلى مستوى معاصر، مع الحفاظ على "عالم المشاع" كركيزة أساسية للشعب الروسي. وفّر ذلك المال والموارد للتصنيع، ووفّر اليد العاملة الرخيصة لبناء الصناعة. وأُنشئ قطاع زراعي حديث قادر على تزويد الصناعة بالمواد الخام، وعلى إمداد المدن والجيش بإنتظام. وكان من المأمول أن تُعيد الصناعة السوفياتية الريف إلى الحياة، وتسدّ ديون المجتمع للفلاحين. لكن الحرب الوطنية العظمى، ثم مرحلة خروتشوف، منعتا ذلك.
وكان موردٌ آخر للإنطلاقة الكبرى: ثروات البلاد. لم تُوجّه لثراء طغمة مالية ضيقة، ولا وُضعت في بنوك الغرب، بل إستُثمرت في المستقبل: في التعليم، والعلوم، والتكنولوجيا، والصناعة. فستالين لم يستعد فقط إحتياطي الذهب المنهوب على يد الثوريين والبيض والغرب، بل فاقه.
إستغل ستالين أزمة الرأسمالية الغربية إلى أقصى حد. إشترى التقنية، والخدمات الهندسية الغربية. كان الغرب في أزمة، وروسيا تتفاوض بذكاء وتخفض الأسعار. بُنيت مصانع كبرى بمساعدة خبراء أمريكيين – مثل مصنع السيارات "غاز" في نيجني نوفغورود، ومصنع الصلب في ماغنيتوغورسك، ومصانع الجرارات في خاركوف وستالينغراد.
وجد ستالين آلية بديلة لمنافسة السوق: ذلك بتخفيض الأسعار والتكاليف. فدُفع المدراء للإبتكار وتحديث الإنتاج وتوفير الموارد.
برهنت منظومة ستالين على قدرة روسيا على تعبئة وتركيز قواها بشكل مذهل. تحقيق أعلى مردود بأقل موارد وزمن. فبهذا بُنيت صناعة حديثة: هندسية، ومعدنية، وجوية، وذرية وفي مجال الطاقة. وكانت النخبة السوفياتية مسؤولة شخصياً عن المهام الموكلة إليها – وعلى أعلى مستوى. فقد كان العاملون في الحزب، والموظفون، ومدراء المصانع مسؤولين شخصياً عن المهام والموارد المؤتمنين عليها. وتم إنقاذ البلاد من ظاهرة السرقة الجماعية، ومن تهريب الأموال الضخمة إلى الخارج. لذلك لم تكن الموارد تُوجَّه نحو قصور شخصية ذات مراحيض من ذهب، أو يخوت وطائرات، بل إلى المصانع، والمدارس، ومكاتب التصميم، ومعاهد البحوث العلمية. وهكذا تم بناء القوة الحقيقية للدولة والبلاد.
وقد سارت عملية التصنيع، والتجميع الزراعي، والثورة العلمية التقنية بالتوازي مع الثورة الثقافية. فتم خلق ثقافة تمجّد الشباب، والتعليم، والعلم، والقوة، والنقاء. كل ما هو أفضل كان يُمنح للأطفال (مستقبل الأمة). وتم إنشاء شبكة من مخيمات الأطفال الريادية، وبيوت الثقافة، ومراكز الإبداع، والمدارس الموسيقية، وغيرها في كافة أنحاء البلاد، ليتمكن الأطفال من اكتشاف وتطوير قدراتهم البدنية، والعقلية، والإبداعية، والانخراط في التعليم الذاتي، والعلم، والفن، والإبداع. والحصول على إعداد عسكري أولي، ليصبحوا مظليين، أو طيارين، أو قناصين مستقبليين، للدفاع عن الوطن. لقد منحت السلطة السوفياتية عشرات الملايين من الناس الفرصة لتحقيق إمكاناتهم البدنية، والعقلية، والروحية.
لهذا السبب إنتصر الروس في أكثر الحروب رعباً في تاريخهم، عندما كان الهدف هو إبادتهم بالكامل. لقد قاتلوا حتى الموت، وكانوا يعلمون لماذا يموتون. كان المواطنون السوفيات يؤمنون بمستقبل بلادهم.
لقد تمكن ستالين من إنشاء حضارة سوفياتية (روسية) فريدة من نوعها، حققت تماسكاً غير مسبوق للشعب، وإيماناً مشرقاً بالنصر المستقبلي، وبعالمنا الجميل والمشرق، وهو ما تجسّد في الغضب النبيل والعمل المتفاني. لقد حقق الناس معجزات حقيقية في العمل والحرب. إنتصروا. أسسوا دولة عظمى وقاعدة لمجتمع المستقبل – مجتمع المعرفة، والخدمة، والإبداع. وهذا ما يعطي الأمل في مستقبل مشرق لأجيال الروس الحالية.
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طوفان الأقصى 608 - كيف تحولت اليهودية من دين إلى عرق - دور ا
...
-
العيد 80 للنصر – الجزء الثلاثون - التاريخ كسلاح – صحفي إيطال
...
-
طوفان الأقصى 607 - من أين جاءت الكراهية لليهود في العالم: لم
...
-
العيد 80 للنصر - الجزء التاسع والعشرون – حول مسألة التعويضات
...
-
طوفان الأقصى 606 - كيف تم البحث عن وطن لليهود – وكان الإتحاد
...
-
العيد 80 للنصر - الجزء الثامن والعشرون - النتائج المنسيّة -
...
-
طوفان الأقصى 605 - التاريخ المنسي لليهودية المعادية للصهيوني
...
-
العيد 80 للنصر - الجزء السابع والعشرون - فشل مخططات رومانيا
...
-
طوفان الأقصى 604 – كراهية اليهود في الولايات المتحدة خرجت عن
...
-
العيد 80 للنصر – الجزء الخامس والعشرون – المجر في الحرب ضد ا
...
-
طوفان الأقصى 603 - الصهيونية المسيحية - تناقض لفظي؟ لا، بل و
...
-
العيد 80 للنصر – الجزء الخامس والعشرون – المجر في الحرب ضد ا
...
-
طوفان الأقصى 602 - دونالد ترامب – الصهيوني الأول في أمريكا؟
-
العيد 80 للنصر - الجزء الرابع والعشرون - فضح مزيّفي التاريخ
-
طوفان الأقصى 601 - إسرائيل والولايات المتحدة - نتنياهو يرد ا
...
-
العيد 80 للنصر - الجزء الثالث والعشرون - هل كانت القيادة الس
...
-
طوفان الأقصى 600 - من المستفيد من الصهيونية؟
-
العيد 80 للنصر - الجزء الثاني والعشرون - كيف ومتى اتخذ أدولف
...
-
طوفان الأقصى 599 - ترامب - الشرع - نتنياهو
-
العيد 80 للنصر - الجزء الحادي والعشرون - أساطير الرايخ الثال
...
المزيد.....
-
ترامب مازحا عن إيلون ماسك: أمريكا تستطيع البقاء بدون أي شخص
...
-
واشنطن تفرض عقوبات جديدة تستهدف إيران وتشمل كيانات في الإمار
...
-
بضربة شاملة.. قصف روسي لمواقع بأوكرانيا
-
ماكرون ولولا دا سيلفا يحضران فعالية ثقافية في باريس
-
عروض نارية مبهرة تضيء سماء أبوظبي في أولى ليالي عيد الأضحى ا
...
-
أولمرت: إسرائيل مسؤولة عن تلبية حاجة سكان غزة
-
أمريكا.. تحويل الطائرة القطرية إلى -رئاسية- يثير انتقادات في
...
-
استمرار التصعيد بين موسكو وكييف... وروسيا تعلن قتل شخص كان ي
...
-
مقتل أربعة جنود إسرائيليين في غزة وسط نقص كبير في عديد الجيش
...
-
حريق هائل يلتهم صهاريج في أوكلاهوما الأمريكية
المزيد.....
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|