|
طوفان الأقصى 606 - كيف تم البحث عن وطن لليهود – وكان الإتحاد السوفياتي أول من وجده
زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8363 - 2025 / 6 / 4 - 00:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نافذة على الصحافة الروسية نطل منها على أهم الأحداث في العالمين الروسي والعربي والعالم أجمع
كيف يقرأ الشارع الروسي ما يحدث في بلادنا – * اعداد وتعريب د. زياد الزبيدي بتصرف*
ألكسندر نيوكروبني كاتب وناشر وخبير عسكري روسي، متخصص في الصحافة التاريخية
9 ديسمبر 2018
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أصبح اليهود صداعاً مزمناً لأوروبا بأكملها، حيث لوحظ تصاعد في المشاعر المعادية لليهود ووقعت مجازر بحقهم. وعلى هذه الموجة، بدأ اليهود بالعودة الجماعية إلى وطنهم التاريخي والإستيطان في مقاطعة فلسطين التابعة للإمبراطورية العثمانية، حيث بدأت هناك مباشرة أولى النزاعات مع العرب.
خلال هذا الوقت، كانت أوروبا تبحث بشكل محموم عن مكان لإقامة اليهود بشكل جماعي. ومع ذلك، كان الإتحاد السوفياتي أول من حاول فعلياً حل هذه المسألة.
الخلفية التاريخية
بحلول نهاية القرن الخامس عشر، تم طرد اليهود من جميع دول أوروبا، فإتجهوا إلى بولندا، التي أصبحت تُعرف بعد إتحادها مع ليتوانيا في عام 1569 بإسم الكومنولث البولندي الليتواني . وقد تم طرد اليهود بتهم الربا، والتحريض، والسعي للسلطة بأي ثمن، وحتى بتهمة قتل المسيحيين لأغراض طقوسية. لم يدم الكومنولث طويلاً، وهو أمر متوقع نظراً لهذا التجمع الكبير للسكان اليهود، وقد توقف عن الوجود بعد ثلاثة تقسيمات لأراضيه بين روسيا والنمسا وبروسيا من 1772 إلى 1795.
بالإضافة إلى المكاسب الإقليمية، ورثت روسيا من الكومنولث عدداً كبيراً من السكان اليهود، الذين لم يُسمح لهم بالإقامة في عموم أراضي الإمبراطورية الروسية، بل سُمح لهم بالعيش فقط ضمن "منطقة الإستيطان"، ما ولّد ميولاً ثورية في أوساطهم. (منطقة الاستيطان اليهودي: كانت منطقة محددة في الجزء الغربي من الإمبراطورية الروسية - تشمل اليوم أوكرانيا، بيلاروسيا، ليتوانيا، بولندا ومولدوفا - حيث سُمح لليهود بالعيش بشكل دائم. خارج هذه المنطقة، كان يُحظر عليهم الإستقرار إلا في حالات نادرة (مثل التجار من الدرجة الأولى، الحرفيين، أو خريجي الجامعات).
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الإمبراطورية العثمانية، لم يعد أمام اليهود أي مكان يلجؤون إليه، فتوجه بعضهم إلى وطنهم التاريخي – فلسطين، خاصة بعد إنعقاد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، والذي هدف إلى إنشاء دولة يهودية على أراضي فلسطين. لكن العرب الذين كانوا يعيشون هناك أيضاً إعتبروا فلسطين وطنهم التاريخي.
إلا أن القوات البريطانية إحتلت فلسطين، وفي عام 1922، وبناءً على وعد بلفور، منحت عصبة الأمم بريطانيا تفويضاً بإدارة فلسطين، واستمر هذا التفويض حتى عام 1947.
البحث عن وطن لليهود
لم يكن اليهود وحدهم مهتمين بإنشاء دولة يهودية، بل كذلك القوى الكبرى في العالم: الإتحاد السوفياتي، الولايات المتحدة، بريطانيا، وحتى ألمانيا النازية – إذ كان الكل يرغب برحيل اليهود عن أوروبا كي لا يعوقوا بناء "جنة على الأرض".
السياسي الأمريكي "موردخاي مانويل نواه" إقترح في القرن التاسع عشر توطين اليهود في أمريكا، في ولاية نيويورك، وبناء "مدينة ملاذ لليهود"، وأسماها "أرارات"، رابطاً الاسم تاريخياً بسفينة نوح. ولأجل ذلك، إشترى عدة آلاف من الأفدنة في نيويورك. لكن لم يتحقق شيء من هذا المخطط، وقد سُخر منه في الصحافة، وكل ما تبقى من هذا المشروع هو حجر كان يُفترض أن يوضع كأساس للمدينة.
أما بريطانيا، فقد اقترحت توطين اليهود في شرق إفريقيا.
مؤسس الصهيونية السياسية، تيودور هيرتسل، إلتقى عام 1903 مع الوزير البريطاني جوزيف تشامبرلين وناقش معه خطة إنشاء دولة يهودية. وقد إقترحت بريطانيا أوغندا كملاذ مؤقت لليهود القادمين من روسيا. في البداية، في المؤتمر الصهيوني السادس عام 1903، صوتت الأغلبية بـ "نعم"، لكن بعد عامين، في المؤتمر السابع، رُفضت هذه الفكرة.
خطة مدغشقر
هذه الخطة وضعتها فرنسا وألمانيا النازية في أواخر الثلاثينيات للتخلص من عشرة آلاف لاجئ يهودي في فرنسا، ومن جميع اليهود في ألمانيا.
بعد إستسلام فرنسا في صيف عام 1940، قام ضابط قوات الأمن الخاصة، أدولف آيخمان، المسؤول عن التهجير القسري لليهود، بإعداد خطة لإجلاء أربعة ملايين يهودي إلى مدغشقر. وافق الرايخ الثالث على الخطة، لكن اللجنة اليهودية الأمريكية عارضتها، وفي تقرير خاص في مايو 1941، أفادت بأن اليهود لا يستطيعون العيش في الظروف القائمة على الجزيرة. وفي فبراير 1942، تخلّى النازيون عن خطة مدغشقر، وشرعوا في تنفيذ خطة أخرى – برنامج الإبادة.
مشروع الإتحاد السوفياتي
ربما كان الإتحاد السوفياتي أول دولة تقترب عملياً من هذه المسألة.
فمنذ أوائل عشرينيات القرن الماضي، بدأت السلطات السوفياتية بمناقشة خطة توطين العمال اليهود لإقامتهم بشكل جماعي. في البداية، كان من المفترض نقلهم إلى القرم، لكن في عام 1927، تم تحديد منطقة بيروبيدجان كموقع للإستيطان في المستقبل.
قام الرفاق من لجنة توطين العمال اليهود (كومزيت) وجمعية تنظيم الأراضي للعمال اليهود (أوزيت) بزيارة المنطقة، وإعتبروها مناسبة تماماً للإستيطان المستقبلي، وأطلقوا عليها اسم "إسرائيل السوفياتية".
المكان الذي نشأ فيه لاحقاً بيروبيدجان كان يُعرف بمحطة "تيخونكايا". وهنا بالضبط بدأت القطارات في عام 1928 بنقل المستوطنين اليهود، رغم أن الكثيرين غادروا عائدين بسبب عدم رضاهم عن ظروف المعيشة، ونقص السلع، والمناخ القاسي.
لكن في الفترة من 1928 إلى 1934، شهد إقتصاد الإتحاد السوفياتي تطوراً سريعاً، ولذلك تم توفير جميع الظروف اللازمة لإنشاء المنطقة اليهودية الذاتية، التي حصلت على هذا الوضع في 7 مايو 1934. وكان عدد السكان آنذاك يبلغ 10 آلاف يهودي.
وفي عام 1991، وبموجب مرسوم صادر عن رئاسة مجلس السوفييت الأعلى، تم فصل المنطقة اليهودية الذاتية عن إقليم خاباروفسك، وأصبحت كياناً مستقلاً في روسيا الإتحادية.
تحتل المنطقة اليهودية المرتبة الأولى في روسيا من حيث عدد من هاجروا إلى إسرائيل، ويقيم فيها حالياً 0.6% فقط من اليهود من إجمالي السكان، بينما يعيش في إسرائيل أكثر من 15 ألف عائد من المنطقة اليهودية ذات الحكم الذاتي.
ما العمل، يبدو أن فلسطين هي الوطن التاريخي الوحيد لليهود، وسيتعين عليهم مواصلة تقاسمها مع العرب. ------ القرم وبيروبيجان: حكاية المشروعين السوفياتيين لإنشاء وطن لليهود
في أعقاب الثورة البلشفية عام 1917، وجدت القيادة السوفياتية نفسها أمام تحدٍّ ديموغرافي وسياسي يتعلق بمصير اليهود في الإتحاد السوفياتي. فبعد قرون من العيش في "منطقة الإستيطان اليهودي" تحت الحكم القيصري، والتي كانت تقيد حركتهم، بدأ السوفيات في البحث عن حلول "إشتراكية" لـ"المسألة اليهودية". وهكذا وُلد مشروعان متوازيان: أحدهما في القرم الواعد، والآخر في بيروبيجان النائية.
الحلم القرمي: عندما بدا المشروع قريبًا من التحقق
في مطلع العشرينيات، بدأت فكرة تحويل شبه جزيرة القرم إلى منطقة حكم ذاتي يهودي تكتسب زخمًا. كانت الدوافع متشابكة بين الأيديولوجيا والبراغماتية: - زراعية: أراد السوفيات تحويل اليهود من التجارة والحرف اليدوية – التي رأوها "غير منتجة" – إلى العمل الزراعي. - سياسية: لتهدئة المشاعر الصهيونية المتنامية بين بعض اليهود، والتي كانت تدفع نحو الهجرة إلى فلسطين. - إقتصادية: الإستفادة من تمويل المنظمات اليهودية الأمريكية مثل "أغرو-جوينت" Agro-joint، التي مولت مستوطنات يهودية في القرم.
بحلول عام 1928، إستقر عشرات الآلاف من اليهود في مزارع جماعية في القرم، وسط وعود بإنشاء "جمهورية يهودية" هناك. لكن الأحلام إصطدمت بالواقع السوفياتي القاسي: - المقاومة المحلية: سكان القرم، خاصة التتار، رأوا في المشروع تهديدًا ديموغرافيًا. - الستالينية: مع صعود ستالين، تراجعت سياسة القوميات لصالح المركزية، وبدأت حملات تطهير ضد النخب اليهودية. - الحرب العالمية الثانية: بعد ترحيل تتار القرم عام 1944، أُعيد توطين المنطقة بسلاف، وطُوي المشروع إلى الأبد.
بيروبيجان: الوطن اليهودي الذين لم ينجح
بموازاة مشروع القرم، اختارت موسكو عام 1928 منطقة نائية على حدود الصين لتكون "الوطن البديل" لليهود: بيروبيجان. كانت الخيارات وراء هذا القرار تعكس المنطق السوفياتي: - بُعد جغرافي: في الشرق الأقصى، بعيدًا عن مراكز القوة، لتجنب أي مطالب إنفصالية مستقبلية. - إستغلال الموارد: المنطقة غنية بالمعادن، لكنها تحتاج إلى أيدي عاملة. - دعاية دولية: لإظهار أن الإتحاد السوفياتي "يحل المشكلة اليهودية" دون اللجوء إلى الصهيونية.
لكن الواقع كان أقسى من الخيال: - المناخ القاسي: صيف حار رطب، وشتاء قارس يصل إلى -40°م. - نقص البنية التحتية: لم تكن هناك طرق أو مستشفيات أو مدارس كافية. - الهجرة العكسية: بحلول الخمسينيات، هجر معظم اليهود المنطقة، بعد أن تحولت إلى مجرد شعار دعائي.
إرث المشروعين: بين النسيان والذاكرة
اليوم، لم يبقَ من الحلمين سوى آثار باهتة: - في القرم: لا تزال بعض القرى المهجورة تشهد على المحاولات الأولى، لكن التاريخ طواها بعد ترحيل اليهود الناجين من الهولوكوست إلى إسرائيل أو أمريكا. - في بيروبيجان: لا يزال إسم "المقاطعة اليهودية" موجودًا على الخرائط، لكن اليهود لا يشكلون سوى 1% من سكانها، بينما تحولت إلى منطقة عادية في روسيا الإتحادية.
ربما كان الدرس الأكبر هو أن "الحلول" المفروضة من فوق، دون مراعاة إرادة الناس وتاريخهم، محكوم عليها بالفشل. فالقرم وبيروبيجان، رغم إختلاف مصيريهما، يشتركان في سردية واحدة: محاولة صنع هوية بقرار بيروقراطي، إنتهت إلى زوايا النسيان في كتب التاريخ.
--
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العيد 80 للنصر - الجزء الثامن والعشرون - النتائج المنسيّة -
...
-
طوفان الأقصى 605 - التاريخ المنسي لليهودية المعادية للصهيوني
...
-
العيد 80 للنصر - الجزء السابع والعشرون - فشل مخططات رومانيا
...
-
طوفان الأقصى 604 – كراهية اليهود في الولايات المتحدة خرجت عن
...
-
العيد 80 للنصر – الجزء الخامس والعشرون – المجر في الحرب ضد ا
...
-
طوفان الأقصى 603 - الصهيونية المسيحية - تناقض لفظي؟ لا، بل و
...
-
العيد 80 للنصر – الجزء الخامس والعشرون – المجر في الحرب ضد ا
...
-
طوفان الأقصى 602 - دونالد ترامب – الصهيوني الأول في أمريكا؟
-
العيد 80 للنصر - الجزء الرابع والعشرون - فضح مزيّفي التاريخ
-
طوفان الأقصى 601 - إسرائيل والولايات المتحدة - نتنياهو يرد ا
...
-
العيد 80 للنصر - الجزء الثالث والعشرون - هل كانت القيادة الس
...
-
طوفان الأقصى 600 - من المستفيد من الصهيونية؟
-
العيد 80 للنصر - الجزء الثاني والعشرون - كيف ومتى اتخذ أدولف
...
-
طوفان الأقصى 599 - ترامب - الشرع - نتنياهو
-
العيد 80 للنصر - الجزء الحادي والعشرون - أساطير الرايخ الثال
...
-
طوفان الأقصى 598 - ترامب في الشرق الأوسط – جولة أعمال أم شيء
...
-
طوفان الأقصى597 - سواليف شرقية - بماذا عاد ترامب من جولته في
...
-
العيد 80 للنصر - الجزء العشرون - أساطير الرايخ الثالث: النظر
...
-
طوفان الأقصى 596 - زيارة ترامب إلى دول الخليج - ملف خاص
-
طوفان الأقصى 596 - زيارة ترامب إلى دول الخليج - ملف خاص
المزيد.....
-
الكرملين: روسيا ستقرر -كيف ومتى- سترد على هجوم أوكرانيا.. وب
...
-
أوربان: انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي سيكلف الاتحاد 2
...
-
-الناتو- يقر أكبر برنامج للتسلح منذ الحرب الباردة لمواجهة -ا
...
-
توتر أمني واسع في ريف جبلة: اقتحامات وحرائق وضحايا مدنيون وس
...
-
ضمن جولات سرية.. رئيس -الشاباك- الجديد يتفقد مواقع عسكرية إس
...
-
ما قصة -الحيّة بيّة- في الموروث الشعبي الخليجي؟
-
واشنطن: نتوقع اتفاق دول -الناتو- على زيادة إنفاقها الدفاعي
-
مثبتة علميا.. فائدة جديدة لاقتناء الكلاب الأليفة
-
شركات روسية تخطط لإطلاق أقمار جديدة للاتصالات وإنترنت الأشيا
...
-
هل يزعجك صوت المضغ؟.. قد يكون هذا إنذارا خطيرا لصحتك العقلية
...
المزيد.....
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|