أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سعيد مضيه - هشام شرابي المفكر الماركسي-3















المزيد.....


هشام شرابي المفكر الماركسي-3


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 7225 - 2022 / 4 / 21 - 11:39
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


تحرير الوعي بالمعرفة العلمية
طرح شرابي النقيض الجذري للتخلف الاجتماعي في الحداثة الاجتماعية: تغيير شامل في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التعليمية والسياسية ، وذلك عبر تحليل اجتماعي جاء من أبرز المحاولات العميقة لتناول المجتمع العربي والنهوض به من حضيض التخلف الحضاري والسياسي من منظور علم الاجتماع.
من هنا نبدأ
يستهل مشروع البناء الوطني، حسب شرابي، باسترداد حق المواطنة لكل فرد(تصفية العصبوية الطائفة أو العرقية او العشائرية)، وتصفية تفاعلات الهدر في النفسية. رفض التمويه السائد ، إزالة الغشاوة عن العيون ، كي تستعاد الثقة بالنفس ويتم امتلاك التفكير النقدي والمعرفة الذاتية. فبعد رفع الطغيان يجري ترميم الروح الجماعية من أعطاب الهدر. وكل الانقلابات والحركات التي غفلت عن اجتثاث مخلفات الهدر في النفسية الاجتماعية إنما تعيد إنتاج الاستبداد، إذ تبقي النفوس مهياة لتقبل الاستيداد. والانتفاضات العربية في العقد الماضي قدمت أكثر من دليل على عودة الاستبداد بسهولة بعد الإطاحة بالمستبدين. يبدأ الخلاص بالاعتراف بالإنسان المواطن ودوره ورأيه ومشاركته الفاعلة في اتخاذ القرارات التي تصنع المصير الوطني.
يناظر شرابي العلامة مصطفى حجازي خبير علم النفس الاجتماعي، إذ يطرح سبل الخلاص ووسائله بالذات، وذلك في كتابه "الإنسان المهدور". لاحظ أن وطأة الهدر اشد من القهر؛ فالأول يغيب الوعي حتى بالاستلاب، وهو غاية ثقافة الليبرالية الجديدة. تتمثل خطورته في لوذ المهدور الى آليات نفسية دفاعية يداري بها استلابه، وأبرزها الاكتئاب والغضب والتدمير والانشطار الذاتي . وكثيرا ما تقدم عنصرية الغرب الأقنعة لستر مخلفات الهدر والكبت في النفسيىة الاجتماعية ، كما ورد في شهادة رئيس جامعة بيروت الأميركية. فهي تزوير للذات توهم الضحية أنه في ورطة لا فكاك منها. المعركة لكشف الهدر واجتيافه(ابتلاعه) وتعطيل آلياته لا تقل أهمية عن المعركة مع الهدر الخارجي. إن الخطوة الأولى في مسيرة الكشف تتمثل في الوعي بالدفاعات ضد الهدر والديناميات النفسية المتولدة عن الهدر وقابلة للتغيير وصولا إلى استعادة عملية النماء (حجازي: 323)
المعركة ضد مخلفات الهدر تكتسب في الوقت الراهن أهمية استثنائية ، ذلك انها تدخل في صراع ضار مع عوامل الهدر التي ما تزال تفعل في المجتمعات. يجري حاليا إدارة إدراك الأفراد والجماعات وتكييفها لحكم اليمين المتطرف المتجه حثيثا نحو الفاشية. الوضع الراهن يبين بجلاء أن القوى الاجتماعية التي اوكل إليها التاريخ تحقيق التحولات الثورية لم تنضج بعد للنهوض بأعباء المهمة. وحسب تعبير سمير امين "من المستحيل ان تقود الطبقة العاملة ثورة اشتراكية لأن الطبقة المؤهلة تاريخيا للقيام بها تفتقر إلى العوامل التي تمكنها من القيام بالثورة المطلوبة" (شرابي: 170) وبذا تختزل المهمات الراهنة في الحشد والتعبئة ومقاومة حالة التردي المضطرد. بدون النجاح في وقف التردي يكون الحديث عن برامج تحرير نوعا من تبرير القصور. بالنظام الأبوي الراهن يستحيل إنجاز التحول التقدمي.

إدارة الإدراك لدى المجتمع وتكييفه لحكم الطاغية
في عصر الاستهلاكية تتعاظم إغراءات الانهيار، ليس الخلقي فقط بل في قيمة الإنسان إلى مجرد مستهلك . فقد حملت هيمنة اقتصاد السوق مزيدا من أخطار انتشار أفات الفساد الكوني من رشاوى ومحسوبيات وتبييض أموال وتهريب المخدرات والسمسرات . باتت الحصانة الخلقية القيمية ضرورة للحفاظ على التوازن الذاتي والاحترام الكياني ؛ وباتت تنطوي على أهمية حيوية من حيث الجهد البناء طويل الأمد.
الهدر في مجال الفكر أهم ركن في ثلاثية الهدر الأخطر، أي هدر الفكر والوعي والطاقات. هدر الفكر يصيب حيوية المجتمع ونمائه في الصميم . إذ يتركه في حالة انكشاف وفقدان المناعة تجاه الضغوط الخارجية المتنامية. إن تعطيل التفكير وكذلك تهميش الأفراد من شأنهما إضعاف نشاط الجزء المختص بالتفكير من الدماغ والحد من الضبط العقلي وفتح السبل للانفعالات والنزق. السلطة المستبدة تحظر بكل الوسائل الفكر المغير للواقع وهو ما يطلق عليه حجازي " تعقيم الفكر من قدرته التخصيبية التغييرية". وعلى وجه العموم فالاستبداد يعطل شروط نشوء الثورات العلمية داخل المجتمع ويدفعه الى الجمود . بعض حالات الطغيان تتجاوز كل ما سبق من ضبط وتجنب وتعلم اجتماعي وتعميم في ترويض الناس وصولا إلى غرس حالة استسلام متبلد للقدر فيما يعرف باستجابة العجز المتعلَّم؛ وهي تشكل السلوك الأساسي المستهدف في عمليات التعذيب السياسي(شرابي : 93) إضافة إلى مصادرة الهوية والذاكرة والتماهي بهما هناك السيطرة على المجال الإدراكي للناس... حضور مكثف يشكل حالة غمر إدراكي ـ إغراق الإنسان بالمثيرات البصرية والسمعية، والهدف تشكيل قناعات الناس والتلاعب بالعقول ، وصولا إلى دفعها إلى عواطف معينة وسلوكات محددة. ... يندرج ذلك ضمن ما بات يدعى إدارة الإدراك ـ التحكم بأفكار ومواقف وميول الآخرين ، أو بالأحرى تشكيل ميولهم وقناعاتهم بما يخدم الأهداف المرسومة. وتكون الخطوة التالية هي التحكم بالسلوكات والمواقف. الغمر من خلال التكرار والبلورة و التركيز على الموضوع وإبرازه بشكل لافت هي بعض آليات فرض الموافقة(شرابي: 103).
كما أثبتت الأبحاث الحديثة على الدماغ البشري أن البيئة الرتيبة الخالية من المثيرات والإثارات ، كما هو الحال في أنظمة القمع والمنع والتحريم ، تعمل على ترقيق القشرة الدماغية ، وبالتالي إلى تدهور الكفاءة الذهنية. ويتجلى ذلك في قصور التخطيط والانتباه وصناعة القرار وحل المشكلات وتشكيل الخيارات وتنفيذها . ترقيق القشرة الدماغية تحد من الضبط العقلي مما يفتح السبل أمام غلبة السلوك الانفعالي الاندفاعي(حجازي:169).
يستخدم الناس مجموعة من آليات الدفاع لتجنب معرفة دوافعهم ومشاعرهم اللاواعية. المجتمعات العربية مبرمجة منذ العصر الوسيط، قرون الاستبداد السابقة تركت آثارها المخربة للوعي، ما يؤكد استنتاج فرويد من أن "اللاوعي الثقافي هو ذلك المخزون الثقافي المتوارث الذي يوجه الميول والرؤى ويحدد السلوكات بشكل عفوي. ليس عجبا انتظار الجماهير الفرج على يد بطل يملك السلطة والقوة، بطل منفرد(ضابط يتحرك منتصف الليل أو فدائي ) يرد لها حقوقها السليبة (شرابي:111). وقد نقل الموروث نظام المستبد العادل، وانتقل هذا الموروث في خلايا أنظمة الحكم العربية. استمرت صورة المستبد العادل تلهم الخيال الشعبي، "وكل إنسان شعبي حين تتاح له فرصة ممارسة السلطة على الآخرين لا يجد مرجعية أخرى لهذه الممارسة سوى الاستبداد( شرابي: 112). يتجلى هذا في سلوكات الفصائل المسلحة تجاه الناس، رغم أنهم ينتمون لنفس الشريحة التي يمارسون ضدها القهر والهدر. يرى فرويد أن تأثيرات اللاوعي تكشف عن نفسها بعدة طرق, بما في ذلك الأحلام، وفي زلات اللسان، المعروفة الآن باسم "زلات فرويد". أكد فرويد على أهمية العقل اللاواعي، والافتراض الأساسي لنظرية فرويد هو أن العقل اللاواعي يحكم السلوك بدرجة أكبر مما يعتقده الناس. في الواقع، الهدف من التحليل النفسي هو الكشف عن استخدام آليات الدفاع هذه وبالتالي الكشف عن اللاوعي بالتحليل النفسي، وجعله وعيا. ميزشرابي في البنية المستحدثة غياب التقليدية الأصيلة وبالمقدار نفسه غياب الحداثة الحقة . الثقافة التحتية مع التنوع المحدّث شاعت على الأقل في صفوف المتعلمين في جامعات الغرب فنشأوا "مثقفين محدّثين" . ليس للحداثة الأصيلة من عدو أشد بأسا من هذا التشكل الاجتماعي الذي يعاني انفصاما حضاريا(شرابي :41).
أسلوب التربية حال دون تبني المنهجية العلمية ؛ وهذا يعود إلى التباسات اللقاء الأول مع العلوم الأوروبية "كانت النظرة الى العلم خلال مرحلة النهضة التي شكلت تكون النمط السائد للفكر الأبوي المستحدث عقائدية في جوهرها ، دون الالتفات مليا الى النظرية العلمية ومنهجها . ارتكزت عقيدة النهضة الى العلموية بينما بقيت نظريتها في المعرفة قائمة على الأبوية . تم التعبير عن هذه الثنائية تحت شعار العلم والإيمان ومؤخرا رد الأصوليون هذا الشعار الى الحياة. إذ انه اساس المحافظة في آن على نقاء العقيدة وسلطة المجتمع. وبخلاف اليابان التي كانت حتى ذلك الحين تستورد بانتظام العلم والتقانة من أوروبا ، وتحولهما إلى مقتنيات فكرية ومنهجية فعالة، فإن الأبوية المستحدثة العربية كانت منصرفة الى تبني موقف أدبي – ديني من اوروبا ومن التاريخ والذات، فحرمت نفسها ومنذ البدء من أي فرصة للتطور (كما فعل اليابانيون وباتساق يدعو الى العجب) باتجاه موقف مستقل واع كان ليمكنها بعد استيعاب صدمة اوروبا من تمهيد السبيل امام الفهم العلمي. وكان عماءً مطبقا وملحاحا قد حال دون ستيعاب الجيل الأول لهذا التناقض الجوهري بين العلم والعقيدة ، وهو تناقض ماثل في صلب الفكر الغربي ، كان اليابانيون قد وعوا ابعاده وعواقبه منذ البداية؛ ولذا بقي الوعي العربي خاملا وجامدا وقانعا في مصاف سابق على التفكير العلمي ومنصرفا الى التمحيص الأدبي - العقائدي وقادرا على صياغة الفكر الساذج فحسب(120-119). يتجاوز رايخ موقف أستاذه فرويد ؛ إذ يربط مباشرة بين الكبت الجنسي وضعف القدرة على النقد والتمرد عند الفرد. وفي كتابه "تحليل النفسية الفاشية"عندما يصبح الجنس محرما ينتج عن ذلك إضعاف القوى الذهنية لدى الفرد وخصوصا مقدرته على النقد والتقييم...هدف المثل البرجوازية تربية اناس خانعين يتقبلون النظام السلطوي وقيمه دون تردد ويتكيفون معه دون مقاومة رغم الألم والإهانة اللذين يكبدهم اياها هذا النظام وقيمه". والقهر في سن الطفولة ينتج مع الكبر شخصا اما محافظا او لامباليا سياسيا. الكبت الجنسي يقتل القدرة على التمرد والثورة ضد الاضطهاد الاجتماعي.
نقلاً عن البرت حوراني فأن "تكون مشرقيا يعني أن لا تنتمي الى مجتمع معين ولا تملك ما هو في حوزتك . هذا واقع يتجسد في الضياع والادعاء والتشاؤم واليأس"(شرابي: 41). النماذج في نظر المثقف المحدّث اصنام ، محاكاة ، وامتثال. تنقل عن الحضارة الرأسمالية قشورها المهترئة، ولا تنفذ الى اللب. لا يؤخذ بالأفكار والممارسات والمؤسسات، عبر النقد؛ ولكن بالإشارة الى نموذج القومية العربية مرجعيتها أوروبية، وكذلك السياسة ببعديها العقائدي والعملي انعكاس للنماذج الأوروبية. والحداثوية في ظل الأبوية ممارسة صنمية ثابتة غير نقدية. هنا تبرز بشكل واضح الخاصية المشوهة والزائفة للحداثوية العربية"(شرابي:42).
مع انتشار التعليم وتعاظم حجم المتعلمين في جهاز الدولة وفي المجتمع المدني نشأت مؤثرات اقتصادية أحدثت تغييرات طفيفة على مظهر العلاقة الأبوية دونما تغيير جوهرية

1-مستوى تحصيل علمي فلم يعد المثقف يعتمد على الأب؛ ويضطر الأب للدخول في علاقة جديدة في المنزل ومع أفراد الأسرة،
2-الديمقراطية مساواة بدل الخضوع،
3-العائلة الحديثة تعتبر المراة المستفيد الأول ، حيث تحصل على قدر من الحرية ، شرط التحرر النسوي التعلم والعمل فيتحقق الاستقلال الاقتصادي.
ما لا يدركه كثيرون ان العنف الذي يتعرض له الأطفال(على صعيد الأسرة والمدرسة ايضا) يحدث آثارا طويلة الأمد عليهم وعلى المجتمع ايضا.فهم معرضون الى: صعوبات في التعلّم ، ضعف الانتباه، اعاقات في الوظائف التنفيذية للدماغ، مثل: الذاكرة العاملة، وضبط النفس، والمرونة المعرفية.. خلل في الصحة العقلية والعاطفية، اكتئاب وقلق يدفع بعضهم الى الأنتحار وتعاطي المخدرات. وتؤكد الدراسات ان الكثير من الأطفال الذين تعرضوا للعنف يكونون فاشلين في حياتهم الزوجية وغير منتجين اجتماعيا. ولا يقتصر العنف هنا على النوع الجسدي، بل والنفسي ايضا من قبيل النبذ، التمييز في المعاملة،السخرية والتحقير.

أولى شرابي اهتماما خاصا بتربية الطفولة، فحياة الفرد يقررها نمط التربية في البيت والمجتمع منذ السنوات الأولى. نقل عن بياجيه ، عالم النفس السويسري، أن تنشئة الطفل على "الاحترام المتبادل يولد في الطفل أخلاق الحرية والمساواة والعدالة". يجدر الاهتمام بإنشاء مكتبة داخل كل بيت ، وان يكون الكبار قدوة للطفل في احترام الكتاب وتناوله باستمرار . ينطوي ترسيخ قيمة الكتاب والمطالعة لدى الطفولة المبكرة على أهمية خاصة حيال ثورة المعرفة الإليكترونية. فالإليكترون أقوى جاذبية ، وصحيا لا يجوز ترك الطفل امام التلفزيون او الكمبيوتر اكثر من ساعتين؛ فقد يشكل الجلوس الطويل احتمالية الإصابة بالسمنة ومرض السكري."القراءة هي القنطرة نحو الإبداع والتغيير؛ فإن الكلام ، وهو حكر على السلطة القائمة وفكرها السائد، هو الشرط اللازم للاستقرار والاستمرارية. ومن هنا مركزية الحوار الأحادي في كافة أصناف الخطاب الأبوي المستحدث في أنماط التعبير والتفاعل بين الأفراد وفي سلم القيم والعلاقات التي تضفي مصداقية عليها وتعزز مكانتها. (شرابي:108).
كسر الطوق مرهون بالتغلب على التمويه والتملك من ناحية المعرفة النقدية والتوصل الى المعرفة الذاتية المستقلة التي تشكل القاعدة الوحيدة للوعي الاجتماعي الصحيح. ينقل الطفل من حالة الفرح والحرية الى عالم الواقع ، عالم الكبت والقهر. واسلوب المعاملة والتربية البيتية هو الذي يقررالمقدرة على مجابهة الواقع والتفاعل معه كعضو في المجتمع. التمويه الذي تعرضنا له ايام دراستنا يمكن مع الزمن التغلب عليه ، يمكن نقده وتغييره حين يدخل الوعي المباشر؛ لكن التمويه الذي يرجع الى السنوات الأولى من حياتنا يكون حاجزا من الصعب تجاوزه. وذلك لأن الضرر الذهني والعاطفي الذي تسببه طريقة تربيتنا وتعاملنا في الفترة الأولى من حياتنا يصعب تشخيصه وإبراز معالمه في وعينا المباشر، وبالتلي إصلاحه وتجاوزه
المعرفة الذاتية تحذر من الأخذ العشوائي بالنظريات والمفاهيم الواردة من الخارج، فذلك من شانه ان لا يؤدي الا الى التعمية والفوضى اللتين نعانيهما حاليا. حتى العلم الطبيعي المستورد لا يصبح علما حقيقيا الا اذا استوعبه الفكر الذاتي، وعبر عنه بأسلوبه الخاص ولغته الخاصة ، فأصبح وسيلة مستقلة للمعرفة والإدراك.(وبالتحديد من خلال إدخاله في الإنتاج الاجتماعي) . ان المعرفة ، بأشكالها المختلفة ، لا تصبح معرفة حقة الا عندما تمتلكها الذات الاجتماعية الشاملة ، فتصبح تعبيرا عن واقعها وعن إمكان تجاوز الواقع. كل علم وفلسفة تبقى وسيلة تمويه وكبت ما دام شكلها مستوردا تعرض وتعلم في المدارس والجامعات كما تعرض السلع المستوردة وتشترى دون إدراك لماهيتها والنهج الذي اتبع في صنعها. ان العلم والفن والفلسفة المستوردة تحافظ على استمرار ذهنية الوعي الخاطئ وتقويه في المجتمع. فما يقود العلم ويسيره في المجتمع هو دافع ينبثق من ذلك المجتمع ، فيعطيه منطقه الخاص وطبيعته الخاصة. بات النقد حاجة قومية ماسة، لا يرمي فقط إلى تأسيس "خطاب نقدي" يتمكن من إضفاء الوعي الذاتي الصحيح ، بل لتقديم نظرية فكرية فعالة قادرة على تفكيك أواصر الوعي السائد والسير نحو وعي جديد وممارسة جديدة. وعليه فالنقد الفعال يشكل اليوم مهمة مركزية في عملية الإطاحة بالخطاب الأبوي المستحدث ونظامه الاجتماعي والسياسي( شرابي:171).
التفكير النقددي تفكير إيجابي
ان أي تنمية للإنسان باتت تتطلب مشروعا وطنيا لبناء الاقتدار الشامل لمختلف الشرائح السكانية، خصوصا الطفولة والشباب والمرأة. وأولى تجليات الكفاءة هي الكفاءة النفسية التي توفر أساس نماء الطاقات الحيوية. كما أنها توفر المناعة بوجه التحديات والصعاب والمخاطر. بهذه العدة نستطيع دخول عصرنا، عصر الاقتدار المعرفي القائم على كفاءة العلم المستدام وكفاءة توظيف الطاقات الذهنية في مبادرات معرفية جريئة وطموحة والتي أصبحت وحدها تضمن الدور والمكانة في الشراكة العالمية. ومن أبرز مقومات الاقتدار العلمي تعلم التفكير التحليلي النقدي ، وتوسيع برنامج تنمية القدرات الذهنية كي يستوعب كامل أبعاد الذكاء الإنساني وأنواعه تبعا لنظرية الذكاءات المتعددة المستوعبة لكل مجالات النجاح في الحياة. ثم اتباع نظام تنمية التفكير والمبادرة والاعتماد على الذات في العملية التربوية.المهم في كل هذا المساعدة على التدرب على التفكير الإيجابي باعتباره الضامن للاقتدار في التعامل مع قضايا الحياة وأزمتها(حجازي:330). التفكير الإيجابي لا يغض النظر عن سلبيات الحياة الفعلية؛ ولا يتغافل عن سلبيات الواقع إنما النظر في السلبيات والإيجابيات، يحذر من الإفراط في تعميم النظرات الإيجابية التي قد تؤدي إلى تجاهل الواقع في غناه وتعقيداته وأخطاره. وبصدد الذات فالتفكير الواقعي ينبغي أن يظل إيجابيا ولا يدع اليأس يتسرب إلى ذاته. (حجازي: 331).
الوعي يأتي في مقدمة التفكير الإيجابي، وعي بالإمكانات والقدرات والفرص، يشكل الوعي بالفاعلية الذاتية قلب القلب من نواة الاقتدار الإنساني فهو يدفع للتحرك والتدبر حتى في الوضعيات التي تبدو بدون مخارج. إنه المحرك الهام للدافعية والعزم والتصدي والإقدام ومجابهة التحديات، وابتداع الوسائل الأرقى والأكثر تعقيدا ، والتي بدونها لا يمكن للمرء إنجاز أي شيء حتى لو استطاع إلى ذلك سبيلا(حجازي:331) وتعرف الفاعلية الذاتية بأنها تلك العلاقة ما بين القدرة الشخصية المدركة وبين السلوك والحالة المعنوية.... والعديد من الكفاءات المحددة للاقتدار الإنساني تشتق من اقتدار الجماعات التي ينتمي إليها الفرد ويعيش وسطها. فإدراك المرء لإمكانات واقتدار محيطه الإنساني يعزز كثيرا من قدرته الذاتية على المجابهة والفعل. ويطلق لديه فاعلية عالية للمثابرة والاستمرار(حجازي:332) . والتفاعل فيما بين الذاتي والاجتماعي يطلق طاقات على الفعل يتمخض عن الخروج من مرض الهدر الكياني وتحسين الصحة النفسية، ورفع مستوى القدرة على توجيه الذات ومواجهة الشدائد والتحصن ضدها.... تنفتح اليقظة الذهنية المتسمة بالمرونة على الجديد في المحيط وتتنبه لما فيه من إمكانات ليست جلية للوهلة لأولى،... وإذ يتمسك الإنسان المهدور باليقينيات في مواقف دفاعية، إن الوعي بتحول الأشياء يزيد من قدرة المرء على المبادرة ومقاومة الشدائد والتغلب على الخوف من التغيير. تلك هي سمة العصر : تسارع التحولات وانعدام اليقين بثبات الأمور وحتميتها في مجالات التكنولوجيا والسياسة والاقتصاد والعمالة والمجتمع . اليقظة الذهنية وتفتح آفاق الرؤية والوعي بالتحولات والتغيرات والاحتمالات تتيح وحدها التعامل الناجع مع الوضعية المضادة للثبات والقطعية(حجازي:333) . اليقظة الذهنية تفتح المجال أما مقوم آخر من مقومات التفكير الإيجابي مما يتمثل في المرونة والتلاؤمية ( المرونة الذهنية والسلوكية) بأنها القدرة على تدبير الأمور في الظروف الصعبة أو المهددة أو حتى في حالا المحن بمقاربة فعالة وناجعة(حجازي:334). فقد يكون التقدير متفائلا او متشائما في التعامل الفعال مع وضعية معينة . فليس التفاؤل هو الواقعي دوما ، كما أن التشاؤم ليس هو الفاشل بالضرورة . يكمن سر الاقتدار المعرفي في متى يتعين ان نكون متفائلين أو متشائمين كي ندير الوضعية بفاعلية.المهم أن نظل في وضعية مبادرة وقدرة على الفعل، وابتداع وسائل ومقاربات مغايرة، أو حتى استبدال الأهداف ذاتها(حجازي:335).
لا حياة للأفراد، كما الجماعات والمجتمعات إلا بالتفكير وإطلاق العنان له. التفكير هو الحياة المليئة المتجددة المستوعبة والظافرة والصانعة لمكانتها ومصيرها. وموت التفكير هو النكوص والتقهقر إلى مستوى الحياة النباتي، والدخول في فئة الشعوب المستغنى عنها. هدر الفكر يؤدي إلى فقدان السيطرة ، وإفلات زمام تسيير الحاضر واستشراف المستقبل وصناعته. وبالتالي هدر الكيان الإنساني ذاته من خلال رده إلى مستوى النشاط العصبي الموجه لإشباع حاجات البقاء البيولوجي. ... يعطل استخدام الدماغ، ولا يبقى سوى الجزء المسمى " الهيبوثولاموس" ، وهو كتلة في وسط الدماغ لا يزيد وزنها عن خمسة غرامات ، أي ما يشكل خمسة وثلاثين بالمائة من الواحد بالمائة من وزن الدماغ البشري الراشد. وهذه تضبط وظائف الأكل والنوم والجنس والانفعال(حجازي: 167). ثبت أن تشجيع الفكر من خلال الحوار والنقاش وتعزيزهما، يطلق مادتي الأندورفين والدويامين في الدماغ، وهما تولدان حالة من النشوة والحيوية والاستمتاع والدينامية . كذلك فإن التحديات الفكرية وطرح المشكلات التي تحتاج إلى حل، وتنشيط التفكير التحليلي النقدي يساعد على زيادة تكوين الشبكات العصبية في الدماغ، من خلال نمو النشاط المعرفي نمت هذه الشجيرات، وتوفر للدماغ شبكات عصبية جديدة تزيد كفاءته.
قوة المعرفة هي أساس اقتدار المجتمعات راهنا، ودرجة الوعي ويقظته هي الضامن لنفاذ الرؤى وفاعليتها واتساع أفقها. لا يمكن لاستبداد أن يحكم سيطرته، ولا يمكن لعصبيات أن تستفحل وتستنزف قوى المجتمع وموارده، بدون اٌلإقدام على جريمة هدر الفكر. الفكر بما هو نتاج التفكير، يخدم غاية كبرى في سيطرة العقل على العالم وظواهره ، وبالتالي سيطرة الإنسان على ذاته وواقعه، وصولا إلى صناعة مصيره . و يتناسب التخلف طرديا مع هدر الفكر.
في ثقافة الإنجاز(عكس ثقافة الولاء) تتحدد المكانة انطلاقا من الجدارة وحدها. الجدارة هي المرجعية في الحكم والتقويم والامتيازات. هنا يكمن مأزق العصبيات على اختلاف أنواعها وأشكالها. ذلك أنه لا إنسانية ممكنة لأي فرد إلا من خلال الشرط المؤسس لها، والذي يتمثل في الاعتراف بإنسانية الآخر. وبالتبادل يفتح باب اللقاء الإنساني والشراكة الإنسانية في الوجود والمصير(حجازي: 70).
وقد يكون أبرز ما يميز الكفاءة المهنية راهنا ومستقبلا هو امتلاك أخلاقيات العمل المهني والمسئولية المهنية والإحساس بالواجب والجهد طويل النفس والسعي الدائب نحو الإتقان. الاقتدار المهني يستند إلى ثقافة الإنجاز وأخلاقيات الإنجاز(حجازي:317).
تؤكد الفلسفة العقلانية ضرورة الوصول إلى استراتيجيات إدارة الحياة بفاعلية، بحيث نصبح أناسا أكثر قدرة على توجيه الذات، واستعادة اعتبار الذات وتعلم الاستقلالية وتعلم مبدأ الواقعية بلا أوهام . تبدأ حينذاك النظرة العقلانية بالبروز والنمو مما يشكل الشرط الأول للشفاء من الهدر الذاتي. وهذا يتطلب الوعي والحزم والإصرار على المثابرة (حجازي :326).
علم النفس الإيجابي يعزز الاقتدار الذاتي. وهو تيار حديث جدا في علم النفس انطلق على يدي سيليجمان رئيس الرابطة الأميركية لعلم النفس. يركز العلم على أوجه القوة في الإنسان بدلا من أوجه القصور وعلى الفرص بدلا من الأخطار وعلى تعزيز الإمكانات بدل التوقف عند المعوقات. يهدف العلم إلى تنشيط الفاعلية الوظيفية والكفاءة والصحة الكلية للإنسان، بدلا من التركيز على الاضطرابات وعلاجها، من أجل توفير وسائل بناء الاقتدار الذاتي عند الكبار والصغار والشباب سواء بسواء، وذلك على مختلف مستويات الذهن والمعرفة والسلوك والمهنة والحالة الاجتماعية العامة. والواقع أن علم النفس الإيجابي ذاته انطلقت بذوره الأولى من التفكير الإيجابي او الواقعي تحديدا . من ضمن حركة الإصلاح المعرفي وعلم النفس المعرفي اللذين أصبحا يحتلان مركز النجومية في توجهات علم النفس. من أهم مقومات الحياة الطيبة حب الشخص لحياته والوفاق مع ذاته ومع الدنيا والناس. وفي التقدير أن كل إنسان مهدور لديه فرصة طيبة كي يجد من ضمنها وسيلة أو أكثر للتعامل مع شرطه الوجودي الخاص به. ليس هناك حلول جاهزة ؛ إنما أدوات للتوظيف بأساليب وكيفيات نوعية تبعا لحالة كل شخص(حجازي:328).
وتمثل الكفاءة الاجتماعية الركن الرابع من أركان الاقتدار، وتتمثل في الذكاء الاجتماعي، الذي يشكل البعد المتعلق بالآخرين وتفهمهم واستيعاب حالاتهم الوجدانية ومواقفهم وحاجاتهم . يتجلى ذلك في القدرة على التواصل والتفاعل والمشاركة والقيادة الجماعية والتعاون وسواها، والروح الجماعية من أبرز عناصرها. في عصر الانفتاح العالمي على مستوى الثقافات والسياسة والإعلام والاقتصاد يتزايد وزن وأهمية الكفاءة الاجتماعية في مجال مهارات العمل والقيادة والتسيير والتفاوض والتعاقد والتعاهد.




.



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هشام شرابي المفكر الماركسي-2
- الشيوعيون سعوا لتجنب النكبة ولم ينصاعوا لموقف سوفييتي
- هشام شرابي المفكر الماركسي - الحلقة الأولى
- كيف نقلم التناقضات بين نضالات توجب التحالف والوحدة
- داخل روسيا يحسم الصراع حول أكرانيا
- متاهة قوى التغيير الاجتماعي .. مازق التحرر الوطني
- يوم الأرض في التصدي لاحتلال اقتلاعي
- يوم الأرض-1
- وحشية أميركا في العراق فاقت بكثير ما تقوم به روسيا في أكراني ...
- المسئولون عن غزو العراق مجرمو حرب يعاقبون روسيا!
- سيمور هيرش في استقصاءاته الصحفية- الحلقة الأخيرة
- سيمور هيرش في استقصاءاته الصحفية-6
- سيمور هيرش في استقصاءاته الصحفية -5
- سيمور هيرش في استقصاءاته الصحفية -4
- سيمور هيرش في استقصاءاته الصحفية-3
- سيمور هيرش في مذكرات استقصاءاته-2
- سيمور هيرش في مذكرات استقصاءاته .. -1
- التضامن الأممي ..نستثمره ام نتفيأ بظله؟
- ماذا يكمن خلف صخب الدعاية المتصاعد حول أكرينا؟
- نظام التفاهة - الفصل الثالث :: التفاهة إلهاء وإفساد – الحلقة ...


المزيد.....




- تمساح ضخم يقتحم قاعدة قوات جوية وينام تحت طائرة.. شاهد ما حد ...
- وزير خارجية إيران -قلق- من تعامل الشرطة الأمريكية مع المحتجي ...
- -رخصة ذهبية وميناء ومنطقة حرة-.. قرارات حكومية لتسهيل مشروع ...
- هل تحمي الملاجئ في إسرائيل من إصابات الصواريخ؟
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- البرلمان اللبناني يؤجل الانتخابات البلدية على وقع التصعيد جن ...
- بوتين: الناتج الإجمالي الروسي يسجّل معدلات جيدة
- صحة غزة تحذر من توقف مولدات الكهرباء بالمستشفيات
- عبد اللهيان يوجه رسالة إلى البيت الأبيض ويرفقها بفيديو للشرط ...
- 8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سعيد مضيه - هشام شرابي المفكر الماركسي-3