أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة أل التعريف : نحوية الجاحظ وشجى الصوت الكويتي .














المزيد.....

مقامة أل التعريف : نحوية الجاحظ وشجى الصوت الكويتي .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8572 - 2025 / 12 / 30 - 13:40
المحور: الادب والفن
    


عندما نغني مع رواد الفن الكويتي كعبد الله الرويشد أو عوض دوخي : (( مر ظبي سباني.. حين نظرته عشيه )) , نحن لا نبحث عن بطاقة هوية لهذا الظبي , سحره يكمن في أنه (( مرّ )) فقط , لقد جاء نكرةً , ورحل نكرةً , فاستحق أن يخلد في لحن , لو أن هذا الظبي توقف , أو كشف عن اسمه , أو صار (( معرفةً )) بموعد ومكان , لفسد اللحن , الجمال هنا يسكن في (( الغموض )) , وفي تلك المسافة الآمنة التي تفصلنا عن الحقيقة , نحن نعشق (( الظبي السبي )) لأنه مباغت , يشبه النسمة التي لا تُمسك باليد , لكنها تملأ الروح برودةً وعذوبة.

في مجلس من مجالس بغداد العباسية , حيث كان النحو ديناً والأدب حياة , وضع الجاحظ يده على واحدة من أعمق معضلات الوجود الإنساني , حين سأله النحوي أبو العباس عن (( الظبي )) أهو معرفة أم نكرة ؟ لم ينظر الجاحظ إلى (( كتاب سيبويه )) ليجيب , بل نظر إلى (( مائدة الحياة )) , وقال : (( إن كان مشوياً فهو معرفة , وإن كان في الصحراء فهو نكرة )) , وهذه ليست مجرد طرفة عابرة , بل هي دستور جمالي كامل , الجاحظ يخبرنا أن (( المعرفة )) هي القيد , هي النهاية , هي الشيء الذي فَقَدَ سرّه وأصبح تحت سيطرتنا , أما (( النكرة )) فهي الفضاء , هي الاحتمال , هي الكائن الذي لا يزال يملك حق الهرب.

من (( القطا )) إلى (( القمر)) : كيف يقتل العلم سحر الأشياء؟هذه الجدلية نجدها في كل زاوية من تاريخنا , (( القطا )) في الشعر العربي كانت رمزاً للتيه والحرية , كانت (( نكرة )) في بيداء الله , لا يملكها إلا الريح , لكنها حين تسقط في الشرك وتتحول إلى (( طير فلان )) , تفقد أسطورتها وتصبح مجرد (( وجبة )) أو (( أسير )) , حتى (( القمر )) ذلك الظبي السماوي الذي سهر معه العشاق قروناً وهم ينادونه كنكرة مجهولة تسكن العلاء , حين هبط عليه الإنسان , وعرّفه بـ(( أل )) العلم , ورسم تضاريسه , وصار (( معرفة )) جغرافية , فقد جزءاً كبيراً من هيبته الشاعرية , لقد تحول من (( نور ملهِم )) إلى (( صخرة مفسَّرة )) , وحين يقول المتنبي : (( الخيل والليل والبيداء تعرفني )) , الخيل النكرة, هي الخيل التي تجري في القصيدة , التي تمثل القوة والجموح , وهي فكرة مطلقة لا يمكن الإمساك بها ,أما الخيل المعرفة , فهي الخيل المربوطة بمرابط القصور , التي تُسجل في الدواوين وتُعرف بأسمائها وأعلافها , والفلسفةهنا : الخيل في القصيدة (نكرة) هزمت جيوشاً , لكن الخيل في الإسطبل (معرفة) هزمتها السمنة والنسيان , و هكذا حسب الجاحظ فالسر حين يحكى يصبح معرفة , اما اذا بقي خفيا في الصدر فهو نكرة , والقصيدة تصبح معرفة بعد ان تكتب على الورق ¸وتبقى نكرة وهي فكرة في خيال الشاعر الإنسان يظن أنه بالعلم يمتلك العالم , بينما هو في الحقيقة (( يعرّف )) العالم ليقتله .

مسافة البندقية هي فلسفة الاستحواذ , فإن المسافة بين النكرة والمعرفة هي (( مسافة بندقية )) , فالبندقية هي الأداة التي تحول (( الظبي الشارد )) النكرة الجميل إلى (( جثة مشوية )) المعرفة المعلومة , والتعريف هو نوع من (( القبض )) , فعندما نعرّف شيئاً نحن نضع عليه اليد , وننزع عنه حق التمرد , لذا , تظل الأغاني والقصائد مخلصة للظبي الشارد , وتتعثر أمام الظبي المعرّف بطلقة أو بقيد , لأن اللحن لا يتنفس إلا في فضاء الحرية , والمعرفة في كثير من الأحيان هي (( خنق )) لتلك الحرية .

لماذا نهرب من (( التعريف )) ؟في علم النفس , يمثل (( النكرة )) حالة الشغف المستمر , الحلم الذي لم يتحقق بعد هو حلم (( نكرة )) , لذلك هو أجمل الأحلام , بمجرد أن يتحقق الحلم ويصبح (( معرفة )) واقعية , يصاب الإنسان بما يسمى (( خيبة الأمل في الامتلاك )) , نحن نحب (( ظبياتنا )) العابرة تحت مظلات الانتظار , لأننا نسقط عليها كمال خيالنا , الظبية التي تمر أمامنا ونحن ننتظر الباص هي (( أجمل النساء )) لأننا لا نعرفها , هي نكرة تحتمل كل صفات الجمال , لكن بمجرد (( التعريف )) والاقتراب , تبدأ النقائص البشرية بالظهور, ويتحول السحر إلى واقع رتيب.

لطالما اعتبرنا قواعد اللغة حدوداً تحرس الكلام , لكنها تتحول إلى فلسفة تحرس الجمال , ينطلق هذا النص من سؤال النحويين القديم للجاحظ , ليفكك شفرة السحر في الأغنية الكويتية المعاصرة , لماذا يسرقنا (الظبي) في لحن عوض دوخي أو عبدالله الرويشد؟ الإجابة تكمن في كونه عابراً , نكرةً , وشحيحاً في الظهور , وحسب هذا الطرح , يغدو التعريف قيداً , وتصبح النكرة فضاءً للحرية , إنه نص لا يقرأ الكلمات , بل يقرأ المسافات التي تفصلنا عن الحقيقة , مؤكداً أن الفن الحقيقي هو ذلك الذي يترك الظبي شارداً في بيداء الخيال , دون أن تحوله بندقية المعرفة إلى جثة هامدة على مائدة الواقع , يمكننا أن نضيف للفكرة أن الأغنية الكويتية غالباً ما تستخدم ياء النداء مع النكرة (( يا ظبي , يا ريم )) , والنداء هنا هو استدعاء للروح لا استملاك للجسد , مما يعزز فلسفة الجاحظ بأن الكائن في الصحراء (النكرة) هو وحده الذي يستحق الانبهار.

يمكن تلخيص هذه الحالة بعبارة: نحن نغني لنبقي الأشياء نكرة , فالمعرفة اعتزال للجمال , لقد كان الجاحظ أعمق من كل النحاة , فـ (( أل )) التعريف لديه هي صك استملاك , والامتلاك هو بداية النهاية , ستظل الأغنية تحب (( الظبي النكرة )) , وسنظل نحن نبحث عن تلك الأشياء التي تمر بنا ولا تتوقف , لأننا ندرك بالفطرة أن الجمال يسكن في (( العبور )) , وأن الشيء إذا (( عُرِف )) وتوقف واستقر على المائدة , لم يعد ملهماً , بل أصبح (( مشوياً )) يشبع البطن ولكنه يُجيع الروح .

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة مابعد الغزو : السكر بخمر العذابات .
- مقامة العناد .
- المقامة السُّليمية الاستقصائية : في تَوْقِ الأرواحِ لِما وَر ...
- مقامة شجن الأنهار في أدب أليف شافاك : عندما تتحدث قطرة الماء ...
- مَقَامَةُ لِنْكُولْن وكِينِيدِي : صَدَى القُرُونِ فِي مَقَام ...
- المقامة الكنغرية : في تقلّب أحوال (( القفّازة )) .
- مقامة رسائل العجب .
- مقامة الجمل في زمن الانكشاف : سقوط الحياء .
- مقامة ساجدة الموسوي : رفيقة الحرف وسادنة الضاد .
- مقامة في انتظار الفتح : مُطارحةُ وِجْدان بين سالكٍ تائهٍ وسا ...
- مقامة غزال الرجاء .
- مقامة بلقيس .
- مقامة الوجع .
- المقامة الباراسايكولوجية في غرام الأرواح المُنقِيَة .
- مقامة الخشوف .
- مقامة الحروفية : عماد الدين النسيمي المسلوخ حياً .
- مقامة عفونة العقل : حين يموت العقل قبل الجسد .
- مقامة الفتوحات العالية .
- ألمقامة ألقَلَنْدريَّة : خمر وشمع وفراشة وبلبل ووردة .
- مقامة ألأفاعيل .


المزيد.....




- -خريطة رأس السنة-.. فيلم مصري بهوية أوروبية وجمهور غائب
- الجزيرة تضع -جيميناي- في سجال مع الشاعر الموريتاني -بن إدوم- ...
- سيمفونية-إيرانمرد-.. حين تعزف الموسيقى سيرة الشهيد قاسم سليم ...
- الممثل الأمريكي جورج كلوني وزوجته وطفلاهما يصبحون فرنسيين
- فن الترمة.. عندما يلتقي الابداع بالتراث
- طنين الأذن.. العلاج بالموسيقى والعلاج السلوكي المعرفي
- الممثل الأمريكي جورج كلوني أصبح فرنسياً
- العلاج بالموسيقى سلاح فعال لمواجهة طنين الأذن
- -ذكي بشكل مخيف-.. وصفة مو جودت لأنسنة الذكاء الاصطناعي
- أسطورة السينما الفرنسية بريجيت باردو ستدفن على شاطئ البحر في ...


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة أل التعريف : نحوية الجاحظ وشجى الصوت الكويتي .