أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - خالد محمود خدر - قراءة اجتماعية في جذور التربية العائلية وإخفاقاتها / الجزء الثالث: التربية والواقع: من الأسرة إلى المجتمع















المزيد.....

قراءة اجتماعية في جذور التربية العائلية وإخفاقاتها / الجزء الثالث: التربية والواقع: من الأسرة إلى المجتمع


خالد محمود خدر

الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 16:23
المحور: قضايا ثقافية
    


تعد الأسرة اللبنة الأولى في تشكيل الشخصية الإنسانية والقيم الاجتماعية، ومن خلالها يكتسب الفرد المهارات الاجتماعية والعاطفية الأساسية التي تؤهله للتفاعل الكفء مع محيطه.

في الوقت الذي يفترض فيه أن تبدأ التربية من الأسرة، لكنها لا تبدأ دائما كما ينبغي، ذلك أن كثيرا من أولياء الأمور أنفسهم كانوا في نشاتهم ضحايا غياب التوجيه والتربية الصحيحة، فكيف لمن لم يتلق تربية سليمة أن يربي غيره تربية أفضل، وكيف لمن لم يعرف القدوة أن يكون قدوة، وكيف لمن لم يتعلم المعنى الحقيقي للأبوة والأمومة أن يمارس هذا الدور بإخلاص ومسؤولية؟

في ظل التحولات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها العالم المعاصر، أصبحت التكنولوجيا الرقمية واقعا لا يمكن تجاهله في حياة الأفراد والأسر. ومع أن هذه التكنولوجيا تحمل إمكانيات معرفية وتنموية كبيرة، إلا أنها في الوقت نفسه تمثل تحديا تربويا وسلوكيا حقيقيا عندما تستخدم دون وعي أو تنظيم داخل الأسرة. إن الاستخدام المفرط وغير المراقب للأجهزة الرقمية من قبل الأبوين قد يفضي إلى ما يمكن التعبير عنه بتعطيل التفاعل الأسري وظهور مشكلات سلوكية لدى الأطفال وضعف جودة التفاعل بين الأجيال داخل الأسرة.

اليوم، في عصر الانترنت والعولمة والتكنولوجيا الحديثة، كم من طفل يعيش في أسرة لا يلتقي أفرادها حتى على مائدة الغداء أو العشاء. الوالدان مشغولان عن بعضهما البعض، فالأم غارقة في هاتفها النقال، والأب مشغول بالعمل طوال يومه. لا حوار في البيت، ولا وقت للتوجيه أو الاحتواء. كل ما يعرفه الطفل عن الحياة هو ما يراه على شاشات التلفاز والهاتف النقال أو ما يسمعه من أصدقاء المدرسة، فتصبح الألعاب الإلكترونية معلمه الأول، والهاتف النقال نافذته على العالم، لكنها تبقى نافذة لا تعلمه الأخلاق أو الحب أو الاحترام كما يجب، ليبقى بعدها يعيش واقعا في أسرة دون أن يشعر فيها بحوار حقيقي أو احتواء أسري. ومع مرور الزمن سيتعامل هذا الطفل مع العالم الافتراضي أكثر من تعامله مع عائلته، لتظهر بعدها عليه علامات التوتر والعزلة، تماما كما يلاحظ مع غيره الكثير من الأطفال أمثاله الذين باتوا يقضون ساعات طويلة أمام الهاتف والألعاب الإلكترونية وسط لا مبالاة الوالدين، بل فرحهم لانشغاله عنهم. هذا العالم الافتراضي الموبوء بالتوتر والعزلة بات يتكلم فيه الطفل بمفردات ولهجة غير لهجة أسرته أو حتى مدينته أو بلده، لهجة التقطها من برامج للصغار يدور فيها الحوار بين الأطفال بلغتهم ولهجتهم المحلية. طفل كهذا بات يتكلم باللهجة السورية أو المصرية أو الأجنبية أكثر أحيانا من لغته أو لهجته المحلية وفق ما يشاهده ويسمعه في عالمه الافتراضي.

يمكن القول إن أسر كهذه تمثل حصيلة زواج حمل مظهرا اجتماعيا أكثر منه مسؤولية أخلاقية وإنسانية، وأصبح الإنجاب فيها بمثابة خطوة تلقائية، وليست قرارا نابعا من وعي عميق بعظمة الأمانة. والمحصلة أن كثيرا من الأطفال اليوم لا يعيشون في أسر حقيقية، بل وسط جدران يسكنها الفراغ العاطفي والجفاء التربوي، مما يولد جيلا تائها، بلا بوصلة أخلاقية أو سند نفسي متين يواجه به تحديات الحياة. ولم تكتف الفجوة التربوية بالاتساع، بل تحولت إلى هاوية سحيقة تبتلع الكثير من القيم والأخلاق. الهاتف المحمول أصبح صديق الطفولة الأول، والشاشات معلما افتراضيا يزرع القناعات بلا رقابة، والألعاب الإلكترونية تسلب براءة العمر وقد تزرع العدوانية في حالات كثيرة في الأرواح الطرية بسبب ترك الطفل دون عناية ودون متابعة. هذه الأسر كما أشرت أصبح فيها التواصل الحقيقي مشهدا نادرا، الوالدان مشغولان في عالمهما الافتراضي، والأبناء تائهون في عوالم بلا وجوه ولا قلوب حقيقية. اختفى الحوار، وذبلت المشاعر، وتلاشت هيبة الأسرة، وصار البيت مجرد مكان للنوم والأكل، لا حضنا دافئا ولا مدرسة للقيم كما يفترض.
لاحظت إحدى الجمعيات التطوعية أن الأطفال الذين يقضون أكثر من خمس ساعات يوميا على الأجهزة الرقمية يميلون إلى العزلة والعدوانية، ويجدون صعوبة في التعبير عن مشاعرهم أو التواصل مع أقرانهم، بينما الأطفال الذين تحظى أسرهم بوقت يومي من الحوار والأنشطة المشتركة يظهرون قدرة أكبر على التحكم في العواطف وحل النزاعات سلميا.

إن إصلاح الأسرة يتطلب أولا تأهيلا علميا وتربويا لأولياء الأمور. فالتربية ليست مجرد نقل للمعلومات أو قواعد سلوكية، بل هي عملية متكاملة تهدف إلى صوغ الشخصية الإنسانية من منطلق القيم والمبادئ والثوابت الإيجابية. ومن هذا المنطلق، يتعين على الآباء والأمهات فهم أن الحب مسؤولية، وأن التربية رسالة سامية تتطلب حضورا واعيا ومستمرا في حياة الأبناء، بحيث يصبح الأب موفرا للأمان النفسي والاجتماعي، وتكون الأم مصدرا للعطاء المتوازن والموجه نحو النمو الشامل للفرد.

وفي سياق ذلك، ينبغي العمل على تهيئة الوالدين معرفيا ونفسيا لإدراك دورهما الريادي في التنشئة الاجتماعية، من خلال برامج التوعية والتدريب حول إدارة استخدام التكنولوجيا داخل الأسرة، وكيفية الحفاظ على توازن صحي بين التفاعل الأسري واستخدام الأدوات الرقمية. فمن شأن غرس القيم المفقودة، وإيقاظ الضمير الاجتماعي، وتمكين الأولياء من فهم عميق لدورهم في بناء الإنسان، أن يسهم في تحقيق تنشئة سليمة تأخذ بالاعتبار المتغيرات المعاصرة دون التفريط في الثوابت الأخلاقية والإنسانية.

إن عملية التربية الفعالة تتجاوز مجرد رعاية جسدية أو توفير احتياجات مادية، فهي تتطلب وجودا واعيا، واختيارا حكيما لاستخدام التكنولوجيا، وتواصلا إنسانيا مباشرا بين الأجيال داخل الأسرة. وهذا ما يجعل التربية مدخلا أساسيا لبناء مجتمع قوي قادر على مواجهة التحديات الرقمية والثقافية والنفسية في العصر الحديث.

كم من الضرورة بمكان أن يدرك الوالدان أن التربية رسالة مقدسة، وأن مهمة الأب أن يكون حاضنا للأمان، والأم نبعاً للعطاء المتوازن، وأن حقيقة دورهم العظيم تكمن ليس فقط في إنجاب الطفل، بل في بنائه الذي يعني بناء الإنسان والأمم. هذا الدور أصبح أكثر تعقيدا مع كثرة مصادر التأثير الرقمي والانفتاح التكنولوجي، إذ تتداخل أدوار الأسرة والمدرسة والمجتمع في التأثير على نمو الطفل وقيمه.

في هذه المهمة، لا يكفي عموما التوجيه العابر ولا الحملات الإعلامية الموسمية، بل لا بد من بناء مؤسسات تربوية واجتماعية حقيقية، يقودها أصحاب الكفاءة والرسالة من الذين يحملون هم الإنسان في قلوبهم عبر بناء العقول وتوفير التربية السليمة. وهذا يتطلب إنشاء مراكز لتأهيل المقبلين على الزواج تأهيلا نفسيا وتربويا قبل أن يكون تأهيلا ماديا، مراكز تجعل التربية مشروعا وطنيا يتبناه الجميع: الأسرة، المدرسة، الإعلام، الدولة.

إن إصلاح المجتمع لا يبدأ من الشوارع ولا من البنية التحتية، بل من الإنسان، من روحه، من فكره، من قلبه. فإذا صلح الإنسان صلح كل شيء حوله، وإذا فسد الإنسان فسد كل شيء، مهما حاولنا تجميل الواجهة الخارجية.

في إحدى الورش المجتمعية لتأهيل الآباء، لاحظ المدربون أن الكثير من المشاركين لم يعرفوا أساسيات الحوار مع الأطفال أو كيفية التعامل مع الغضب والمشاعر الصعبة، وخرجوا من الورشة وقد أدركوا أن التربية ليست مجرد واجب اجتماعي، بل رسالة مقدسة تتطلب وعيا ومثابرة يومية. في كثير من الدول المتقدمة، توجد برامج تأهيل للمقبلين على الزواج تشمل حصصا للتنشئة النفسية وفهم مسؤوليات الأبوة والأمومة، وقد أظهرت الدراسات انخفاض حالات الطلاق والنزاعات الأسرية بين المشاركين مقارنة بمن لم يخضعوا لمثل هذه البرامج.

إن بناء المجتمع يبدأ ببناء إنسان حر، واع، مسؤول، محب لأهله ولوطنه وللإنسانية كلها. وهذا البناء يحتاج إلى خطة طويلة الأمد، لا تخضع لمزاج السياسيين ولا لموجات الموضة، بل لخطة وطنية راسخة، يتعاهد عليها المخلصون جيلا بعد جيل.

فهل آن الأوان أن يبدأ كل المعنيون بهذا؟


المصادر المعتمدة:

1- طارق البكري ، الطفل والتكنولوجيا.. إيجابيات وسلبيات طارق، Volume 19, Issue 44, June 2022, Pages 151-155

2- محمد زياد حمدان ، تربية الأطفال على الإنترنت وحمايتهم من مشاكل الإنترنت والتكنولوجيا المعاصرة ، في ثقافة الأسرة والتربية.

3- جعفر حسن جاسم الطائي ،الأسرة العربية وتحديات العصر الرقمي
، مجلة الفتح للبحوث التربوية والنفسية / كلية التربية الاساسية / جامعة ديالى ، مجلد 16 عدد 4 ، 2012.

4- محمد زياد حمدان ، الأسرة مع الانترنت وتكنولوجيا المعلومات لإدارة وتقدم الأبناء والحياة الأسرية (الإرشاد والتوجيه الأسري) ،دار التربية الحديثة ، 2015.
5- إحسان محمد الحسن ، موسوعة علم الاجتماع. دار وائل للنشر، عمّان.
التنشئة الاجتماعية للطفل. عالم الكتب، القاهرة.

6- منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف).
الأطفال في العالم الرقمي. تقارير دورية.



#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة اجتماعية في جذور التربية العائلية وإخفاقاتها / الجزء ا ...
- قراءة اجتماعية في جذور التربية العائلية وإخفاقاتها / الجزء ا ...
- ثقافة الحوار والاختلاف: أساس التماسك الاجتماعي في زمن الإنتر ...
- إدارة التنوع واحترام الاختلاف: مقاربة في التعايش المجتمعي وب ...
- ادارة التنوع واحترام الاختلاف: مقاربة في التعايش المجتمعي وب ...
- أزرع نفسك في الارض التي تليق بك وتزهر إمكاناتك
- تأملات في معنى الوجود الإنساني: الحياة ليست طريقا إلى الموت ...
- العراق على حافة الفقر المائي/ الجزء الثالث : ملامح الاتفاقية ...
- العراق على حافة الفقر المائي الجزء الثاني ملف التفاوض في الع ...
- العراق على حافة الفقر المائي: العوامل الإقليمية والخيارات ال ...
- تأملات في حياة الإنسان : حين يصبح الفقدان او الخسارة طريقا ا ...
- قراءة في مشروع زكي نجيب محمود لاعادة بناء العقل العربي
- بمناسبة الحملة الانتخابية لانتخابات مجلس النواب العراقي 2025 ...
- اهمية ترسيخ الهوية الوطنية والتعايش السلمي في بناء ونهضة الع ...
- القطار الذي لا ينتظر أحدا: تأملات في سفر الحياة
- الخيانة الكبرى للنفس تكون حين يتم جعلها ضحية من أجل إرضاء ال ...
- عندما تسقط الاقنعة: دروس في الوفاء والخذلان
- ثمة مواقف من الجحود وعدم الوفاء لا تُغتَفَر
- برنامج المسامح كريم : دروس مباشرة في الاعتذار والتسامح بين ا ...
- ثقافة الاعتذار إطار حضاري لبناء الثقة واحترام الذات والآخرين ...


المزيد.....




- صيحة تأجير الملابس.. لماذا تكتسب شعبية واسعة بين جيل الألفية ...
- الجولة الأخيرة من دور المجموعات بالكان: المغرب للحفاظ على ال ...
- لـ-أسباب تقنية-.. مظلوم عبدي يؤجل زيارته إلى دمشق
- لماذا تعتبر حكومة أخنوش الأسوء في التعامل مع تنظيم الصحافة و ...
- الحكومة السورية تفتح تحقيقا بشأن مقبرة جماعية من عهد الأسد
- أمطار غزيرة تتسبب في مقتل شخصين في جنوب إسبانيا
- -خاوة خاوة- تصنع الحدث بين الجماهير الجزائرية والمغربية
- لماذا اعترفت إسرائيل بأرض الصومال؟ وما تداعيات ذلك على غزة و ...
- الطائرة الماليزية المفقودة: لماذا وقّعت شركة بريطانية عقدا ب ...
- الجرافات الإسرائيلية تقتلع أشجار الزيتون من أراضي قرية قريوت ...


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - خالد محمود خدر - قراءة اجتماعية في جذور التربية العائلية وإخفاقاتها / الجزء الثالث: التربية والواقع: من الأسرة إلى المجتمع