أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - خالد محمود خدر - تأملات في حياة الإنسان : حين يصبح الفقدان او الخسارة طريقا الى البصيرة















المزيد.....

تأملات في حياة الإنسان : حين يصبح الفقدان او الخسارة طريقا الى البصيرة


خالد محمود خدر

الحوار المتمدن-العدد: 8510 - 2025 / 10 / 29 - 08:30
المحور: قضايا ثقافية
    


كثيرا ما يجد الانسان نفسه ان وعيه لا يفتح على حقيقة ما يملك في مختلف مراحل حياته إلا بعد ان تجرده الحياة في لحظات من كل ما ظن أنه أثمن ما لديه.
ثمة لحظات في حياة الإنسان لا يفتح فيها وعيه الا حين تطفئ الحياة انوارها المألوفة من طريقه ليغمره الصمت بعد ضجيج طويل.
هناك في العتمة التي تلي الفقد (او الفقدان بكل معانيه ومضامينه من فقدان مادي او فقدان وضع اجتماعي او دنيوي او غيره) يبدأ بصر القلب في العمل، وتبدأ الروح في الرؤية و تستيقظ على حقيقة كانت غافلة عنها وسط ازدحام التفاصيل.

عندها يدرك الانسان أن الخسارة ليست نهاية الطريق بل بدايته، وانها على قسوتها احد اكثر الدروس صدقا وعمقا في مدرسة الوجود.

تقول الاديبة هدى صادق:
احيانا لا يفتح وعيك على حقيقة ما تملك الا بعد ان تجردك الحياة من أشياء كنت تظن أنها أثمن ما لديك.
كما أن وعيك احيانا لا يفتح على جوهر الحياة حتى تأتي الخسارات الكبرى كمعلم قاس، لكنها تكشف لك حجم ما يظل بين يديك وتجعلك ترى ان ما كنت تعده تفصيلا صغيرا هو في الحقيقة جوهر العيش.
حينها تصغر المصائب امام عينيك وتهون الجراح وتتعلم ان الفرح لا يقيم في كثرة الأشياء بل في قدرتك على اختيار رغباتك وعلى الاكتفاء بما يبقي قلبك دافئا.


نعم نحن نعيش زمنا يقاس فيه الإنسان بما يملك لا بما يكون.
صارت القيم تقاس بالاموال والمنازل والمناصب والعلاقات، كأن جوهر الحياة في ما يمتلكه فيها(وان جاء ذلك بأي طريقة) لا في وعي معانيها.
لكن الحياة بحكمتها الغامضة تعرف متى تقلب الموازين، فتأخذ منا ما كنا نحسبه الحياة نفسها لتعلمنا اننا كنا نتنفس في ظلاله لا في حقيقته، وان القوة التي نبحث عنها حولنا تسكن في اعماقنا منذ البداية، تنتظر فقط لحظة انكشاف او اكتشاف.

القليل قد يفهم أن الخسارة ليست نقيض الحياة بل جزء من اكتمالها ، وانها الوجه الاخر للنمو والممر الاجباري نحو نضج الانسان.
ذلك أن الالم الذي تزرعه فينا التجارب القاسية لا يأتي عبثا، انه يحرث التربة القاسية في دواخلنا لتثمر وعيا جديدا، ويكسر فينا الغرور الذي اوهمنا اننا نتحكم في مصائرنا.

الحياة لا تعطي لتكافئ، ولا تأخذ لتعاقب، بل لتعيد تشكيلنا على مقاس التجربة، لتجعلنا أكثر صدقا مع انفسنا واقل تعلقا بما قد لا يدوم او نكون ضرورة من ضرورات الحياة.

يقال ان المعلمين في الحياة نوعان: الزمن والخسارة.
الاول يعلمك ببطء، والثاني يعلمك بصفعة واحدة توقظك من غفلة طويلة.
فبعد كل سقوط يبدأ درس جديد في اعادة اكتشاف الذات: ماذا بقي مني؟ ما الذي لا تستطيع الحياة أن تنتزعه؟
وهناك في الصمت الذي يلي الالم يولد الرضا، وتبدأ الحكمة في الظهور بلا كلمات، بل بشعور غامض من الاتزان، لانك اخيرا اختبرت هشاشتك ونجوت منها.

الخسارة لا تسرقك من نفسك بل تعيدك اليها ، ولكن بعد أن تنزع عنك الزوائد التي التصقت بك باسم االامتلاك او الطموح او ضمان المستقبل او الامان او اية مغريات بمسميات أخرى في ، وتتركك امام حقيقتك الاولى ضعيفا لكن صادقا.
تتركك لا لتسقطك بل لتذكرك انك ما زلت قادرا على النهوض وتمتلك وعيا جديدا.

كم من مرة كرهنا الفقد او الخسارة ثم شكرناه بعد حين، حين اكتشفنا انه كان الطريق الوحيد لفهم ذواتنا بصدق، وان وراء كل حرمان هبة خفية لا ترى الا ببصيرة النضج.
وكثيرا ما نجد من يعبر عن ذلك بالقول رب ضارة نافعة ورب شر خير لك او ما شابه.

هكذا فإن كل ما يؤخذ منا يترك فينا بصيغة اخرى بصيرة او نضج او فهم أعمق لمعنى البقاء.
وما نراه اليوم جرحا مؤلما قد يتحول غدا الى باب يفتح لنا على حياة اصدق.

فالحكمة لا تنبت في ارض ممهدة بل في تربة سقتها الدموع وعجنتها التجارب.
لا أحد يخرج من الخسارة كما دخلها. الكل تعلم من تجربته على صعيد الظرف الشخصي أو المجتمعي ، ومن لم يتعلم من مآسيه وظروفه الصعبة لن يتعلم ابدا ويبقى صغيرا بعيون الحياة ليعيش على هامشها بلا معنى ودون هدف ودون ثقل ، ثم يغادرها نسبا منسيا.
كل فقد او لنقل خسارة يعيد ترتيب الانسان من الداخل، يبدل اولوياته ويهذب إحساسه بالأشياء.

بعد كل تجربة قاسية نصبح أقل اندفاعا واكثر انصاتا، اقل خوفا واكثر وعيا بأن ما نظنه نهاية ما هو إلا شكل جديد للحياة.

وهكذا تظل الخسارة رغم قسوتها أحد أهم دروس الحياة.
تخلع عن الإنسان وهم السيطرة وتفتح له أبواب الفهم لتقول له في صمتها العميق:
لقد كنت تملك اكثر مما ظننت، فقط كان عليك أن تخسر لتعرف.

أن الخسارة تعيد للعين بصيرتها، وتريها جمال التفاصيل الصغيرة التي كانت تتوارى خلف ضجيج الامتلاك. نعم جمال تفاصيل صغيرة مثل فنجان قهوة في هدوء الصباح، لحظة دفء مع من تحب، او ابتسامة تولد بعد ساعات تعب أو أثناءها.
كلها كانت تمر عابرة حتى جاء الفقد ليذكر أن هذه التفاصيل هي جوهر العيش لا هوامشه.
حينها تصغر المصائب في عيني الإنسان وتهون الجراح في روحه، ويتعلم أن الفرح لا يقيّم في كثرة الأشياء ، بل في قدرة الإنسان على اختصار رغباته والاكتفاء بما يبقي قلبه دافئا.

فكل ما يفقده لإنسان يعيده إلى ما هو أثمن:
نفسه ووعيه وسلامه الداخلي.
وحين يبلغ هذا الوعي يدرك ان الخسارات لم تكن لعنة بل طهرا، وان الفقد لم يكن النهاية بل بداية جديدة كتبتها الحياة بحبر الحكمة.

كما تعلمنا جميعا الظلمة دهشة الضوء ، يرينا الفقد سر الامتلاك ، ويجعلنا الجوع اكثر ادراكا لقداسة اللقمة الاولى.
فالحرمان ليس نقصا في ذاته، بل وسيلة تذكرنا بما غفلنا عن قيمته، وما اهدرناه في روتين الاكتفاء الكاذب.

وكما لا يعرف القلب طعم السكينة الا حين يتجاوز ارتجاف القلق ، لا تتضح معالم الطريق الا حين نضل عنها ونسير في العتمة وحدنا. فالمعرفة لا تولد من الاطمئنان ، بل من التيه ، من لحظة الشك التي تعيد ترتيب الادراك ، وتحرر الوعي من سكونه الطويل.
وكما لا يكتمل طعم اللقاء الا بعد الغياب، لا تنضج الحكمة الا على نار التجربة والخطأ.

هكذا، تتكشف للانسان حقيقة الوجود في جدليته الدائمة:
لا فرح بلا حزن، ولا معنى بلا فقد، ولا وعي بلا الم.
انها لعبة التوازن التي تجعل كل نقيض معلما للاخر، وكل خسارة بوابة نحو اكتشاف أعمق للذات.
فالذي ذاق وجع الحرمان وحده يعرف قيمة العطاء، والذي اختبر ظلمة القلب وحده يدرك كم هو نادر ضوء الرضا.

وهكذا يمضي الانسان، لا نحو الكمال، بل نحو الفهم.
يخرج من كل تجربة وهو اقل غرورا واكثر وعيا بان الجمال لا يقاس بما نملك، بل بما نعيشه من دهشة امام ما كان عاديا، حتى كشفه الوجع في صورته الاولى: نعمة الوجود ذاته.
يبقى اخيرا ضرورة القول ان السعادة ليست وفرة بل مهارة انتقاء وفن ان تمسك بما يبقى دون ان تثقل روحك بما يذهب.



#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في مشروع زكي نجيب محمود لاعادة بناء العقل العربي
- بمناسبة الحملة الانتخابية لانتخابات مجلس النواب العراقي 2025 ...
- اهمية ترسيخ الهوية الوطنية والتعايش السلمي في بناء ونهضة الع ...
- القطار الذي لا ينتظر أحدا: تأملات في سفر الحياة
- الخيانة الكبرى للنفس تكون حين يتم جعلها ضحية من أجل إرضاء ال ...
- عندما تسقط الاقنعة: دروس في الوفاء والخذلان
- ثمة مواقف من الجحود وعدم الوفاء لا تُغتَفَر
- برنامج المسامح كريم : دروس مباشرة في الاعتذار والتسامح بين ا ...
- ثقافة الاعتذار إطار حضاري لبناء الثقة واحترام الذات والآخرين ...
- التواضع قوة لا ضعف يكمن فيه سرّ النجاح ومحبة الناس وخلود الأ ...
- الطيبة اختيار و شجاعة في الزمن الصعب لا يراها الكثير
- في الذكرى الحادية عشرة لمذبحة قرية كوجو: الإبادة قيدت ضد مجه ...
- خراب البيوت لا يأتي من بعيد
- إصدار الأحكام على الآخرين بين وهم الفطنة وحقيقة التطفل
- في ذكراها الحادية عشر: الإبادة الجماعية للإيزيديين تظل جرحا ...
- حين أصبح اطفال الإيزيديين بضاعة رخيصة في أسواق النخاسة الداع ...
- حين تختطف البراءة بأيدي قوى الشر والظلام الدواعش ، أطفال سنج ...
- ليكن الجميع القدوة الحسنة كي لا تُختطف الأوطان والإنسان مرة ...
- التغير المناخي في العراق وأثره في تفاقم الأزمة المائية
- نيكولا تيسلا عبقري سبق زمانه وأقلق عقول الحكومات/ الجزء الرا ...


المزيد.....




- الفاشر في السودان: انفلات العنف والانتهاكات من كل عقال؟
- القطط السوداء: بين الخرافات والسحرة وعيد الهالوين
- ترمب في اليابان: اتفاق لتأمين إمدادات المعادن النادرة وجائزة ...
- رحلات الطيران المؤجلة بأميركا تلامس 7000 مع استمرار الإغلاق ...
- -أمازون- تستغني عن خدمات 14 ألف موظف
- سوريا تضبط 11 مليون قرص -كبتاغون- قادمة من لبنان
- -البنتاغون-: مقتل 14 شخصا على قوارب يشتبه في تهريبها المخدرا ...
- شبهات حول ارتباط مقتل مسيحي عراقي في فرنسا بـ -داعش-
- الرئيس اللبناني يطالب بوقف الغارات الإسرائيلية خلال لقائه أو ...
- غارات عنيفة على غزة وفانس: اتفاق وقف النار -صامد-


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - خالد محمود خدر - تأملات في حياة الإنسان : حين يصبح الفقدان او الخسارة طريقا الى البصيرة