خالد محمود خدر
الحوار المتمدن-العدد: 8519 - 2025 / 11 / 7 - 08:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الخلاصة :
يتناول المقال أزمة المياه المتفاقمة في العراق بوصفها أخطر تهديد وجودي يواجه البلاد منذ قرن، نتيجة تداخل عوامل مناخية وسياسية وإدارية. فالعراق، رغم امتلاكه نهري دجلة والفرات وعدداً من الروافد والبحيرات، يعاني من تراجع حاد في كميات ومناسيب المياه بسبب سياسات دول المنبع (تركيا وإيران ) التي أقامت مئات السدود وقلّصت الإطلاقات المائية بشكل كبير ، كما أن للتغيرات المناخية وقبلها سوء الإدارة المائية الداخلية دورا كبيرا في أزمة المياه.
خسر العراق أكثر من 70% من موارده المائية خلال العقود الماضية، ما أدى إلى جفاف الأنهار والبحيرات، وتراجع الزراعة، وتفاقم الهجرة من الريف، فضلاً عن تدهور البيئة ونوعية المياه. كما يشير المقال إلى ضعف الموقف التفاوضي العراقي الذي اكتفى باتفاقات مؤقتة بدل من اتفاقيات ملزمة، رغم امتلاكه حقوقا تاريخية وأوراق ضغط اقتصادية قوية في علاقاته التجارية مع دول المنبع.
يعرض المقال جملة من الحلول المقترحة، أبرزها وضع استراتيجية وطنية شاملة لإدارة الموارد المائية والتحلية والتخزين ، وتبني نظم ري حديثة، وزراعة محاصيل مقاومة للجفاف، و إنشاء سد احتجازي على شط العرب لمنع تغلغل المياه المالحة إليه من الخليج العربي.
أن أزمة المياه ليست مجرد أزمة تنموية أو اقتصادية، بل قضية وجودية تمس حاضر العراق ومستقبله، وتتطلب رؤية علمية موحدة وإرادة سياسية صلبة لضمان بقاء دجلة والفرات شريانَي الحياة في أرض الرافدين.
تفاصيل المقال:
بداية يأتي المقال بمناسبة توقيع العراق وتركيا يوم الأحد الماضي المصادف 2025/11/2 على الآلية التنفيذية الخاصة باتفاقية التعاون الإطارية في مجال المياه.
يمتلك العراق نهرين من أطول أنهار العالم، هما دجلة والفرات، إلى جانب عدد من الروافد الفرعية وثماني بحيرات مائية طبيعية وأكثر من 22 سدا مختلف الاحجام. جميع هذه الموارد تعرضت في السنوات الأخيرة لانخفاض حاد في مناسيب مياهها، مما دق ناقوس الخطر بشأن احتمال جفافها الكامل، ولا سيما بعد أن جف نحو تسعين في المئة من خزان سد الموصل ليصل مخزونه مؤخرا إلى أقل من مليار متر مكعب، إضافة إلى جفاف خزان سد حمرين وبحيرة الرزازة وغيرها من البحيرات والخزانات.
تعود أزمة المياه في العراق إلى مجموعة من العوامل المتشابكة، أبرزها التغير المناخي وتراجع معدلات سقوط الأمطار بشكل حاد ، وسوء إدارة الموارد المائية ، فضلا عن بناء السدود في دول المنبع، مما أدى إلى انخفاض كبير في واردات نهري دجلة والفرات وروافدهما القادمة من تركيا وإيران. كما ساهم الارتفاع غير المسبوق في درجات الحرارة صيفا في تفاقم معدلات الجفاف التي طالت الأنهار والروافد وعددا من البحيرات والمسطحات المائية، مسببة أزمة مائية وطنية متصاعدة الأبعاد.
ورغم تعدد الأسباب، يبقى انخفاض الواردات المائية من دول الجوار الدور الرئيس في هذه الأزمة، التي تتعقد أكثر بسبب غياب اتفاقيات شاملة لتقاسم المياه مع كل من تركيا وإيران، وهو ما جعل العراق عرضة لقرارات سياسية مائية أحادية من دول المنبع تمس بشكل مباشر أمنه المائي واستقراره الاقتصادي والبيئي. فكلا الدولتين لا تنظران إلى نهري دجلة والفرات وروافدهما كأنهار دولية، بل تعتبرها أنهارا داخلية عابرة للحدود، مما يعني عدم إلزامهم والتزامهم بتحديد حصة للعراق وفق مبادئ القانون الدولي.
تبرر كل من تركيا وإيران سياستهما المائية بالقول إن المياه مورد طبيعي شأنه شأن النفط الذي يستخرجه العراق ، دون الالتفات إلى القوانين الدولية وبعدها الآثار الكارثية التي ترتبت على دولة المصب النهرين وروافدهما المشتركة عبر تاريخ بلاد الرافدين، بما في ذلك مئات الفيضانات المدمرة التي اجتاحت مدن بغداد والموصل وغيرها ، أو احتمالات تعرض سدود هذه الدول المقامة على النهرين وروافدهما لمخاطر الزلازل أو عدم كفاءة التصميم والتنفيذ و غير ذلك ، ليتحمل العراق بالنتيجة مستقبلا نتائجها الكارثية في مختلف الجوانب.
تشير بيانات معهد ميديترينيان للدراسات الإقليمية إلى أن العراق فقد الجزء الأكبر من موارده المائية. ففي عام 1933 بلغت إيراداته من نهر الفرات 30 مليار متر مكعب، وانخفضت إلى 9.5 مليارات م3 عام 2021، لتصل هذا العام 2025 إلى مستويات أقل بكثير.
أما نهر دجلة فكانت إيراداته تقارب 20.5 مليار متر مكعب، وانخفضت إلى 9.7 عام 2021، وتراجعت هذا العام إلى كميات أقل بكثير ومحدودة للغاية، إذ لم يتجاوز خزن سد الموصل مليار متر مكعب قبل أسابيع قليلة، ما تسبب بداية بتوقف مشاريع مياه الشرب التي تعتمد عليه، ومنها مثلا مشاريع تغذي مخيمات النازحين في مناطق شاريا وخانك والقرى المجاورة جنوب دهوك ، وذلك انخفاض مناسيب مياه خزان السد إلى ما دون المستوى المطلوب للسحب.
يمر عبر الأراضي العراقية خمسة وأربعين رافدا مائيا ينبع من الأراضي الإيرانية ، لكن ثلاثة وأربعين منها جرى تجفيفها بالكامل عبر بناء سدود لحصاد المياه أو تحويل مجاريها باتجاه الأراضي الإيرانية ، أو جعلها مجاري لمياه الصرف غير صالحة للشرب أو الزراعة أو تربية الأسماك. ويحدث ذلك منذ خمسينيات القرن الماضي. في المقابل، خفضت تركيا أكثر من سبعين في المئة من الإطلاقات المائية الواردة إلى العراق خلال العقود الثلاثة الماضية بسبب بناء عدد كبير من السدود.
كما أسهم سوء إدارة الموارد المائية في العراق، منذ أكثر من سبعة عقود، في تفاقم الأزمة، بسبب غياب التخطيط المستقبلي في مجالات المياه والزراعة والصناعة والطاقة. فقد تراجع الدور المؤسسي في إدارة الموارد، واختفى نموذج مجلس الإعمار ، الذي أوكلت مهمته بعد زوال العهد الملكي إلى وزارة التخطيط المستحدثة ، بعد ان كان يضم خبراء ومتخصصين في مختلف المجالات ، و خصص له نسبة من عوائد النفط للاستثمار في مشاريع استراتيجية للأجيال المقبلة ، رغم محدودية الموارد المالية من النفط آنذاك ، ومنها سد دومان وسد دربندخان وناظم سامراء ومشروع الثرثار وغيرهم ، إضافة إلى اكتمال تصاميم عشرات السدود ومنها سد الموصل وسد بخمة وغيرهم.
تفاقمت ازمة المياه أيضا نتيجة تهميش الجامعات ومراكز البحوث التي كان يمكن أن تسهم في إعداد الدراسات والخطط والتصاميم، على غرار ما هو معمول به في الدول المتقدمة، فضلا عن تفشي الفساد الذي طال قطاعات مختلفة.
على الرغم من توافر الإمكانات المادية في السبعينيات والثمانينيات و طوال السنوات اللاحقة بعد عام 2003 ، فإن العراق لم يستثمر قسم من عوائد موارده النفطية في بناء سدود جديدة او مشاريع حصاد المياه وغيرها لتقليل آثار الجفاف. وتبقى مشاريع كثيرة من التي أقرها مجلس الإعمار في خمسينيات القرن الماضي غير منفذة حتى الآن. وحتى سد الموصل الذي اكتمل عام 1986 شيد في موقع غير ملائم جيولوجيا بسبب الطبقات الجبسية القابلة للذوبان في الماء، وهو ما جعله عرضة لمخاطر مستمرة تتطلب حقن أساساته بالخرسانة السريعة التصلب طوال فترة تشغيله.
هكذا يمكن القول ان الحكومات العراقية المتعاقبة مسؤولة عن أزمة المياه بسبب غياب التخطيط الاستراتيجي الصحيح في وقت يعتمد العراق فيه على موارد المياه الخارجية، حيث لا تتجاوز نسبة موارد المياه الداخلية 9%، بينما تأتي 80% من تركيا.
يبلغ عدد سدود العراق 22 سدا فقط في وقت يبلغ عدد السدود التركية المختلفة الأحجام 1250 سدا ، وعدد السدود الإيرانية 640 سد. وكلا الدولتين مستمرتين في إنشاء سدود مختلفة.
لقد صنّفت الأمم المتحدة العراق كواحد من أكثر الدول تأثرا بتغير المناخ ، إذ يفقد 404 كيلومترات مربعة من الأراضي الزراعية سنويا.
لم تضع الحكومات العراقية المتعاقبة في حسابها احتمالات استغلال دول الجوار للأنهار المشتركة بتحويلها إلى داخل أراضيها أو خزن مياهها خلف مئات السدود، كما لم تسعَ الحكومات العراقية المتعاقبة للمشاركة في تمويل تلك المشاريع لضمان حصة عادلة من المياه. وبقيت المواقف العراقية متفرجة، لتكتفي بالاحتجاج بعد اكتمال المشاريع التركية والإيرانية، رغم تحذيرات مبكرة من دراسات عالمية خلال العقود الثلاثة الماضية أكدت أن العراق سيواجه أزمة مائية حادة وان بلاد الرافدين ستكون بلا رافدين بحلول عام 2030.
اليوم تقلصت الأراضي الزراعية الصالحة إلى أدنى مستوياتها، بعد أن وجدت دول الجوار في أزمة المياه وسيلة للضغط الاقتصادي وفرصة لمقايضة المياه بالنفط، إضافة إلى تسويق منتجاتها الزراعية إلى السوق العراقية التي أصبحت تعتمد عليها بشكل كبير.
بدأت معاناة العراق مع انخفاض الواردات المائية منذ أكثر من عقدين، لكن تأثيرها تصاعد مع اقتراب تركيا من استكمال مشروع شرق الأناضول "الغاب" الضخم، إلى جانب المشاريع الإيرانية على الروافد المشتركة. ولا تقتصر الأزمة على نقص الكمية فقط، بل تشمل أيضا تدهور نوعية المياه بسبب الملوثات التي ترافق الإطلاقات من السدود، نتيجة ضعف تدفقها وتراكم الملوثات في مجرى النهر.
في هذه السنة المائية 2025 اقترب العراق من خط الفقر المائي، إذ انخفضت حصة الفرد السنوية إلى أقل من سبعمئة وستة وسبعين مترا مكعبا فقط، بعد أن كانت أكثر من ثمانية عشر ألف متر مكعب في خمسينيات القرن الماضي. وهكذا أصبحت أزمة المياه الأسوأ منذ قرن، مسببة جفاف الأنهار والاهوار وهجرة الفلاحين وتدهور الثروة السمكية والحيوانية.
ويأتي نحو 70% من موارد العراق المائية من دول الجوار (تركيا 50% وإيران 15% وسوريا 5%)، بخاصة نهري دجلة والفرات اللذين يمران عبر تركيا. علماً أن العراق، الذي يزيد عدد ساكنيه عن 45 مليون نسمة، يحصل فقط على أقلّ من 35% من الحصة التي ينبغي أن يحصل عليها من النهرين.
وتقول السلطات العراقية إن الاحتياطي المائي في السدود والخزانات الذي يقلّ عن 8% من طاقة التخزين، تراجع من قرابة 10 مليارات متر مكعّب في نهاية أيار/ مايو 2025 إلى 8 مليارات متر مكعّب في مطلع أيلول/ سبتمبر 2025.
في شهر آب الماضي أظهرت صور الأقمار الاصطناعية الحديثة لخزان سدي الموصل وقادر كرم في كركوك و بوضوح حجم الكارثة، إذ بينت أن أربعين في المئة من المسطحات المائية في سد الموصل قد جفت، فيما سجل سد قادر كرم جفافا شبه تام، ما يشير إلى تسارع خطير في التصحر وتهديد مباشر للأنشطة الاقتصادية والبيئية.
تتجسد الأزمة في سياسة تركيا وإيران المائية التي تفرض واقعا جديدا منذ عقود، يقابله ضعف في السياسة المائية العراقية التي بدت وكأنها تنتظر مقايضة الماء بالنفط. فعلى سبيل المثال، تحولت مفاوضات العراق مع تركيا من الحديث عن حصص مائية ثابتة وفق القانون الدولي إلى اتفاقات مؤقتة تقوم على دفعات لتدفقات مائية في فترة زمنية محددة، كما حصل مؤخرا حين اتفق الطرفان على إطلاق مليار متر مكعب خلال خمسين يوما فقط. هذا في حين أن الاتفاق العراقي السوري منذ فترة زمنية بعيدة ، على سبيل المقارنة، ينص على تقاسم مياه الفرات بالنسبة المئوية 58% للعراق و42% لسوريا، وهو تقاسم يضمن عدالة التوزيع ويختلف عن أسلوب الدفعات المؤقتة.
في ثمانينيات القرن الماضي كانت تدفقات دجلة والفرات تتجاوز 1000 متر مكعب في الثانية، أما الآن فالكميات التي يحصل عليها العراق تمثل أقل من ربع ما كانت عليه سابقا.
ويطرح الواقع تساؤلات عن أسباب استمرار الأزمة وعدم التوصل إلى اتفاقيات ملزمة مع دول المنبع، وعدم استخدام العراق لأوراق الضغط التجارية والاقتصادية. فحجم التبادل التجاري مع تركيا يتجاوز 20 مليار دولار سنويا، ومع إيران أكثر من 15 مليارا، بينما يبقى الميزان التجاري لصالح كلا الدولتين بنسبة تفوق 90% ، إذ يستورد العراق معظم احتياجاته من السلع الغذائية والاستهلاكية من هذين البلدين، ما يعني أن نصف موازنته المالية تقريبا تذهب إليهما دون مقابل اقتصادي او مائي متوازن.
امتد أثر الجفاف إلى جميع المحافظات العراقية ، وخاصة الوسطى والجنوبية، حتى وصل إلى شط العرب، الذي بدأت مياه الخليج المالحة تزحف شمالا عبر الشط متجاوزة مدينة البصرة، وهو تحول خطير غير مسبوق انحرمت بسبب مدينة البصرة والمناطق المجاورة من المياه الصالحة للشرب.
من الحلول الممكنة إنشاء سد احتجازي على شط العرب قرب مصبه في الخليج ليمنع تسرب مياه البحر المالحة إلى الداخل، مع تصميم يسمح بمرور السفن في أوقات محددة، وهو مشروع مطروح منذ سنوات من قبل شركات هندسية عالمية. كذلك يمكن التوسع في استخدام نظم الري الحديثة كالري بالرش والتنقيط، وتشجيع زراعة المحاصيل التي تتحمل الملوحة وشح المياه. كما يجب إعداد استراتيجية وطنية شاملة للتخزين المائي البعيد المدى، وتنظيم تشغيل السدود والخزانات وفق أساليب علمية، إلى جانب الاستثمار في تحلية المياه وحفر الآبار وإعادة تغذية المياه الجوفية خلال مواسم الأمطار.
ولا تقتصر مسؤولية الدفاع عن الحقوق المائية على الحكومة أو الدولة وحدها، بل تشمل المجتمع المدني الذي ينبغي أن يوصل صوته إلى المؤسسات الدولية للضغط على تركيا وإيران لوقف سياساتها الأحادية في إدارة الأنهار.
إن الحفاظ على مياه دجلة والفرات ليس مطلبا تنمويا فحسب، بل قضية وجودية ترتبط بتاريخ بلاد الرافدين وحضارتها. ونأمل أن لا يأتي يوم يغيب فيه نهران كانا يوما مصدر الحياة والإبداع في هذه الأرض، وأن تظل شمس العراق تعكس أشعتها على مياه الرافدين كما كانت منذ فجر التاريخ.
حكاية المياه في العراق ليست سوى فصل من رواية طويلة عن وطن أثقلته الحروب والخلافات ، لتتيه بين التهميش والقرارات المتسرعة والرؤى الضيقة. إنها مرآةٌ تعكس كيف يمكن أن تقود صناعة القرار إلى هدر الفرص وإجهاض الحلول الممكنة، وتكشف في الوقت نفسه كيف أفضت ضبابية الرؤية إلى ضياع فرص ثمينة كان يمكن أن تفتح للعراق أبواب الخروج من أزمته المائية.
ب. د. خالد محمود خدر
#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟