خالد محمود خدر
الحوار المتمدن-العدد: 8540 - 2025 / 11 / 28 - 22:03
المحور:
المجتمع المدني
التعايش المجتمعي ظاهرة لا ينبغي التنازل عنها من اجل بناء مجتمع راق ودولة متطورة مستقرة منشغلة بتحقيق التقدم ومواكبة ما يحدث من تطورات هائلة في مجالات العلم والفكر والسلوك والتربية. تكمن درجة تحضر وتمدن اي مجتمع من المجتمعات بمدى ايمانه وتطبيقه لقيم التعايش وقبول الاخر المختلف فيه (والمختلف هنا ياتي من اختلاف الدين، المذهب، اللغة، اللون والرؤى السياسية والفكرية)، والمجتمع الذي يتقبل هذه الافكار هو بالتاكيد مجتمع اكثر قدرة على الاندماج السريع وفض الخلافات، لانه مجتمع يؤمن بالقيمة الارقى بين قيم التقدم، وهي قيمة التعايش التي تمحو حالات الصراع، وتحول حالات التعصب والتطرف الى حالات تفاهم وانسجام، مما يخلق حالة من الاستقرار الدائم، وهذا بدوره يشجع على الابداع وتنمية المواهب والازدهار والرقي وبالنتيجة تقدم المجتمع.
تتميز المجتمعات المتقدمة عن غيرها بسمات عديدة، من ابرزها الانفتاح على مكوناتها المختلفة، ويرى في الاختلاف نعمة ومصدر ثراء يساعد على بروز انماط جديدة من التفكير، وفي المقابل يظهر في المجتمعات المتخلفة خطاب اقصائي يميل فيه الافراد الى رفض الراي المخالف، ويعتقد جازما ان الحقيقة واحدة ومطلقة، وغالبا ما يتصور انها الى جانبه. وتتعدد درجات فهم الناس لمفهوم الاختلاف مثلما تتعدد انعكاساته وتأثيراته.
يقول السيد فؤاد الكنجي في مقال له حول هذا، ان المجتمعات، على اختلافها، تحمل مزيجا من الايجابيات والسلبيات، وينعكس ذلك على طريقة تعاملها مع التنوع. فبدل تقبل الاختلاف، تميل كثير من المجتمعات الى رفض المختلف، لان التربية السائدة وانماط التفكير التقليدية تغرس في الافراد قناعة بان الحقيقة واحدة ومطلقة، كما اشرت، وان ما اعتادت عليه هو الصواب وحده، ليتحول بالنتيجة رفض المختلف عندما تتاح الفرصة والظرف الملائم الى صراعات او حملات مباشرة، لاسيما حين يسيطر العقل الجمعي، فيدفع الافراد الى التمسك والاتيان بمواقف وتصرفات غير مقبولة تصل حد استئصال الاخر.
هذه المواقف او التصرفات لم تاخذ سابقا حيز التطبيق في الواقع بحكم سيطرة اجهزة الدولة او عدم ملاءمة الظرف وغياب القوة التي تحركها، والتاريخ ينقل لنا هول هذه المصائب والنكبات ومضاعفاتها عندما تسخر الدولة ايضا ذلك لاجنداتها، وهو ما يخلق حالة من الغموض ويبرز حالة من التناقض والنفاق الاجتماعي والحكومي، يؤدي الى ابادة اقليات مجتمعية تختلف قوميا او دينيا عن البقية رغم انهم عاشوا وتعايشوا قرونا متداخلين او قريبين. ذلك ان منظومات التربية التقليدية والذهنيات المغلقة، كما بين الكنجي، تنتج افرادا يرفضون المختلف، بل قد يتعاملون معه كخطر ينبغي تجاوزه او عزله. وعندما تتوفر الظروف المواتية، يمكن ان تتحول هذه النزعات الى صراعات مباشرة او غير مباشرة، مما يعمق فجوات التباعد ويضعف القدرة على التعايش المجتمعي.
ان هذا النمط من التفكير هو نتيجة غياب النقد الذاتي للافراد، وهيمنة العقل الجمعي الذي يميل الى تصديق وتقديس ما اعتاد عليه واعتباره معيارا اوحد للصواب.
لقد شهد العراق، خلال الفترة التي استفحلت فيها الاعمال الارهابية اثر احتلال العراق، امثلة مؤلمة تبرهن على خطورة هذا النمط من التفكير حين ينقلب الاختلاف الى معيار للعداء، تستغله القوى المتطرفة التي تعمل لاجنداتها الخاصة، دون ان يهمها واقع ومستقبل المجتمع الذي تدعي تمثيله وتروج لافكارها فيه بالصورة التي تريدها ان يكون عليها، دون اي اعتبار لوضع اقتصادي او عمراني او انساني او غيره، ليذهب بعدها الجميع ضحية وخاصة الاقليات الدينية. فقد تعرض الايزيديون في سنجار وسهل نينوى لاستهداف قائم على الهوية الدينية فقط، لان ذهنيات تلك التنظيمات المتطرفة رات في اختلافهم سببا لابادتهم. وهذا ما حصل واقعا من قتل وسبي ونهب وحرق وتفجير الدور بالتفاصيل التي نقلتها وسائل الاعلام والتواصل في اب 2014 حين غزا الدواعش قضاء سنجار ذو الغالبية الايزيدية. ولم يكن وضع المسيحيين في بغداد والموصل وسهل نينوى بعيدا عن ذلك، اذ اضطر غالبيتهم الى ترك دورهم والهجرة تحت تهديدات مباشرة بسبب انتمائهم الديني. هذه الاحداث كشفت كيف يتحول رفض التنوع، حين يبتعد المجتمع عن قيم الحوار والاحترام، الى ممارسات تمزق النسيج الاجتماعي وتدفع فئات كاملة بعيدا عن وطنها. كما اثبتت ان غياب ثقافة الاختلاف لا يظل فكرة مجردة، بل يتحول عند اول فرصة الى سلوك يستهدف الاخر المختلف ويلغيه، مما يعمق الحاجة الى ترسيخ ثقافة التعايش بوصفها ضمانة لحماية المجتمع من الانقسام والتصدع.
تبقى النزعة الاستئصالية والخوف وكره الاخر المختلف، والتعصب للفكرة الواحدة، هي من علامات التخلف الذي لا يوصل الى شيء سوى مزيد من التخلف. ويصبح الامر سيئا الى حد السخرية حين تكون فكرة الاخر الذي ترفضه هذه المجموعة اقرب الى الصواب مما تعتقده. لا بل انه من السذاجة ان يرفض المرء، كنموذج لمجتمعه، من يختلف معه، في وقت يكون فيه الاكتفاء بالتفاعل مع من يحملون نفس افكارنا وقناعاتنا لن يحمل جديدا ولن يقدم شيئا.
ثقافة الاختلاف وتقبل الاخر هي ثقافة مهمة لبناء وتطوير اي مجتمع، وتمثل حجر الاساس في التطوير والبناء السليم بعيدا عن ثقافة تكميم الافواه وخنق الحريات والغاء الاخر او استئصاله، لانه بدون هذه الثقافة سيفقد المجتمع الكثير من الافكار المهمة التي كان من الممكن ان تسهم في النهوض بالمجتمع والدولة. يتطلب الوعي الحضاري اتاحة الفرصة للاخر للتعبير عن رايه دون اصدار احكام مسبقة، لان اختلافنا مع الاخرين يجب ان لا يقترن بهدف واد الاراء في مهدها حتى وان كانت مضامين هذه الاراء شخصية.
الاراء الشخصية تاتي من حقيقة ان ليس كل افراد المجتمع على مستوى واحد من النضج والوعي، ومن هذه الحقيقة يولد عند الانسان الاختلاف في الراي، ولكن قدر تعلق الامر مجتمعيا، فان نشاة الانسان وتوجيهه مجتمعيا عبر العقل الجمعي في علاقاته مع الاخر كثيرا ما تبنى على اساس تفكير ضيق الافق الى ابعد الحدود، ليصبح هذا المختلف مرفوضا سواء كان هذا الاختلاف قائما على اساس الجنس او اللون او الدين او اللغة. ووفق هذا يبني الانسان نحو الاخر منذ بدايات اهتمامه نظرة سلبية وهي النظرة التي ينطلق منها في الحكم على الاخرين.
ان قبول الاخر، مهما كانت ابعاد الاختلاف معه، ضرورة لا محيد عنها، وواجب لمن يريد ان يستشرف المستقبل بامان سواء على الصعيد الشخصي او المجتمعي. ويبقى الاحترام تجاه من يختلف معه لا يعني الارتماء بين احضان افكار هذا المختلف او تبني ارائه، بل يؤكد على اهمية الاقرار بوجود اخر مختلف، وفهم ان ذلك مهم واساسي حتى يتعايش الكل مجتمعيا دون خلاف ودون التقليل من الاخر ليتكامل الجميع مجتمعيا وانسانيا. وهذا يؤكد اهمية وجود مساحات من الوعي في الحوار المجتمعي، يمكن ان تشكل ارضية للتقارب الانساني، ولبناء مستويات من الفهم والتعايش ترتكز على احترام الاخر ومبادئ الحوار النزيه.
تقول البروفيسورة كريمة الشامي في مقال لها بعنوان ثقافة الاحترام قبل ثقافة الراي: نحن في زمن اصبح فيه الجميع يتحدث، قل من يصغي. صرنا نرى مناقشات تتحول الى معارك، وحوارات تفقد معناها لاننا نسينا ان الاختلاف لا يعني العداء، وان الراي لا يفرض، بل يعرض بادب. وما يصح على الفرد يصح على المجموع.
ان جوهر الحوار الحقيقي ليس ان اقنعك بما اؤمن، بل ان اسمعك بطمأنينة، وافهم ما وراء كلماتك. وليست الغاية ان يخرج احدنا منتصرا، بل ان نتقدم خطوة نحو منطقة يتسع فيها الضوء لكلا الطرفين. ففي عالم ازدحم بالدعايات والضجيج وتزييف الحقائق، يصبح التحاور فعلا من افعال الحكمة ومحاولة لاعادة الاشياء الى معناها الاول، واحياء الثقة، وتنقية المعلومة قبل ان تتحول الى سلاح يقع ضرره على الجميع.
بين الحين والآخر، نشهد من بعض المسؤولين او المتصدين للمشهد السياسي العراقي، كمثال، تبادل الشتائم والعبارات الجارحة على الهواء، وكثيرا ما لمسنا ذلك بشكل واضح في العديد من البرامج التي تعرض عبر المحطات الفضائية، مما يعكس ضعف الثقافة الحوارية واحترام الراي الاخر حتى في اعلى المراتب القيادية، ويزيد من انقسام المجتمع ويزرع الكراهية بدلا من التفاهم، وهو ما يجب العمل على تغييره على مستوى الفرد والمجتمع والسياسة. بينما كان يفترض بهم ان يتعاملوا من منطلق ان تعدد الافكار والآراء يولد طرقا ووسائل وتجديدا وتطويرا للمجتمع، لاننا جميعا مواطنون في وطن واحد، وفي عالم واحد، وانسانيتنا كما وطنيتنا تتطلب منا التحضر والرقي والاحترام والتقدير، ليتحول الاختلاف الى جسر للتواصل مع الاخر المختلف، جسر يلتقي ويتكامل عنده الجميع.
تختلف ثقافة الاختلاف وتقبل الاخر من مجتمع الى آخر من حيث تقبل النقد وتعدد الاراء، الا ان جوهر ثقافة الشخص وقيمته الحقيقية تكمن في شخصيته وسلوكه وذوقه ايضا.
من هنا، كم يتطلب من الدولة التركيز عبر مؤسسات التربية والتعليم على برامج التوعية وقيم التعايش من اجل ترسيخ هذه القيم في نفوس وعقلية الاجيال الجديدة ليكونوا مواطنين يعترفون بالاخر المختلف ويتعايشون معه.
ان حالة التنوع التي تعيشها الكثير من المجتمعات في العالم ليست مشكلة او معضلة تواجه الدول، بل المشكلة تكمن في ادارة هذا التنوع. فاذا لم تنجح الدولة في ادارة هذا التنوع، فان الامر قد يصل الى مستويات عالية من الصراع والتصدع والعنف المجتمعي. لذلك يجب التركيز في مؤسسات التربية والتعليم على برامج تهدف الى ترسيخ قيم التعايش في نفوس الطلبة والشباب ليكونوا مواطنين يعترفون بالاخر المختلف ويتعايشون معه بما يضمن المساواة معه.
التعايش المجتمعي فن، وعلى الدولة ادراك قيمة هذا الفن والعمل على تطويره لخلق بيئة اجتماعية تتنوع فيها التعددية الدينية والقومية والطائفية والجنس والانحدارات الاثنية والاختلاف الثقافي. وهذا ما يوحد الدولة ويمنع اي انقسام في وحدتها التي تزدان بتنوع اطيافها والوان مجتمعاتها.
تعد ثقافة الاحترام في الحوار المجتمعي والفردي حجر الزاوية في بناء مجتمع متحضر ومزدهر. فمن خلال ترسيخ هذه الثقافة في مختلف مجالات الحياة ينبغي علينا جميعا العمل على نشر قيم الاحترام في حياتنا اليومية، وان نكون قدوة للاجيال القادمة. وهذه الثقافة لا تتطلب اكثر من الاصغاء للاخرين باهتمام، وتقبل وجهات النظر المتنوعة. وعندما يشعر الجميع بان صوتهم مسموع، تبدأ ثقافة الاحترام المتبادل بالازدهار ويبدأ المجتمع بالتقدم والازدهار حضاريا واقتصاديا وعلميا عبر مواكبة التطورات في العالم.
المصادر المعتمدة:
1. أمنشار، نعمان.
ثقافة الاختلاف.. تلاقح الأفكار والآراء سبب ازدهار الأمم!" الجزيرة نت. 27 فبراير 2018.
https://www.aljazeera.net/blogs/2018/2/27/ثقافة-الاختلاف-تلاقح-الأفكار-والآراء.
2. الشامي، كريمة.
ثقافة الاحترام قبل ثقافة الرأي ، فيسبوك. تاريخ الاطلاع متروك للباحث.
https://www.facebook.com/share/p/1KZmZxJoPf/.
3. الربيعي، مشتاق.
احترام الرأي وتقبل الرأي الآخر ، الحوار المتمدن. 17 أغسطس 2025.
https://m.ahewar.org/s.asp?aid=881343&r=0&cid=0&u=&i=14222&q=.
4. عبدالله، سوسن.
استطلاع رأي… ثقافة الاحترام. منتدى الكفيل – العتبة العباسية. 4 نوفمبر 2025.
https://forums.alkafeel.net/node/1054642.
5. ختاري، داود مراد.
جينوسايد الإيزيدية آب 2014 ، دهوك: مركز بيشقجي للدراسات الإنسانية، جامعة دهوك، 2019.
6. جبر، وليد عبدالحسين.
حاجتنا إلى ثقافة الاحترام ، الحوار المتمدن، العدد 8485. 4 أكتوبر 2025.
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=887846.
7.عبدالخالق منصور ، الاختلاف الهادف.. كيف نرتقي بثقافة مجتمعاتنا؟
https://www.aljazeera.net/blogs/2018/9/20/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D9%84%D8%A7%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%81-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%86%D8%B1%D8%AA%D9%82%D9%8A-%D8%A8%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9
#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟