أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عادل الدول - الذكاء الاصطناعي وزعزعة اليقين: بين انهيار الدليل وإعادة بناء العدالة















المزيد.....

الذكاء الاصطناعي وزعزعة اليقين: بين انهيار الدليل وإعادة بناء العدالة


عادل الدول
كاتب

(Adil Al Dool)


الحوار المتمدن-العدد: 8568 - 2025 / 12 / 26 - 17:12
المحور: قضايا ثقافية
    


ما كان اليقين يومًا مجرد فكرة مجردة، بل كان دائمًا نسيجًا مركبًا من الثقة في حواسنا وطمأنينتنا إلى الوسائط التي تثبت الواقع وتنقله. لعقود مضت، استندنا إلى الصورة والوثيقة والشهادة والتسجيل المرئي كأركان تُسكن الشك وتجعل العالم قابلاً للفهم والحكم. لكننا اليوم نقف على حافة زلزال معرفي يهز هذه الأركان من أساسها.

لقد جاء الذكاء الاصطناعي، وتحديدًا تقنيات التزييف العميق، ليفعل أكثر من مجرد تشويش أدوات المعرفة؛ جاء ليهدم مفهوم الدليل ذاته. نحن لا نواجه أزمة صدق عابرة، بل نعيش أزمة يقين وجودية تمسك بتلابيب عصرنا.

السقوط المدوي للدليل
في الماضي، كان الشك يدور في فلك التأويل:

هل الصورة معبرة بدقة؟

هل الشهامة متحررة من التحيز؟

هل الوثيقة أصلية أم مزورة ؟

أما اليوم، فقد اخترق الشك لبَّ الوجود نفسه:

هل التُقطت هذه الصورة أصلًا؟

هل نُطق بهذا الصوت خارج الذكاء الاصطناعي؟

هل وقع هذا الحدث أم هو محض خيال خوارزمي؟

بهذا التحول، لم يعد "التزييف العميق" تقنية احتيال متطورة فحسب، بل تحول إلى قوة أنطولوجية تشكك في وجود الواقعة نفسها. صار بإمكاننا إنتاج واقع بلا أصل، وأثر بلا حدث، وذاكرة بلا تاريخ. وهنا تكمن الكارثة الحقيقية: عندما يفقد الدليل مصداقيته، يتصدع أساس القضاء والسياسة والتاريخ، بل والأخلاق نفسها.

إشكالية التحقق: عندما يصبح الداء هو الدواء
وتتعقد المعضلة عندما ندرك أن أدوات كشف التزييف تعتمد هي نفسها على الذكاء الاصطناعي، مما يخلق حلقة مفرغة من الشك واليقين الزائف. فكثيرًا ما نجد أنفسنا أمام معضلة معرفية عميقة:

كيف نثق بأداة كشف التزييف التي تستخدم نفس التقنيات التي صنعت التزييف؟

من يتحقق من أدوات التحقق نفسها؟

ألا نقع في فخ الاعتماد على نظام يخلق المشكلة ويقدم الحل في نفس الوقت؟

هذه الديناميكية تخلق سوقًا جديدًا لـ"بيع اليقين"، حيث تصبح الشركات التي تطور أدوات الكشف هي الحَكَم في مسألة الحقيقة والزيف، مما يثير تساؤلات خطيرة حول تركيز السلطة المعرفية في أيدي جهات محدودة.

فجوة تشريعية خطيرة: العبث في منطقة محايدة
وتتفاقم الأزمة مع الفجوة التشريعية الهائلة التي نعيشها، حيث تسبق التقنية التشريع بسنوات ضوئية. نحن نتحرك في منطقة رمادية خطيرة:

غياب الأطر القانونية الواضحة التي تحدد المسؤولية عن التزييف واستخدامه

عدم وجود معايير عالمية موحدة لتنظيم تطوير ونشر تقنيات التزييف العميق

ضعف آليات المساءلة عندما يتم استخدام هذه التقنيات للإضرار بالأفراد أو المؤسسات أو الدول

التباين الشديد بين الدول في التعامل مع هذه القضية، مما يخلق ملاذات آمنة لمن يريد إساءة الاستخدام

هذه الفجوة التشريعية تحول الفضاء الرقمي إلى "الغرب المتوحش" الجديد، حيث القوي يفرض روايته والضعيف يدفع الثمن.

قيم جديدة في عالم ما بعد اليقين
كل ثورة تقنية تخلق منظومة قيمها الخاصة، والذكاء الاصطناعي يفرض علينا اليوم قيماً تحولت إلى بديهيات:

سطوة الاحتمال على الحقيقة المطلقة: لم تعد الحقيقة قيمة ثابتة، بل تحولت إلى درجة ترجيح إحصائية. السؤال الجوهري لم يعد "هل هذا صحيح؟" بل "ما نسبة صحته؟". منطق رياضي بارد قد يكون فعّالاً تقنيًا، لكنه خطير أخلاقيًا عندما يُطبق في محاكم الإنسان.

انتقال الولاء من البشر إلى الأنظمة: الشاهد البشري يتراجع لصالح الخوارزمية والسجل الرقمي والنظام المؤتمت. الثقة لم تعد عقدًا بين البشر، بل صارت اتفاقية مع كيان لا يسأل عن ضميره.

تبخر المسؤولية الفردية: في فضاء التزييف اللامتناهي، تتوزع المسؤولية بين المطور والمستخدم والنموذج والمنصة، حتى تكاد فكرة "الذنب الشخصي" تذوب في ضباب المشاركة الجماعية.

هيمنة الحوكمة على الضمير: يحل السؤال الإداري "هل هذا مطابق للإجراءات؟" محل السؤال الأخلاقي "هل هذا عادل؟". وهكذا تتحول العدالة من قيمة إنسانية نبيلة إلى عملية تنظيمية جافة.

إعادة اختراع اليقين: مهمة عصرنا المصيرية
العودة إلى يقين ما قبل الذكاء الاصطناعي ضرب من الوهم، لكن الاستسلام للعدمية خيانة للمستقبل. المخرج ليس في الحنين إلى الماضي، بل في إعادة تعريف اليقين نفسه:

من يقين النتيجة إلى يقين المنهج: اليقين الجديد لا يعلن "هذه الحقيقة نهائية"، بل يقول "هذه النتيجة خضعت لمسار تحقق شفاف وقابل للمراجعة". الحقيقة تُبنى بالطريقة، لا بالنتيجة.

من الدليل المنفرد إلى شبكة الأدلة: في عصر التزييف، لا يعول على دليل وحيد. يجب أن يقوم اليقين القضائي على تلاقي الأدلة والنسيج الكلي للواقع والسياق الزمني والسلوك الرقمي - كل تلك العناصر التي لا تُجيد الخوارزميات استيعابها كاملة بعد.

الإنسان كحارس أخير للضمير: الذكاء الاصطناعي قد يبرع في التحليل، لكنه يعجز عن تحمل المسؤولية الأخلاقية أو استيعاب المعنى الإنساني للعدالة. دور الإنسان لن يختفي، بل سيتحول من قاضٍ للوقائع إلى حارس للمنهج وحدود الاستخدام.

نحو تشريعات عابرة للحدود
الحل يبدأ بالاعتراف بأن التحدي عالمي ويتطلب استجابة عالمية:

إطار تشريعي دولي ينظم تطوير واستخدام تقنيات التزييف

هيئات رقابية مستقلة للإشراف على أدوات التحقق والكشف

تحديد المسؤوليات القانونية بوضوح عبر سلسلة القيمة الكاملة

تعزيز الشفافية في تطوير ونشر هذه التقنيات

حماية الضحايا وإنشاء آليات فعالة للتعويض والإنصاف

الصحوة قبل الفوات
نعيش لحظة تاريخية فاصلة تنتقل فيها البشرية من مقولة "أراه، إذن هو حقيقي" إلى مقولة "أفهم كيف صُنع، إذن أستطيع الحكم عليه". اليقين لم ينقرض، لكنه صار مكلفًا معرفيًا، وأثقل أخلاقيًا، وأكثر هشاشة.

الخطر الأكبر لا يكمن في أن الذكاء الاصطناعي قد يضللنا، بل في أن نعتاد الحياة بلا يقين... وبلا عدالة. هذه الصحوة التي ندعو إليها ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية في عصر يغيب فيه اليقين وتتأرجح فيه العدالة على حافة الهاوية.

اليقين الجديد يطلب منا جهدًا مضاعفًا: جهد الفهم، وجهد المراقبة، وجهد المساءلة. وهو دعوة لأن نكون أكثر وعيًا، أكثر تشككًا، وأكثر التزامًا بإنسانيّتنا في عالم تزداد فيه الآلات ذكاءً وتزداد فيه الحقيقة غموضًا.



#عادل_الدول (هاشتاغ)       Adil_Al_Dool#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وثيقة بقاءٍ كتبتها امرأةٌ
- المثقفون… حين يتحوّل الاختلاف إلى خصومة
- كيف نحمي أنفسنا من الأشخاص السامّين دون أن نفقد إنسانيتنا
- الكارثة المعرفية الراهنة..كيف تُصاغ قناعات الناس؟
- الصغير يعلم الكبير - تحول المعرفة يهز أركان المجتمع العربي
- الحرب كنموذج عمل: كيف تحولت الصراعات إلى آلة للربح المستدام
- في انتظار أن يصبح سببًا
- الحسد: رحلة الشعور الأزلي من الأسطورة إلى الخوارزمية
- أنت والحظ: حين تنحرف المعادلة عن قوانينها
- المأزق الثقافي العربي: بين العجز والنهوض
- الألم... ميلادٌ لا ينتهي
- العصر الأسود: أغنية الشاشات المغلقة
- العراق: هشاشة الدولة وأزمة الهوية الوطنية
- سجون عقولنا غير المرئية: كيف تُديرنا معتقدات الطفولة القديمة ...
- التغيير الإيجابي والمستدام: في معنى التكيّف الهوياتي
- البشتون وإسرائيل: بين الأسطورة التوراتية وأدوات المشروع السي ...
- عندما يُشلّنا الخوف من الخطأ: من تبرير النية إلى امتلاك الأث ...
- هل يحتاج العالم العربي إلى ديمقراطية... أم إلى رؤية جديدة لد ...
- قانون جانتي: يُقلّل من الحسد الطبقي، ويُعزّز التماسك الاجتما ...
- هوليوود تُعيد كتابة سرديّتها: حين يكسر النجوم صمتهم عن فلسطي ...


المزيد.....




- تركيا تعتقل 115 مشتبها بانتمائهم لتنظيم -داعش-.. ومزاعم بتخط ...
- -لن نضيع يوما واحدا-.. الرئيس الأوكراني يكشف عن موعد لقائه ا ...
- إسرائيل أول دولة تعترف رسمياً بـ-صومالي لاند- كدولة مستقلة و ...
- السلطات الفرنسية تفتح تحقيقا قضائيا ضد موقع بريطاني لتسويق د ...
- من الموصل إلى واشنطن.. حصاد الوثائقيات الأبرز في 2025
- هآرتس: إسرائيل ستفشل في إخفاء ما جرى في غزة
- تجدد الاشتباكات بين تايلند وكمبوديا رغم محادثات التهدئة
- ضباط من المخابرات الإسرائيلية يكشفون أسرار اختراقهم في الساب ...
- عاجل | اليونيفل: إطلاق نار من رشاشات إسرائيلية وانفجار قنبلة ...
- -ما وراء الخبر- يستعرض التباين بين واشنطن وتل أبيب بشأن المر ...


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عادل الدول - الذكاء الاصطناعي وزعزعة اليقين: بين انهيار الدليل وإعادة بناء العدالة